قدوة القيادة في الإسلام 18

قدوة القيادة في الإسلام

الحلقة الثامنة عشرة :

دروس وعبر من الهجرة الشريفة إلى المدينة المنوّرة 6

د. فوّاز القاسم / سوريا

إن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الكرام إلى المدينة المنورة ، تعتبر مدرسة جامعة ، وفيها من الدروس والعبر والعظات ما يغني المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم .

ففي كل حركة من حركاتهم درس . وفي كل سكنة من سكناتهم عبرة. وفي كل قول من أقوالهم عظة .

وسنحاول في هذه الدراسة ، الوقوف على أهم هذه الدروس التي يوفقنا الله إليها :

* دروس في التضحية من أجل العقيدة والمبدأ :

لقد برزت في هجرته صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم ، نماذج من التضحية لا مثيل لها في التاريخ .  ولنقف على أهم  هذه النماذج  :

1.التضحية بالنفس :

إن من البداهة أن كل من هاجر وترك وطنه ، يكون قد ضحى بنفسه ابتداءً ، لأنه يكون بهذه الخطوة قد سلخ نفسه من صف الجاهلية ونظامها ، وانخرط في صف الإسلام ونظامه ، على ما بين النظامين من تعارض ، وعلى ما بين الصفين والخندقين من عداء .!

ولكن سأقف على أروع نماذج التضحية بالنفس من أجل العقيدة والقيادة ، وهي تضحية علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، يوم قبل أن ينام في سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على علمه بخطة المشركين لاغتياله تلك الليلة ، وهو يرى بأم عينيه اجتماع المشركين وبأيديهم السيوف على بابه ، وهم يتحينون الفرصة السانحة للانقضاض عليه ، فأي نموذج في الفداء هذا !؟  وأية تضحية هذه !؟

قال ابن اسحق : فأتى جبريلُ عليه السلام ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه . قال : فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام  فيثبون عليه ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم ، قال لعلي بن أبي طالب : (( نم على فراشي ، وتسجَّ ببردي )).

هشام1 (482 )

2. التضحية بالزوجة والولد :

قال ابن هشام : فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، واسمه عبد الله ، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة ، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الحبشة ، فلما آذته قريش ، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار ، خرج إلى المدينة مهاجراً . ولنترك لأم سلمة رضي الله عنها ، المتخصصة في رواية أحاديث الهجرة ، تقص علينا وقائع هذه الملحمة الخالدة ، قالت : لما أجمع أبو سلمة الخروج الى المدينة ، رحَّل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة في حجري ، ثم خرج يقود بي بعيره ، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، قاموا إليه ، فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتك هذه ، علام نتركك تسير بها في البلاد !؟ قالت فنزعوا خطام البعير من يده ، فأخذوني منه ، قالت : وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد ، رهط أبي سلمة ، فقالوا : لا والله ، لا نترك ابننا عندها ، إذ نزعتموها من صاحبنا.!

قالت : فتجاذبوا بُنيَّ سلمة بينهم ، حتى خلعوا يده .!!!

وانطلق به بنو عبد الأسد ، وحبسني بنو المغيرة عندهم ، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة .! قالت : ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني . قالت : فكنت أخرج كل غداة ، فأجلس بالأبطح ، فما أزال أبكي حتى أمسى سنة أو قريباً منها ، حتى مر بي رجل من بني عمي ، فرأى ما بي فرحمني،  فقال لبني المغيرة : ألا تخرجون هذه المسكينة ، فرَّقتم بينها وبين زوجها وولدها .!؟ قالت : فقالوا لي : الحقي بزوجك إن شئت . قالت : ورد بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني . قالت : فارتحلت بعيري ، ثم أخذت بُنيَّ فوضعته في حجري ، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة . هشام1 (469 )

ألا … فهل هناك أعظم ، وأروع ، من هكذا تضحية .!؟

ألا …فليسمع الرجال المهاجرون ، ولتقرأ النساء المهاجرات ، هذه الروائع الإسلامية ، لتكون لهم سلوى في غربتهم ، وأسوة في هجرتهم .!!

3. التضحية بالمال :

لقد ضحى كل المهاجرين بأموالهم ، فلم يخرج واحد منهم ، إلا خلّف أمواله كلها أو بعضها من ورائه في مكة ، وكان له لون من ألوان التضحية . ولكنني هنا سأكتفي بهذين النموذجين الرائعين ، لدلالتهما الباهرة على تقديم العقيدة والمبدأ ، عند المهاجرين ، على الأموال .!!

قال ابن هشام : وذكر لي عن أبي عثمان النهدي ، أنه قال : بلغني أن صهيباً حين أراد الهجرة ، قال له كفار مكة : أتيتنا صعلوكاً حقيراً ، فكثر مالك عندنا ، وبلغت الذي بلغت ، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك .!؟ والله لا يكون ذلك أبداً .!

فقال لهم صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي ، أتخلون سبيلي !؟

قالوا نعم . قال : فإني جعلت لكم مالي .!

قال : فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :

(( ربح البيع صهيب ، ربح البيع صهيب .!)). هشام1(477)

وهذه أسماء تحدث عن أبيها أبي بكر رضي الله عنه ،

قالت : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج أبو بكر معه ، احتمل أبو بكر ماله كله ، وكان خمسة آلاف ، أو ستة آلاف درهم ، فانطلق به معه .

قالت : فدخل علينا جدي أبو قحافة ، وقد ذهب بصره ، فقال : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه .! قالت : قلت : كلا يا أبت .!

انه قد ترك لنا خيراً كثيراً ، قالت : فأخذت أحجاراً ، فوضعتها في كوة في البيت ، التي كان أبي يضع أمواله فيها ، ثم وضعت عليها ثوباً ، ثم أخذت بيده ، فقلت : يا أبت ، ضع يدك على هذا المال .! قالت : فوضع يده عليه ، فقال : لا بأس ، إذا ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم .!

ولا والله ما ترك لنا أبي شيئاً، ولكنني أردت أن أسكّن الشيخ .!!!      هشام1 ( 488 )

فهل هناك أيها المهاجرون ، أعظم من هذه التضحية .!؟

وهل هناك أيتها المهاجرات ، أروع من هذه التربية .!؟

4. التضحية بالبيت :

ما من مهاجري ، إلا وترك بيته حين هاجر. وفي ترك بيت العائلة ما فيه من اللوعة والأسى ، يعرفه جيداً الذين خرجوا منه لزواج أو سفر مؤقت ، فكيف بمن تركه إلى الأبد .!!؟

وماذا تقولون عن الدار التي هجرها أهلها ، وجعلت الريح تخفق بأبوابها .!!؟ تعالوا معي نقرأ هذه الروائع . 

قال ابن اسحق : ثم كان أول من قدمها (أي المدينة) من المهاجرين بعد أبي سلمة ، عامر بن ربيعة ، ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة . ثم عبد الله بن جحش ، ارتحل بأهله ، وبأخيه عبد بن جحش ( أبو أحمد) وهو رجل ضرير البصر ، فغُلِّقَتْ دار بني جحش هجرةً ، فمر بها عتبة بن ربيعة ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبو جهل بن هشام ، فنظر إليها عتبة بن ربيعة تخفق أبوابها يباباً (قفرا) ليس فيها ساكن ، فلما رآها كذلك أنشد في حسرة :

وكلُّ دارٍ وإن طالت سلامتُها        يوماً ستدركها النكباءُ والحُوَبُ .

فهل يجد اليوم ، من هجر وطنه وبيته ، في هذا النص الباهر ، شيئاً من العزاء .!؟

قال ابن اسحق  وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق بمكة منهم أحد ، إلا مفتون أو محبوس .

ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم ، إلى الله تبارك وتعالى ، والى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أهل دور مسمون:  بنو مظعون من بني جمح ، وبنو جحش بن رئاب ،  حلفاء بني أمية ، وبنو البكير ، من بني سعد بن ليث ، حلفاء بني عـدي ..

فـان دورهـم غُلِّقتْ بمكة هجـرةً ، ليس فيـها ساكن .

هشام1 (499 )

5. التضحية بالعائلة كلها :

أي نوع من الدعاة كان أبو بكر رضي الله عنه !؟

لقد سخّر كل ما يملك فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخدمة لدعوته …

سخر نفسه ، وأولاده ، وأمواله ، وعبيده ، ورواحله ، وأغنامه ، لخدمة العقيدة ، وإنجاح الهجرة…

أما هو فخادم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومرافق له ، يفديه بالروح والدم والعشيرة ..

وأما أهل بيته ، ومواليه ، فقد كان لكل واحد منهم مهمة ..

فعبد الله بن أبي بكر ، لتنصّت الأخبار ، وأسماء بنت أبي بكر ، لجلب الطعام ، وعامر بن فهيرة مولاه ، لتعفية الآثار …

والرواحل للركوب ، والغنم لشرب اللبن ، والمال يستأجرون به الدليل ، ويتبلغون به على الطريق …

فهل رأيتم في الدنيا أعظم وأبرك على الدعوة من عائلة هذا الحواريّ الجليل ، رضي الله عنه .!؟

* دروس في الصحبة :

هذه المرة سنتعلم دروس وآداب وفقه الصحبة والسفر ، لكن من مشرك ، وليس من مسلم .

إنه مشرك نعم ، ولكنه عربي أصيل ، ولديه من قيم العروبة الأصيلة ما لا يتوفر اليوم ، للكثير ممن يسمّون أنفسهم عرباَ ومسلمين  ..! 

ولنستأنف مع الصدّيقة أم سلمة رضي الله عنها ، ذات الهجرتين ، في ملحمتها الرائعة ، ولقد وصلنا معها فيها ، إلى اللحظة التي أطلق الله فيها سراحها ، وردَّ إليها وليدها .

قالت : فارتحلت بعيري ، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق الله .!

قالت : فقلت : أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي .

حتى إذا كنت بالتنعيم ( موضع بين مكة وسرف ، على فرسخين من مكة) لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، أخا بني عبد الدار ، وهو يومئذ مشرك ، فقال لي : إلى أين يا بنت أبي أمية .!؟

قالت : فقلت : أريد زوجي بالمدينة . قال : أو ما معك أحد ؟

قالت : فقلت : لا والله ، إلا الله وبُنيّ هذا .

قال : والله ما لك من مترك .

فأخذ بخطام البعير ، فانطلق معي وهو يهوي بي ، فو الله ما صحبت رجلاً من العرب قط ، أرى أنه كان أكرم منه ، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ، ثم استأخر عني ، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري ، فحط عنه ، ثم قيده في الشجرة ، ثم تنحى عني ، إلى شجرة ، فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح ، قام إلى بعيري فقدمه فرحله ، ثم استأخر عني ، وقال : اركبي . فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه ، فقاده ، حتى ينزل بي .

فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة .

فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء ، قال : زوجك في هذه القرية – وكان أبو سلمة نازلاً فيها – فادخليها على بركة الله ، ثم انصرف راجعاً إلى مكة ..!!!

فكانت أم سلمة تقول : والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة ، ومـا رأيت صاحبـاً قـط كان أكـرم من عثمـان بن طلحة . هشام1( 470)

ألا ، ما أروع هذه الأخلاق .! وما أنبل هذه الشيم .! وما أعظم هذه القيم .! وما أكرم هذه النفوس .! وما أحسن هذه الصحبة .!

وتعس رجلٌ ، صحب قوماً من بلادهم ، إهراقوا دماءهم دونه ، أو لم يهرقوا ، فاستأثر عليهم بشيء يصيبُه ، ولمّا ينته جهاد عدوّهم بعد ..!!

وخاب عبدٌ ، أجهد دابّةَ حراثتهِ حتى عقرها ، ثم تخلى عنها ، بلا ماء ، ولا غذاء ، ولمّا ينته موسمُ حصادِه بعد ..!!!

* دروس في الفدائية :

من هجرة عملاق الاسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، نقف على أكثر من درس وعبرة . فبالإضافة للشجاعة والعزيمة التي ظهرت في موقف الفاروق المعروف ، فقد كان هناك درس في وجوب توخي الحذر من السقوط في أحابيل الحرب النفسية المعادية ، ودروس في الفدائية النادرة في الإسلام .

قال ابن اسحق : ثم خرج عمر بن الخطاب ، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي حتى قدما المدينة .  يقول عمر متحدثاً عن هذه الرحلة : فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء ، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام، إلى عياش بن أبي ربيعة ، وكان ابن عمّهما ، وأخاهما لأمهما ، حتى قدما علينا المدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فكلماه وقالا له : إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك ، ولا تستظل من شمس حتى تراك ، فرقَّ لها .

فقلت له : يا عياش ، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم . فوالله لو قد آذى أمك القملُ لامتشطت ، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت . قال : فقال : أبرُّ قسم أمي ، ولي هنالك مال فآخذه . قال : فقلت : والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً ، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما .

قال : فأبى عليَّ إلا أن يخرج معهما . فلما أبى إلا ذلك ، قال : قلت له : أما إذ قد فعلت ما فعلت ، فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول ، فالزم ظهرها ، فان رابك من القوم ريب ، فانج عليها .

فخرج عليها معهما . حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال له أبو جهل: يا ابن أخي ، والله لقد استغلظت بعيري هذا ، أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال : بلى .

قال : فأناخ ، وأناخا ليتحول عليها ، فلما استووا بالأرض عدوا عليه  فأوثقاه وربطاه ، ثم دخلا به مكة نهاراً موثقاً ، ثم قالا : يا أهل مكة  هكذا فافعلوا بسفهائكم ، وفتناه فافتتن .!

ثم سجنوه مع هشام بن العاصي في سجن واحد …

قال ابن هشام : ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال لأصحابه : من لي بعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاصي .!؟

فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة : أنا لك يا رسول الله بهما .

فخرج إلى مكة فقدمها مستخفياً ، فلقي امرأة تحمل طعاماً ، فقال لها:  أين تريدين يا أمة الله ؟ قالت : أريد هذين المحبوسين – تعنيهما- فتبعها حتى عرف موضعهما ، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له .

فلما أمسى تسور عليهما ، ثم أخذ مروة (حجر) فوضعها تحت قيديهما ، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما ، فكان يقال لسيفه(ذو المروة) لذلك . ثم حملهما على بعيره ، وساق بهما ، فعثر ، فدميت إصبعه ، فقال : هل أنت إلا إصبع دميت       وفي سبيل الله ما لقيت .

ثم قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة .

هشام1 (476 )

* دروس في أخلاق الدعاة والقادة وآدابهم :

لقد كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مدرسة للدعاة والقادة ، ينهلون منها من روائع الآداب العامة ، والأخلاق الربانية الفاضلة …

فقد كانت هجرته درساً في :

 1. أدب الزيارة :

فهذه عائشة رضي الله عنها تصف الأدب الجم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أصدقائه ،  فهو لا يزورهم في غير وقت الزيارة المعتاد .

قالت عائشة رضي الله عنها : كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار ، إما بكرة وإما عشية ، فهو لا يأتي في الهاجرة والقيلولة ، ولا في أوقات الراحة والنوم، فليتعلم الدعاة ذلك .!

2. وفي الإيثار :

وأي إيثار أعظم من أن يؤمّن كل إخوانه ، ويطمئن عليهم في موطنهم الجديد ، ثم يكون هو آخرهم هجرة .؟

ولنعرج على خيمة أم معبد ، لنصحب هذا الركب المبارك ، ونقتبس النور والحكمة من هذا المهاجر العظيم . 

تقول السيرة : لقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموكبه الكريم،  على خيمة أم معبد في بطن الصحراء ، والقافلة تضم :

محمد بن عبد الله سيد ولد آدم ، وأبو بكر الصديق أفضل هذه الأمة بعد نبيها ، وعامر بن فهيرة خادمهما ، وعبد الله بن أرقط دليلهما .

فسألوها لحماً وتمراً يشترون منها ، فلم يصيبوا عندها شيئاً .

فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة بكسر الخيمة ، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد .!؟

قالت : شاة خلّفها الجهد عن الغنم .

فقال:  هل بها من لبن ؟

قالت : هي أجهد من ذلك .

قال : أتأذنين لي أن أحلبها .!؟

قالت : بأبي أنت وأمي . إن رأيت بها حلباً فاحلبها .!

فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمسح بيده ضرعها ، فسمى الله تعالى ، ودعا لها في شأنها فتفاجّت عليه ، ودرّت واجترّت، ودعا بإناء ، فحلب فيه ثجَّاً حتى علاه لبنها ، ثم سقاها حتى رويت ، وسقى أصحابه حتى رووا ، وشرب هو آخرهم ، ثم أراضوا ، ثم صب فيه ثانياً بعد بدء ، حتى ملأ الإناء ، ثم غادره عندها ، ثم بايعها على الإسلام ، ثم ارتحلوا عنها…

يا لها من جامعة .! تحت سقف خيمة .! في هجير الصحراء الملتهبة .! لتدريس مادة الأخلاق الإنسانية .! وهذه هي موادها :

أدب ، واستئذان ، وتواضع ، وعبودية ، وإيثار، ووفاء ، ودعوة ، ومبايعة ..!

فهل هناك جامعة في الدنيا ، أعظم من جامعة أم معبد .!؟

وهل هناك مدرس في الوجود ، يلقي كل هذه المحاضرات في حصة واحدة .!؟

3. وفي الأمانة :

أية أخلاق ، وأية أمانة ، تلك التي يمتلكها رجل يطارده المشركون ويخططون لقتله ، فيحاصرون بيته ، ويسدّون عليه منافذ الأرض ، وهو حائر بأماناتهم التي يحتفظون بها عنده ، كيف يسددها لهم .!!؟

قال ابن اسحق : ولم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب ، وأبو بكر الصديق ، وآل أبي بكر. أما عليّ فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بخروجه ، وأمره أن يتخلف بعده بمكة ، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع ، التي كانت عنده للناس . 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه ، إلا وضعه عنده ، لما يعلم من صدقه وأمانته ..

هشام1( 485)

4. وآخر في النـزاهة :

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في القضايا المالية ، مضرب المثل في النـزاهة والترفع والعفّة .

فكان هو الذي يفضل أن يعطي أصحابه ، لا أن يأخذ منهم .

وكان يتوجّس كثيراً من أن يناله من وراء دعوته أي مكسب دنيوي..

ولقد كان مبالغاً في ذلك حتى يتعلم القادة من بعده ، فلا يتخذون من دعواتهم ، دكاكين سياسيّة ، وشركان تجارية ، للمتاجرة والربح والإثراء ، على حساب جراحات الدعاة ، ودماء المجاهدين .! 

قال ابن اسحق : فلما قرّب أبو بكر رضي الله عنه الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قدّم أفضلهما ، ثم قال : اركب ، فداك أبي وأمي .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني لا أركب بعيراً ليس لي .

قال : فهي لك يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي .

قال : لا .. ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به ؟

قال كذا وكذا ، قال : قد أخذتها به ..!

قال : هي لك يا رسول الله ، فركبا وانطلقا … هشام1 (487)

ولقد روى البخاري في صحيحه ، وأبن سعد في طبقاته 2/4 ، 4/258

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بركت ناقتُه في مربد الفلاحَين الأنصاريين ، أمر أن يُبنى ذلك الموضع مسجداً ، ودعا الفلاحَين ، وكانا يتيمين في كفالة أسعد بن زرارة ، فسام فيه ، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله ، فأبـى رسـول الله صلى الله عليه وسلم حتـى ابتاعـه منهما بعشرة دنانير. بوطي ص 193

5. وآخر في القدوة :

لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها قدوة ، فلقد ضرب أروع الأمثلة في القيادة القدوة ، وهل كانت هذه الدراسة ، إلا لإظهار جوانب القدوة الحقيقية ، في حياته الشريفة ، ليقتدي بها الدعاة والقادة من بعده .!؟ 

6. وفي محبة الإخوان والحرص عليهم :

برز ذلك في حبه لعمار بن ياسر رضي الله عنه ، قال ابن اسحق : اختلف عمار بن ياسر وأحد الصحابة الكرام ، رضوان الله عليهم جميعاً ، فتلاسنا ، فقال ذلك الصحابي لعمار : قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا بن سمية ، والله إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك .!

قال : وفي يده عصا ، قال : فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم  ثم قال : (( ما لهم ولعمار ، يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار. إن عمار جلدة ما بين عيني وأنفي )) . وذلك كناية عن حبه له ، وقربه منه …  هشام1 (497 )

وكذلك في استنقاذه لعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاصي في القصة التي وردت سابقاً، حين قال لأصحابه:

(( من لي بعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاصي .!؟ ))

فتطوع الوليد بن الوليد بن المغيرة رضي الله عنه لاستنقاذهما من سجنهما في مكة ، في أروع عملية فدائية استشهادية عرفتها تلك القرون  .!!

* دروس للنساء فقط :

لقد كان للنساء دور عظيم في مسيرة الدعوة الإسلامية في مرحلة الاستضعاف المكية .. 

فلقد كانت أول من آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة ، وهي السيدة الفاضلة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .

قال ابن اسحق : وآمنت خديجة بنت خويلد ، وصدقت بما جاءه من الله ، ووازرته على أمره ، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدّق بما جاء منه . فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم .

لا يسمع شيئاً مما يكرهه من رد عليه ، وتكذيب له ، فيحزنه ذلك ، إلا فرّج الله عنه بها إذا رجع إليها ، تثبته وتخفف عنه، وتصدقه ، وتهون عليه أمر الناس .

وكان أول من هاجر في الله على وجه الأرض من هذه الأمة ، هو عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هاجرا أول من هاجر إلى الحبشة .

ولقد رأينا الملحمة الأسطورية التي عاشتها المهاجرة الصابرة أم سلمة رضي الله عنها في هجرتها مع زوجها أبي سلمة إلى المدينة المنورة ، كما رأيناها من قبل مهاجرة إلى الحبشة ، ولقد كانت شهادتها الرائعة ، إحدى أهم الشهادات التاريخية عن تلك الرحلة المباركة .

ولقد كانت المرأة المسلمة حاضرة في بيعة العقبة ، وهي واحدة من أهم المحطات في دعوته صلى الله عليه وسلم ، والتي كان لها ما بعدها ، وغيرت وجه التاريخ..

قال كعب بن مالك يروي أحداث هذه البيعة التاريخية في حديثه المشهور : ( .. حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ، ومعنا امرأتان من نسائنا : نُسيبة بنت كعب ( أم عمارة ) ، وأسماء بنت عمرو بن عدي (أم منيع ) 

ولقد رأينا دور أسماء بنت أبي بكر ، رضي الله عنها وعن أبيها، البارز في هجرته صلى الله عليه وسلم .

فلقد ساهمت بشكل فعال في أحداث الهجرة . كما كان لها شرف تحمّل الإيذاء في سبيل الله ، ومن أجل العقيدة والمبادئ والدعوة ، وذلك يوم لطمها الفاجر الكافر ، أبو جهل ، على خدّها ، لطمة، أطارت الشرر من عينيها ، وطرحت قرطها من أُذنها.