ليكن الفلسطينيون معول قطع شجرة وعد بلفور الملعونة !..
لا نظن التاريخ على مداه المتطاول عرف جرما بحجم الجرم الذي اقترفته بريطانيا في حق الشعب الفلسطيني حين منحت اشتات اليهود المتفرقين في العالم وعدا في2 نوفمبر / تشرين الثاني 1917بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين ، والذي توافينا هذه الأيام ذكراه المئوية المأساوية . وجه الغرابة الأول في الوعد المنسوب إلى بلفور وزير خارجية بريطانيا حينئذ ؛ أن بريطانيا لا تملك فلسطين فكيف تمنحها مهاجرين غرباء عنها ؟! أو بتعبير الشاعر الكبير إيليا أبي ماضي : " فليست فلسطين أرضا مشاعا * فتعطى لمن شاء أن يسكنا " .
بريطانيا لا تملك شرعية السيطرة على فلسطين استعماريا ، فكيف تهبها أناسا آخرين ؟! حتى الأهداف الاستعمارية الكبيرة التي طمحت إليها بريطانيا في المنطقة في القرن التاسع عشر ؛ لم تكن لتسوغ جرم هذه الهبة الظالمة . مهاجرون أوروبيون بالملايين انتقلوا للعيش في مختلف قارات العالم ، وتعايشوا مع سكان البلاد الأصليين بحقوق متساوية . ما حدث في فلسطين كان غريبا متناهيا في ظلمه ؛ إذ جرت محاولة اقتلاع كاملة للشعب الفلسطيني لغرس شجرة أخلاط من المهاجرين اليهود سموا شعبا ، ولم تلتزم بريطانيا حتى بما أشار إليه نص وعد وزير خارجيتها من وجوب عدم تضرر الحقوق المدنية للفلسطينيين الذين سماهم النص أهل البلاد الأصليين بإقامة الوطن القومي اليهودي .
ومن مظاهر عدم التزامها به قمعها بقوة وقسوة كل تحرك فلسطيني استهدف مواجهة الخطر الصهيوني على الأرض والهوية الفلسطينيتين ، وفي الوقت ذاته رعت خطوات إقامة الوطن اليهودي ، ففتحت أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وسهلت حصولهم على الأرض، وغضت البصر عن تأليفهم عصابات مسلحة انضم إليها مهاجرون مدربون من مختلف الدول الأوروبية ، قاتلت الجيوش العربية بكفاءة عالية في حرب 1948، وكانت نواة للجيش الإسرائيلي النظامي . ولم تندم بريطانيا أخلاقيا على جرمها في حق الشعب الفلسطيني ، وظلت دائما مناوئة لهذا الحق ، ومتخلفة في إبداء أدنى علامة تعاطف معه حتى بمقاييس الدول الأوروبية الأخرى التي لا يتجاوز تعاطفها الإشارات المعنوية ، والمبادرات التي لا تلبث أن يلفها الموت مثل مبادرات فرنسا .
ويجيء إصرار بريطانيا الحازم هذه الأيام على الاحتفال بمئوية الوعد مواصلة لتلك المناوأة الظالمة المتصلفة ، وترسيخا لحقيقة بُعدها عن أقل شعور بالندم على جرمها التاريخي في حق شعب فلسطين . ويشجعها على الاحتفال ، بل الفخر بذلك الجرم مثلما قالت رئيسة وزرائها تيريزا ماي ، ما تشهده من ضعف فلسطيني وعربي يقارب الانهيار ، ولعله الانهيار ذاته . الفلسطينيون منقسمون ، والسلطة التي تتحدث باسمهم تخدم أمن الدولة التي أسسها الوعد ، والعرب في كثرتهم أتباع أذلاء للغرب خاصة أميركا وبريطانيا ، ويتساقطون في ذلة على قدمي إسرائيل متوسلين أن تطبع علاقتها معهم عساها تحمي أنظمتهم المعزولة عن شعوبهم ؛ فلماذا تندم بريطانيا على وعدها الظالم الفاحش في إثمه ؟! ولماذا تعتذر ؟! الاعتذار له بعد قانوني خطير تعلمه علم اليقين المتين ، فوق بعده الأخلاقي . البعد القانوني ينزع ثوب "الشرعية " الباطلة عن إسرائيل ، ويلغي الوعد ، وهو ما لن تفعله بريطانيا . لا أحد يعتذر للضعفاء حتى على مستوى البعد الأخلاقي . وفي جو الضعف الفلسطيني والعربي الهائل ما من دهشة في أن كل ما طلبته السلطة الفلسطينية في ذكرى الوعد هو ألا تحتفل به بريطانيا مهددة بأنها ستقاضيها إن احتفلت ، وهو تهديد لا قيمة له ، هذا إن نفذته السلطة. الأصح أن تقاضيها على الوعد نفسه ، وألا تقتصر على طلب عدم الاحتفال بمئويته ، أو الاعتذار عنه مثلما جاء في خطاب أبي مازن في الجمعية العامة في سبتمبر / أيلول المنصرم .
لكنه الضعف الذي نكب الفلسطينيون والعرب به أنفسهم ، والفلسطينيون أوسع استحقاقا للوم على هذا الضعف من بقية العرب ؛ لأن الفلسطينيين هم الذين ابتلوا بمأساة الوعد ، واحترقوا بلظى جهنمه ، ومهما كانت مقاساة بعض الدول العربية من توابع المشروع الصهيوني كبيرة شاقة الأعباء ، ومهما كان الخطر الذي ينتظرها منه ، فما من أحد استطعم علقم الطرد وسمه من الوطن مثلما استطعمهما أكثر الشعب الفلسطيني . وهذا يوجب أن يكون التصدي الفلسطيني للمشروع الصهيوني أصلب وأعند وأخلص من أي تصدٍ عربي آخر له مع قناعتنا الراسخة بأنه يستهدف العرب جميعا ، مرحلة وراء مرحلة . فليكن الشعب الفلسطيني المعول الذي يقطع الشجرة الملعونة السامة التي غرسها الوعد في أرضنا ! ورغم الضعف الفلسطيني الظاهر مازلنا نمتلك عناصر قوة هائلة ، وأول هذه العناصر ،وأغناها فاعلية ، وأعنفها خطرا على المشروع الصهيوني هو الوفرة السكانية الفلسطينية في الضفة وغزة والداخل الفلسطيني . هذه الوفرة التي تزيد على ستة ملايين ، وتتفوق على الإسرائيليين ب 2 % ، يمكن أن تستخلص مرحليا كثيرا من الحقوق الوطنية في الجغرافيا الفلسطينية متى نظمتها قيادة وطنية صالحة مقتدرة على تجميع طاقات وقوى الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج لتحدي المشروع الصهيوني الذي تعتريه آفات ضعف حقيقية وإن بدت عليه تجليات القوة . وإذا كانت الحركة الصهيونية مؤازَرةً بالقوى الغربية الاستعمارية استطاعت جمع أشتات متنوعة من يهود العالم لاغتصاب الوطن الفلسطيني فأحرى بنا ، نحن المؤلفين من نسيج واحد ، أن نكون أقدر على البقاء والتجذر في وطننا ، ونحن أطول نفسا منهم ، وإنه لما له دلالته على قصر نفسهم أن نسمع في استطلاع رأي أخير أن 58 % من طلاب الجامعات الإسرائيلية يفكرون في الهجرة بحثا عن حياة أرغد وأكثر أمنا .
وسوم: العدد 744