جولة إلى قرية " الشويحية " من أجل الحصول على فاكهة الرمان من نوع السفري
ساقني مطلع شهر شتنبر ظرف خاص إلى قرية " الشويحية " بإقليم مدينة بركان ، فعاينت في بساتينها المترامية الأطراف فاكهة الرمان ، وحدثت بذلك أخوين فاضلين عن ذلك ، فاشتقا إلى زيارة هذه القرية الفلاحية رغبة في فاكهة الرمان من نوع السفري وهي أفضل الأنواع وألذها . ولا يعرف كثير من الناس عن هذا النوع الجيد سوى أنه أفضل أنواع الرمان ، ولا يشترونه قبل سؤال الباعة عنه للتأكد من أنهم إنما يحصلون عليه لا على غيره مما يسمونه نوع الوجدي أو النمري . وقد يحتال باعة هذه الفاكهة على الراغبين فيها لتسويق ما في حوزتهم منها بادعاء أنها من نوع السفري وإن لم تكن كذلك . وحقيقة تسمية هذا النوع من الرمان باسم السفري يعود إلى زمن الخلافة الأموية بالأندلس في عهد الخليفة عبد الرحمان الداخل المعروف بصقر قريش الذي فر من رصافة الشام بسبب الخوف من بطش بني العباس، وأسس خلافته في الأندلس. وحكايته مع فاكهة الرمان كما ترويها كتب التاريخ والأخبار أنه أرسل المحدث معاوية بن صالح ليأتيه من الشام بأخته المعروفة باسم أم الأصبغ ، والأصبغ في اللغة العربية هو الحصان الأبيض الناصية إلا أنها اعتذرت للمحدث عن سفرها إلى الأندلس لعجزها عن ذلك ،وأرسلت إلى أخيها هدايا تذكره بأرض الشام ، وكان من بينها فاكهة الرمان . ووزع الخليفة في مجلسه هذه الفاكهة على حاشيته ، وكان من بين الذين حصلوا على شيء منها أحد قواده هو سفر بن عبيد الكلاعي الذي ادخر نصيبه من هذه الفاكهة ، واستنبت حبها ،فحصل على شجرها ،وأخبر الخليفة بذلك فسر به أشد السرور وأثنى على فعله ، وهكذا دخلت فاكهة الرمان أول مرة إلى أرض الأندلس مع غيرها من أشجار الفاكهة والرياحين الشامية ، ومن الأندلس دخلت إلى بلاد المغرب ، وصارت تسمى فاكهة الرمان السفري نسبة للذي استنبتها . وذكر بعض المؤرخين أن أهل الأندلس اجتهدوا في تطوير هذه الفاكهة ليحصلوا على الجيد منها والمفضل في الأكل، ولا شك أن سفر الكلاعي كان قد عالج حب الرمان قبل استنباته و قيل ربما سقى جذور شجره عسلا ليحصل على أجود وألذ نوع من هذه الفاكهة التي امتنها الله عز وجل على عباده في الدنيا، وجعلها في الآخرة من فاكهة الجنة .
أعود إلى بداية حديثي حيث كنت قد أغريت الصديقين الحميمين والأخوين الفاضلين بحديثي عن رمان الكلاعي حين كان على وشك النضج في قرية "الشويحية "، وهي تصغيركلمة شيح على ما يبدو، والتصغير في اللغة العربية يكون إما للتمليح أوللتقبيح ،وما أظنه ههنا إلا تمليحا . والشيح نوع من العشب الطيب ينبت في دول حوض البحر الأبيض المتوسط ، وله رائحة طيبة و إن كان مذاقه مرا، ولكنه مع ذلك محبب يستعمل كشراب ، وهو من الأعشاب التي يتداوى بها . وربما أطلق هذا الاسم على هذه القرية لاشتهارها بهذا النوع من العشب ، وقد يكون لهذه التسمية حكاية أخرى علمها عند الله عز وجل . وعقدنا نحن الثلاثة العزم على زيارة بساتين الرمان بهذه القرية لنصيب من نوع السفري أو الكلاعي إلا أننا بعد وصولنا إليها ،وقد صادف وصولنا يوم السوق الأسبوعي فيها، فوجئنا بغياب فاكهة الرمان في سوقها إلا كمية قليلة عند أحد الباعة تبين لنا أنها ليس سفرية أو كلاعية بالرغم من ادعاء صاحبها ذلك جريا على عادة باعة هذه الفاكهة لإغراء الزبناء باقتنائها وإن كانت وجدية أو نمرية . ولا ندري سر نسبتها إلى الوجد والنمر ،والوجد في اللغة العربية إما حب وشغف أو حزن وأسى، وربما نسب نوع من الرمان إلى مدينة زيري بن عطية وجدة لوجود نوع خاص من هذه الفاكهة فيها . و أما نسبة الرمان إلى النمر الحيوان المفترس المعروف بمزاج كمزاج الأسد فسببه أن بعض فاكهة الرمان تأخذ شكل لون جلده وهو لون جميل محبوب بالرغم من شراسة صاحبه . وكل ما يعرف عن الرمان الوجدي أو النمري أنه نوع دون نوع السفري مذاقا وجودة .
ولما لم نجد ضالتها في سوق تلك القرية يممنا صوب بعض بساتينها عسى أن نجد من يبيعنا شيئا من فاكهة الكلاعي الذي سال لها لعابنا ، فوجدنا بعضهم يجنيها ويشحنا في صناديق ففرحنا بذلك إلا أنه سرعان ما شعرنا بخيبة أمل وقد رد أحدهم على طلبنا بنبرة لا تخلو من فضاضة وأخبرنا بأن المحصول من هذه الفاكهة ليس للبيع بل سيحفظ في الثلاجات ، فأدركنا للتو أن لعنة الاحتكار قد حلت بفاكهة الكلاعي ، ولم نستغرب بعد ذلك فضاضة المحتكر، ولا خلو سوق القرية الأسبوعي منها أو غيابها على طور الطريق الرابط بينها وبين بركان مدينة البرتقال . ودار بيننا حديث فيه دعابة حول فاكهة الرمان ذكرني بحديث أم زرع الذي روته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه وفيه شبهت أم زرع ثديي امرأة كانت سبب طلاقها من أبي زرع برمانتين فقالت : " خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي أمرأة معها ولدانا لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين ، فطلقني ونكحها " . وهذا أقدم نص عربي يشبه فيه ثدي الأنثى البشرية بفاكهة الرمان . وقال لي أحد الأخوين هلا التمست لك زوجة من هذه القرية لتحصل على الرمان السفري حقيقة ومجازا . وما زلنا نلتمس فاكهة رصافة الشام المنتقلة إلى رصافة قرطبة على طول الطريق من قرية الشويحية إلى مدينة بركان دون أن نجد لها أثرا حتى دخلنا سوق الخضر والفاكهة بالمدينة ،فلم نجد الرمان السفري ووجدنا الوجدي والنمري منه لأن السفري شيعه الاحتكار اللعين إلى الثلاجات ليحرم الناس من أكله طريا لذيذا قبل أن تفسده الثلاجات أو تسرطنته كما تفعل بكثير من المواد التي تحفظ فيها ،فتحوله من فاكهة فيها لذة وشفاء إلى فاكهة موبوءة . ولم نجد بدا من اقتناء الرمان الوجدي أو النمري على أمل اعتصاره لخشونة نواته وقلة لذته ،خصوصا وأن بعض الفاكهة عندنا تؤكل إذا كانت جيدة و لكنها تعصر إذا كانت غير ذلك ، وربما صاح باعتها بأنها أكلة وعصير لترغيب الناس فيها كما هو الحال بالنسبة لفاكهة البرتقال .
وعدنا من جولتنا بخيبة أمل أو بخفيي حنين لم نظفر برمان الكلاعي ، وصرت أحدث صاحبي عن كيفية تحضير عصير الرمان الوجدي أو النمري ، وكان كل حديثنا خلال جولتنا عن الرمان السفري ، كما كان حديثا ذا شجون لا يتسع المقام لبسطه في هذا المقال على أمل أن نجد مرة أخرى سبيلا إلى فاكهة صقر قريش التي أدركها زمن الاحتكار البغيض فغيبها من أسواقنا ، ولربما حفظت في الثلاجات لتجد طريقها إلى الأندلس من حيث جاءت أول مرة ، ومنها إلى بلاد الغرب كما يفعل بكل ما لذ وطاب من فاكهة وطننا الحبيب التي تيعتبر المصدرون خسارة فينا ونعمة غيرنا أولى بها منا . ولو قدر للكلاعي أن يعلم بآفة الاحتكار البغيض وهو معاملة محرمة شرعا وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحتكر لأصاب نصيبه من رمان رصافة الشام كما فعل من حضر يوم توزيعه في حضرة صقر قريش ولم يحتفظ به لاستنباته في أرض الفردوس المفقود ومن حولها . وأخيرا نقول رحم الله صقر قريش، وقائده الكلاعي المستنبت لشجر الرمان بالأندلس ،والمحدث الجليل معاوية بن صالح حامل هدية الرمان السفري إلى صقر قريش ، وأم الأصبغ شقيقة الصقر صاحبة الهدية ، وكل من غرسه في هذا الوطن الحبيب ، ولا بارك الله فيمن احتكره وأودعه الثلاجات . وما أظن أن السماء قد شح ماؤها باستمرار في زماننا وأرضنا إلا بسبب شيوع الاحتكار والغش فينا ومنع الزكاة .
وسوم: العدد 742