ماذا تعرف عن أم صلاح الدين المسيحية؟
ذكرنا في المقال السابق جانبا من صدمة المؤرخين الغربيين من فروسية صلاح الدين، لكن لم يكن هذا موقف الكل بل لقد سلك بعض الغربيين مسلكا غير نزيه في إثبات فروسية صلاح الدين، فمنهم من سلبه مكانته العسكرية ليعترف له بنبل أخلاقه كما فعل المؤرخ الصهيوني يوشع براور، والذي يكتب في تاريخ الصليبيين بغرض تمهيد الواقع للصهاينة في فلسطين[1]، فلقد بخل عن وصف صلاح الدين في الجانب العسكري قبل أن يعترف مضطرا بأخلاقه وبعبارة يبدو فيها الضيق، يقول: "كان صلاح الدين بطل التاريخ الإسلامي زعيما وقائدا عسكريا متوسط القيمة، كما كان رجل دولة موهوبا، كريما مع الصديق والعدو محبا للغير يبعث عن الثقة. وكان صلاح الدين يجسد الأخلاق الإسلامية في عيون المسلمين، فهو الزعيم المثالي للحرب المقدسة ضد الكفار"[2].
ومنهم من جعله استثناء وحيدا فدخل إلى مدحه عبر باب ذم الآخرين من قومه وأهله ومحيطه، فمن أولئك تشارلز روزبولت الذي كتب كتابا عن صلاح الدين فوضع له عنوان "صلاح الدين أمير الفروسية"، قال في مطلعه "طبقا لجميع نظريات الوراثة والبيئة كان ينبغي لصلاح الدين الكردي أن يكون قاسيا بلا رحمة، جشعا لا يبالي بغيره، طاغية متعجرف تتحكم فيه نزواته. لقد كان القوم الذين نشأ فيهم غارقين في البداوة، مقاتلين، لصوص، يحتقرون الحضارة التي تبدو عند جيرانهم الأقل بدائية، كان حكم السيف عندهم هو الحق الذي لا جدال فيه، ولا اعتبار لأي حق غير السيف..." ثم عدَّد هذا ليقول في نهاية الأمر "كان صلاح الدين فارس كل العصور، مثالي الأخلاق، مثالي السلوك، عظيم السخاء، بالغ الدماثة"[3].
ومنهم من خلط مدحا بذم، لكن ذمه المتكلف المتعسف المجانب للحقيقة لم يُخف مخايل العظمة الواضحة، وأوضح مثال على هذا ما وجدناه عند ستيفن رنسيمان في تأريخه للحروب الصليبية، إذ يقول: "يعتبر صلاح الدين من بين كبار رجال فترة الحروب الصليبية أكثرهم جاذبية. ولم يتجرد من الأخطاء، ففي سبيل الوصول إلى السلطة أظهر من المكر والقسوة ما لا يتلاءم مع ما حصل عليه من شهرة وصيت فيما بعد. لم يتردد في سفك الدماء لصالح سياسته، فأجهز بيده على رينالد شاتيون الذي كان يبغضه[4]، غير أنه لم يحمله على القسوة إلا مصلحة قومه ودينه. كان شديد التقوى، وبرغم ما أحس به من الرحمة والعطف نحو أصدقائه المسيحيين، فإنه اعتقد أن أرواحهم مصيرها جهنم. ومع ذلك احترم أساليبهم، واعتبرهم رفاقا، واختلف عن ملوك الصليبيين في أنه لم ينقض عهده متى بذل العهد لأحدهم، مهما اختلف عنه في الدين. وبرغم حماسه الديني الشديد، كان دمثا سخيا، وباعتباره غازيا وقاضيا اشتهر بالرحمة، وباعتباره سيدا كان متسامحا شديد التعقل والرزانة، ومع أن بعض أمرائه نفروا منه لأنه كردي محدث النعمة، ومع أن الدعاة في غرب أوروبا نعتوه بأنه المسيخ الدجال، فما من أحد من رعاياه لم يكن له الاحترام ويشتد تعلقا به، كما أن إعجاب أعدائه به لم يشذ عنه إلا عدد ضئيل. كان ضئيل الجسم، وفي حالة هدوئه وسكونه كست وجهه مسحة من العبوس، غير أنه لا يلبث أن يفتر ثغره عن ابتسامة عذبة، واشتهر دائما بالميل إلى البساطة، يكره الخشونة والتظاهر. أحب الهواء الطلق وهوى الصيد، على أنه كان محبا للاطلاع، ويجد متعة في المناقشات العقلية، على الرغم من تخوف المفكرين الأحرار وارتياعهم منه[5]. اشتهر صلاح الدين بالتواضع والهدوء برغم ما بلغه من سلطان وما حازه من انتصارات"[6].
وبالمجمل، فكما تقول المستشرقة الألمانية المختصة في تاريخ الحروب الصليبية كارولين هيلينبراند، "لم يحدث أن تعلقت مخيلة الأوروبيين بشخص مسلم قدر تعلقها بـ(صلاح الدين). إن تفوقه على معاصريه، من مسلمين ونصارى، أقر به أعداؤه الصليبيون، إبان حياته. وإن صورته، حتى في ظل التعصب الأعمى للعصور الوسطى، قد بقيت نقية، لا بل أضفي عليها عناصر رومانسية، في وقت كان فيه موقف أوروبا من الإسلام مزيجاً مؤسفاً من الجهل والعداء"[7].
أساطير الغربيين عن صلاح الدين
يقول ول ديورانت: " كان صلاح الدين مستمسكا بدينه إلى أبعد حد، وأجاز لنفسه [في الحرب] أن يقسو أشد القسوة على فرسان المعبد والمستشفى[8]، ولكنه كان في العادة شفيقا على الضعفاء، رحيما بالمغلوبين، يسمو على أعدائه في وفائه بوعده سموا جعل المؤرخين المسيحيين يعجبون كيف يخلق الدين الإسلامي -"الخاطئ" في ظنهم- رجلا يصل في العظمة إلى هذا الحد"[9].
تشرح الباحثة البريطانية في مقارنة الأديان كارين أرمسترونج ذلك بقولها: "وَعَي المسيحيون في الغرب بقدر من عدم الارتياح أن ذلك الحاكم المسلم قد سلك مسلكا يتوافق مع المبادئ المسيحية بخلاف مسلك محاربيهم الصليبيين لدى فتحهم أورشليم. وهكذا خرجوا بأساطير جعلت من صلاح الدين "مسيحيا شرفيا"، حتى إن بعض تلك الأساطير قالت بأنه كان قد تم تعميد صلاح الدين في السر"[10].
ويختصر المستشرق الفرنسي الشهير مكسيم رودنسون هذه الأساطير في قوله: "أثار العدو الأكبر صلاح الدين إعجابا واسع الانتشار بين الغربيين؛ فقد شن الحرب بإنسانية وفروسية، برغم قلة من بادلوه هذه المواقف... ووصل الأمر إلى حد أنه ظهرت في القرن الرابع عشر قصيدة طويلة جرى العرف على تسميتها "صلاح الدين" وأعيدت فيها صياغة حوادث الأساطير القديمة، وذلك لأن فارسا من هذا الطراز الرفيع يجب بالضرورة أن يصبح منتميا إلى الأسرة المسيحية، وهكذا قيل إن أمه هي الكونتيسة بونثيو التي تحطمت سفينتها على الساحل المصري، وأنه هو نفسه اعتنق المسيحية وهو على فراش الموت"[11].
وتفصيل هذه الرواية توردها المستشرقة كارول هيلينبراند في بحثها "تطور أسطورة صلاح الدين في الغرب"، وفيه تذكر أن كتابا مجهول المؤلف يرجع إلى القرن الثالث عشر ومكتوبا بالفرنسية القديمة عنوانه "تاريخ ما وراء البحار وأصل صلاح الدين" يذكر أن صلاح الدين "كان باسلا جدا وحكيما"، وأنه سليل عائلة بونثيو الفرنسية النبيلة، وأن صلاح الدين طلب من سجينه هيو الذي كان يحكم طبرية أن يعلمه "كيف يصبح فارساً مسيحيًا، كما أنه لما أحس بقرب أجله أرسل إلى خليفة بغداد وبطريرك القدس وحكيم اليهود كي يرسل كل منهم إليه ممثلا عن دينه، ثم أمرهم بمناظرة بعضهم ليصل إلى "أي من هذه الديانات هو الأفضل"، ولما انتهت المناظرة لم يقرر أي دين يختار لكنه قسم مملكته إلى ثلاثة أقسام، وأعطى الأفضل للمسيحيين، والثاني للمسلمين، والثالث لليهود. كذلك ظهرت رواية عن صلاح الدين في مجموعة ديكاميرون –وهي مجموعة أدبية ظهرت في منتصف القرن الرابع عشر- تروي أن صلاح الدين سأل اليهودي الذي كان يستدين منه أحيانا: أي الأديان أفضل اليهودية أم المسيحية أم الإسلام؟ ولما أجابه إجابة حكيمة أعطاه هدايا نفسية جداً، وأبقاه في مركز مرموق ومشرف، وجعله من المقربين[12].
من تلك الأساطير أيضا ما جاء في مجموعة ديكاميرون، فثمة قصة تروي كيف "أن الأمير الأكثر بسالة، (صلاح الدين)"، تنقل برفقة بعض قادته وخدمه، متنكراً في زي تاجر قبرصي على طريق (لومبارديا)، والتقى هناك برجل يدعى (توريللو)، الذي يستضيفه بحفاوة بالغة، على مدى عدة أيام. ولم يكن الحوار بينهم يمثل مشكلة، لطالما أن "(صلاح الدين) ورفاقه وخدمه يعلمون جميعاً اللاتينية". لقد صوروا بوصفهم سادة بالغي التهذيب: في الواقع، يصيح توريللو: أرجو من الله أن تنجب بلادنا سادة نبلاء على شاكلة ما أراه في تجار قبرص. ويذهب (توريللو)، في وقت لاحق، إلى الأراضي المقدسة، للمشاركة في الحملة الصليبية، لكنه يقع في الأسر، ويُجلب إلى (الاسكندرية)، فيجعله (صلاح الدين) مدرباً لصقوره، ثم يتعرف عليه فعلاً، ثم يُعرف نفسه لـ(توريللو)، ويعامله بأبلغ درجات التكريم. وأخيراً يتم نقل (توريللو) إلى (لومبارديا)، حيث يقر لـ(صلاح الدين) الأيوبي بالصداقة والتبعية. وهكذا فإن الصورة التي يقدمها (بوكاتشيو) عن (صلاح الدين) تبني على شهرته الثابتة، بوصفه بطلاً للفروسية، ونموذجاً للتسامح الديني[13].
وقد ترجم دانتي هذه الصورة الأوروبية في ملحمته الأدبية "الكوميديا الإلهية"، إذ وضع صلاح الدين في الحلقة الأولى من الجحيم، بين فضلاء الوثنية وأبطالها في الماضي الغابر كسقراط وأفلاطون وأقليدس وجالينوس. كما تمتع صلاح الدين بقرب اثنين من عظماء الفلاسفة المسلمين: ابن سينا وابن رشد. وبعزل دانتي لـصلاح الدين قليلاً، فإنه كما يبدو أراد أن يخصه بعناية خاصة واستحسان: ومنعزلاً على جانب، إن إدراج صلاح الدين ضمن هذه الجماعة، يدل على ثبات شهرته بالفضائل في أوروبا القرن الرابع عشر، على الرغم من انتشار الأحكام المسبقة المعادية للمسلمين بين المسيحيين في العصور الوسطى[14].
ومن المؤسف أن آثار بعض هذه الأساطير موجودة حتى اليوم في دراسات يُفترض فيها العلمية والتحرر من هذه الخرافات؛ فمن ذلك كتاب فرنسي صدر عام 2005، يذكر مؤلفاه أن "صلاح الدين كان قد درس في مدارس مسيحية"[15].
نشر في مدونات الجزيرة
[1] انظر مقدمة د. قاسم عبده قاسم للكتاب.
[2] يوشع براور، عالم الصليبيين، ترجمة وتقديم وتعقيب: د. قاسم عبده قاسم ود. محمد خليفة حسن، ط1 (الجيزة: عين للدراسات والبحوث، 1999م)، ص59.
[3] Charles J Rosebault, Saladin prince of chivalry, (New York: Robert M. McBride & Company MCMXXX, 1930), pp xi, xii
[4] من حسن الحظ أنه ضرب المثال هنا بهذه الواقعة، فذلك يكشف تجنيه على الحقيقة، فرينالد المذكور هو ذلك الدموي الخائن الغادر الذي خرق الهدنة وقتل الحجاج وأقسم صلاح الدين على قتله إن ظفر به، ولما وقع أسيرا لم يؤمنه صلاح الدين.. فمثل هذا كيف يعتبر قتله سفكا للدماء أو لمجرد غرض شخصي هو البغض؟!
[5] رغم أننا آثرنا ألا نعلق على ذمه، إلا أن بعض الإطلاقات المستفزة تغلبنا، وكنا نود لو ضرب أيضا مثالا هنا بالمفكرين الأحرار لينكشف تجنيه على الحقيقة.
[6] ستيفن رنسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة: د. السيد الباز العريني، (بيروت: دار الثقافة، 1997م)، 3/148.
[7] كارول هيلينبراند، تطور أسطورة صلاح الدين في الغرب، ترجمة وتعليق: ناصر عبد الرزاق الملا جاسم، مجلة الحوار (إربيل، يناير 2015م).
[8] فرسان المعبد وفرسان المستشفى هي كتائب مسيحية تابعة للكنيسة مباشرة، وكانت من أعنف وأشرس الكتائب في حربها على المسلمين.
[9] ول ديورانت، قصة الحضارة، مرجع سابق، 15/44، 45.
[10] كارين أرمسترونج، القدس: مدينة واحدة عقائد ثلاث، ترجمة: د. فاطمة نصر ود. محمد عناني، (القاهرة: سطور، 1998م)، ص482.
[11] مكسيم رودنسون، الصورة الغربية والدراسات العربية والإسلامية، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف شاخت وبوزوروث، ترجمة د. محمد زهير السمهوري وآخرين، سلسلة عالم المعرفة 8 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1985م)، 1/41، 42.
[12] كارول هيلينبراند، تطور أسطورة صلاح الدين في الغرب، مرجع سابق.
[13] كارول هيلينبراند، تطور أسطورة صلاح الدين في الغرب، مرجع سابق
[14] نفس المرجع.
[15] جان كلود بارو وغيوم بيغو، التاريخ الكامل للعالم: منذ ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا، (بيروت ودبي: الفارابي ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، 2008م)، ص108.
وسوم: العدد 743