لنتذكّر في ذكرى الهجرة

 

لقد كان نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر، أعظم كسْب حصل عليه منذ بدأت الدعوة إليه. فلم تكن الهجرة تخلصاً من الفتنة والاستهزاء فحسب، بل كانت تعاوناً عامّاً على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن.

إن الهجرة ليست انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناءٍ، ولا ارتحال طالبِ قوتٍ من أرض مُجْدِبة إلى أرض مُخصبة. إنها إكراه رجل آمِنٍ في سِرْبه، ممتد الجذور في مكانه، على إهدار مصالحه، وتضحيته بأمواله وبكل شيء في سبيل الله

اجتمع طواغيت مكة في دار النّدوة ليتّخذوا قراراً حاسماً يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من اللحاق بأصحابه الذين سبقوه إلى يثرب، فرأى بعضهم أن توضع القيود في يديه ويُشدَّ وَثاقه، ويُرمى به في السّجن لا يصل إليه منه إلا الطعام، ويُترك على ذلك حتى يموت. ورأى آخر أن يُنفى من مكة فلا يدخلها، وتنفضَ قريش يديها من أمره...

واستقرّ الرأي على الاقتراح الذي أبداه أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل بطن من بطون قريش شاباً وسطاً فتيّاً. ثمّ نعطي كل فتى سيفاً صارماً، ثمّ يضربوه جميعا ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل كلها.

أوحى الله تعالى إلى رسوله بما دبّروا من كيد، وأذِن له بالهجرة إلى المدينة.

ونحن لا نعرف بشراً أحق بنصر الله، وأجدر بتأييده مثل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لقي في جنب الله ما لقي. ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعني التّفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه وتوفير وسائله. فأحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطة هجرته، وأعدّ لكل فرض عُدّته.

وهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جرت على هذا الغرار. فقد استبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم معه علياً وأبا بكر، وأذِن لسائر المؤمنين بتقدّمه إلى المدينة. أما أبو بكر فقد اختاره ليكون صاحبه في الهجرة.

وأما علي رضي الله عنه فقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخلّف حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته!.

وقد كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرار مسيره. فلم يُطْلِع عليها إلا من لهم صلة ماسّة بها. وقد استأجر عبد الله ابن أريقط وهو دليل خبير بطريق الصّحراء –مع أنّه مشرك- ليستعين بخبرته على مغالبة المطارِدين.

واتفق مع أبي بكر على تفصيلات الخروج، وتخيّرا الغار الذي سيأويان إليه في بداية هجرتهما، تخيّراه جنوباً لتضليل المطارِدين، وواعدا فيه ابن أريقط بعد ثلاث ليالٍ بعد أن سلّماه راحلتيهما لعلفها وتجهيزها للسفر، وحددا الأفراد الذين سيتصلون بهما في أثناء اللجوء إليه، ومهمّة كل فرد منهم. فكانت مهمّة عبد الله ابن أبي بكر أن يأتيهما بأخبار قريش في غفلة منها.

وهذا عامر بن فهيرة يرعى غنم أبي بكر نهاراً فإذا أمسى مرّ عليهما في الغار ليحتلبا ويذبحا، ثم سار بغنمه مُتتبّعاً آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر ليَمْحوها. وأوعز رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك إلى عليّ رضي الله عنه أن يرتدي بُرْدَهُ الذي ينام فيه، وأن يتسجّى به على سريره. فنرى علياً الشابّ القويّ الإيمان، يستجيب لطلب رسول الله، ويفدي قائده بحياته. فحسبه أن يَسْلَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان نجاح هؤلاء الأصحاب في مهمّتهم جزءاً من نجاح هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وانطلق مشركو مكة في آثار المهاجرين يرصدون الطّرق، ويُفتّشون كل مهرب، حتى وصلوا قريباً من غار ثور، وأنصت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى أقدام المطاردين تخفق إلى جوارهم، فهمس أبو بكر يُحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. فقال الرسول عليه الصّلاة والسّلام: "يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما". رواه البخاري ومسلم.

وقال تعالى: }إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إنّ الله معنا. فأنزل الله سكينته عليه وأيَّدَهُ بجنودٍ لم تَرَوها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى. وكلمةُ الله هي العليا. والله عزيز حكيم{. التوبة:40.

وجاء ابن أريقط في موعده ومعه الرّواحل، وسار الرّكب على اسم الله.

ومن الجدير ذكره أن سُراقة بن مالك هو الوحيد الذي استطاع أن يقترب من رسول الله وصاحبه في أثناء هجرتهما. إلا أن فرسه ألقته عنها مرات عدة قبل أن يصل إليهما. فعرف أنّه لن يستطيع الوصول إليهما، فطلب من الرسول الكريم أن يعفو عنه، وعرض عليه الزّاد والعون، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عَمِّ عنا الطلب" فقال: قد كُفيتم، ثم رجع فوجد النّاس جادّين في البحث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه وقد جعلت قريش مئتين من الإبل لمن يأتي بهما فجعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا ردّه وهو يقول: كُفيتم هذا الوجه (أي لا يوجد أحد منهما في هذا الطّريق)... يا سبحان الله، أصبح أول النّهار جاهداً عليهما، وأمسى آخره حارساً لهما...

*الوصول إلى المدينة

ولما سمع الأنصار بمخرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إليهم، كانوا يخرجون كل يوم بعد صلاة الصّبح حتى تغلبهم الشمس على الظّلال.

وفي اليوم الثّاني عشر من ربيع الأول لثلاث عشرة سنة من البعثة، برز الأنصار على عادتهم، ووقفوا بظاهر المدينة ينتظرون طلعته ويودّون رؤيته. فلمّا حميت الظّهيرة وكادوا ييأسون من مجيئه... وصل النبي صلى الله عليه وسلم فأسرع الأنصار إلى السّلاح يستقبلون به رسولهم صلى الله عليه وسلم.

وقالوا: اركبا آمنَيْن مطاعَين، فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وحفّوا دونهما بالسلاح. رواه البخاري.

يا عجباً لنقائض الحياة واختلاف النّاس!! إن الذي شَهَرت مكة سلاحها لتقتله، ولم ترجع عنه إلا مقهورة، استقبلته المدينة وهي طروب، وتنافس رجالها يعرضون عليه المَنَعة والعُدّة والعدد... وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الدعائم التي لابدّ منها لقيام رسالته. وتبين معالمها في الشؤون الآتية:

1- صلة الأمة بالله تعالى: "المسجد"

2- صلة الأمة بعضها ببعض: "الأخوة"

3- صلة الأمة بمن لا يدينون دينها.

1- المسجد:

بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بناء المسجد. فإنّ للمسجد في الإسلام دوراً كبيراً... فهو مدرسة للعلم يتخرّج فيها دعاة الإسلام الذين يحملون دعوتها لينشروها في أرجاء المعمورة. ومنه تُوجَّه الجيوش لتأديب المعتدين. وفيه أيضاً تُعقد مجالس الشّورى، وتبحث مشكلات المسلمين.

2- الأخوّة:

أما صلة الأمة بعضها ببعض فقد أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم على الإخاء الذي تُمحى فيه كلمة "أنا" ويتحرّك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها، فلا يرى لنفسه كياناً دونها، ولا امتداداً إلا منها.

ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام. وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.

وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوّة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع مثال.

حَرَصَ الأنصار على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين، فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقُرعة (لشدّة تنافسهم في استقبالهم)!! وقدّر المهاجرون هذا البذل الخالص فما استغلوّه، ولا نالوا منه إلا بقدر ما يتوجّهون به إلى العمل الشّريف.

فما أحوجنا اليوم، نحن المسلمين، إلى استيعاب هذا الدرس في الأخوّة الإسلاميّة التي افتقدناها بسبب الأثَرة والشّحّ، فتمزّقنا شرَّ ممزّق، وسيطر علينا من كان خاضعاً لنا، وصار بأسنا شديداً بيننا، فهُنّا على أعدائنا، وأصبحنا فريسة عاجزة تُغري كل مُعتدٍ بالعدوان، وتشجّع كل طامع في استلابنا، ومن هانت عليه نفسه فهي على غيره أهون.

3- صلة المسلمين بغيرهم:

عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وَجَدَ بها يهوداً توطّنوا، ومشركين مستقرّين. فلم يتّجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة أو الخصام، بل قَبِلَ –عن طيب خاطر- وجود اليهود والوثنيّة، وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الندّ للندّ، على أن لهم دينهم وله دينه، فسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الشأن قوانين السّماح والتّجاوز التي لم تُعهَد في عالم مليء بالتّعصّب والتّغالي. والذي يظنّ أن الإسلامَ دينٌ لا يقبل جوار دين آخر، وأن المسلمين قومٌ لا يستريحون إلا إذا انفردوا في العالم بالبقاء والتسلّط... هو رجل مخطئ.

لقد كانت كل بنود الوثيقة تنطق برغبة المسلمين في التعاون الخالص مع يهود المدينة لنشر السّكينة في ربوعها، وقد نصّت بوضوح على أن حق التديّن مكفولٌ لسائر الفرقاء.

وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم معنى سلوكياً للهجرة يتحلى به كل مهاجر. بمن يهجر وطنه في سبيل الله تعالى يهجر كل معصية وانحراف وخلق رديء، وإلا فهي سفر أو نزهة أو اغتراب. فقد روى البخاوي وأبو داوود والنسائي قوله صلى الله عليه وسلم:"...والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".

وسوم: العدد 738