في ولادة وعي الأمة

إنَّ تحالفَ المرتدين مع أعداء الله وأعداء رسوله r ، ومع القوى التي مابرحت تناوئُ الإسلامَ ، وتدعو إلى ثقافة جديدة ، تعتمدُ على مبدأ ترحيل قيم القرآن الكريم والسُنَّة النبوية عن صدور المسلمين ، والقيام بإيجاد صيغة مبتكرة جوفاء لدين الله ، أو بالحرب العسكرية التي تسيل فيها الدماء اليوم في أرجاء العالم الإسلامي ، وبالحروب الأخرى من فكرية واقتصادية واجتماعية ، ومحاربة مايسمونه بالتطرف والإرهاب والرجعية ، وبمحاولات طمس الهوية الإسلامية الناصعة في التعليم ، وإشاعة الفوضى الجنسية مستغلين  كذبا وزورا وخداعا  حقوق المرأة ... إلى غير ذلك من الأبواب القبيحة التي فتحوها على أفواج أبناء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها . ليفوِّتوا على المسلمين فرصة الحياة الدنيا التي جعلها الله زادا للآخرة ، ولينغِّصوا على الأمة سعادتها بقرآنها وسُنَّةِ نبيِّها r ، وليحرموا أبناء الإسلام من لقاء جليل عظيم مع قرآنهم يوم القيامة ، يوم يلقى القرآنُ أهلَه في عرصات الحشر ، فيذكرهم بالذي أظمأهم في الهواجر ، وأسهرهم الليالي ، فيعطون ساعتها الملكَ بأيمانهم والخلد بشمالهم ، وتوضع تيجان الفخار والوقار على رؤوسهم ، ويرتقون على درجات الجنان والفراديس إلى ما شاء الله لهم من مكانة تحت عرشه جلَّ وعلا . كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمامُ أحمدُ رحمه الله .

وُلد رسولُ الله r والناس في ظلمات الجاهلية الأولى ، وفي فوضى ضياعها وفسادها ، فأتاهم بالنور المبين ، وبالنظام القويم لكل شؤون حياتهم ، وبالإخاء الإنساني الشامل في ظل شريعة التسامح والتكافل والتضامن والتواد ، ليجمع الناسَ  كلَّ الناسِ  تحت لواء الإسلام في مجتمع طاهر قوي نظيف ، يُحرم فيه الظلمُ والاستكبارُ ، ويُنهَى فيه عن الفحشاء والمنكر والبغي ، ويُحصِّنُه من الانهيار الخُلُقي والنفسي ، ويعصمه من التبعية لقوى الشر من الطغاة والظالمين ومحترفي الإجرام .

وُلد رسولُ الله r لتولد معه أمةٌ ذاتُ شريعةٍ وقدرةٍ ، وستبقى  بمشيئة الله  الأمة التي اختارها اللهُ لحملِ الدعوة الربانية إلى قيام الساعة ، تذكِّرُ أهلَها بفرضية العودة إلى أنوارِها وضرورتها ، لكيلا تعمى القلوبُ ، وتتبدَّدَ القوة  المؤيَّدَة من الله . يقول تعالى : ( فإنها لاتعمى الأبصارُ ولكنْ تعمى القلوبُ التي في الصدور ) 46/هود . هذه القلوب التي أفسدتْها موبقاتُ البعد عن الله ، وعن قرآنها وسُنَّةِ نبيِّها r ، فاشتغلت بالأهواء ، فأعماها الفساد ، فالويل لها يوم فسدتْ القلوب ، والويل لها إن لم تصلح حالَها قبل فوات الأوان . يقول رسولُ الله r : (  الا وإنَّ في الجسدِ مضغة إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسدُ كلُّه ، وإذا فسدتْ فسدَ الجسد كلُّه ، ألا وهي القلب ) . إن اقتراف المعاصي ، والرضا بعمل الموبقات ، وقبول ألبسة الفساد المحلية والمستوردة ... هي التي أضعفت الأمة ، ومهدت الطريق لأعدائها وللمرتدين من أبنائها ليمتلكوا أمرها ، فمتى يتذكر أولو الألباب من أبناء الأمة ؟‍  ومتى سيعلمون أن اللهَ يجازي الناسَ بأعمالهم ، يقول عزَّ وجلَّ : ( ليجزي اللهُ كلَّ نفسٍ ما كسبتْ إن الله سريعُ الحساب ) 51/ إبراهيم . ولعل هؤلاء المنغمسين في بحور الرذائل والمحرمات وهم يرون مصارع قومهم قد فقدوا إحساسَهم وعقولَهم ، وإلا فكيف يهنأ لهم عيشٌ ، وتطيبُ لهم حياةٌ ؟‍‍‍‍‍‍ ‍‍ولكنَّ الأمرَ يلزمه قرارٌ صعبٌ من ذي إرادة وعقل حتى يُغيِّرَ حالَه البائسة المترهلة ، وينقل نفسَه إلى ميادين المجد والسؤدد ، تحت لواء التوحيد وحبِّ الله ورسولِه r . حيثُ المبادرةُ إلى الطاعات وعمل الخيرات ، والقوة التي يتغلب بها على هوى نفسِه والشيطان ، ويسعى بها إلى تأكيد مسيرة أهل الفضل من الأبرار والمجاهدين ، ويستخدمها في إصلاح مجتمعه بالحسنى لدفع الأعاصير العاتية التي تجتاحها في الليل والنهار . وتلك مآثر أصحاب رسول الله r حيثُ ادخروا قوتهم لخدمة الإسلام ، وبها عاشوا في عزة وكرامة ، وعليها يُبعثون ، روى الإمام مسلم رحمه الله عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله r : ( يُبعثُ كلُّ عبدٍ على ما مات عليه ) . وإن لم تتغير نفوس أبناء الأمة، وإن لم ترتفع عن الدنايا ، فإن الأمة ستبقى في محيط الفوضى ، وعند مستنقعات الرذيلة ، وعلى هذه المبادئ الهدَّامة التي اختلقتها الصهيونية والماسونية والقوى التبشيرية ، وملأت أسواقنا بشتى بضائعها ، وسلطت عليها الطغاة والمستبدين الذين كانوا على الأمة أكثر إجراما ممَّن نصَّبوهم عليها ، ولا زلنا نذكر  على سبيل المثال  المنبوذ بورقيبة واستهزاءَه واستخفافَه بالأمة ودينِها ، يوم ألغى المحاكم الشرعية الإسلامية ، ودعا إلى الإفطار في رمضان ، وإلى السفور والفجور ... تماما كما يفعل مَن جاء بعده ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . 

        وُلَدَ المصطفى r و ولد معه عقلُ الأمة و وعيُها ، فانطلق أصحابُه الأبرار بإيمانهم وصبرهم وجهادهم وابتكاراتهم ، فكانوا الروَّادَ في كلِّ العلوم والمعارف . فمتى يُصغي أبناءُ الأمة  اليوم  إلى نداء ربِّهم ، ويفقهون معنى قوله : ( لنهلكنَّ الظالمين ) 14/إبراهيم . ومتى يعلم هؤلاء الأبناء أن الله سبحانه يريد أن يمنَّ عليهم بالتوبة والفتح والتأييد ، ويعيد بهم ولهم مجدَ أجدادِهم يقول تعالى : ( ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) 5/القصص .

        وحقَّ للأمة أن تقف متأملةً معالم من سيرة الجيل الأول والزمن الأول ، لتعلم مكانة نبيِّها ودينها . ها قد وُلد محمَّد r ، وها قد بعثه الله هاديا ومبشرا ونذيرا .يقول الله تعالى : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عليه ماعنتتم حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ 128} فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ لْعَرْشِ  لْعَظِيمِ { التوبة 129 ويقول سبحانه وتعالى . ولقد بشَّر به الأنبياء ، يقول عزَّ وجلَّ :{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم  ُمصَدِّقًالِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّااءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ  }6/الصف  ، وهاهو رسول الله  r  يخرج من بين العرب الذين شهدوا له بالأمانة والصدق قبل النبوة . روى الإمامُ مسلمٌ يرحمه اللهُ أن النبيَّ  r قال : ( إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ  اصطفى من ولدِ إسماعيلَ ، واصطفى من بني إسماعيل  كنانة واصطفى من كنانةَ قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم . ) وكلما هلَّ شعرُ ربيعٍ الأولِ تأتي على الأمةِ ذكرى مولدِه  r . ففي يومِ الإثنين الثاني عشر من شهرِ ربيعٍ الأول من عام الفيل  والموافق للعام 571 للميلاد وُلِدَ المصطفى r . وقد ابتهجتْ بمولدِه السماواتُ والأرضُ ، وقد جعله اللهُ رحمةً للأمةِ وللعالمين من الثقلين الإنسِ والجنِّ ، وقد بشَّرت به الأنبياءُ عليهم الصلاةُ والسلام ، كما في الآيةِ التي أوردناه قبل قليل في سورة الصف . ولقد نقلَ ابنُ اسحق كما في سيرة ابنِ هشام أن رجالا من الأنصار قبل بعثة النبيِّ r وقبل مولده كانوا يسمعون من اليهود المقيمين حولهم في المدينة عن قرب موعد ولادة رجل في العرب يكون نبيَّ هذه الأمة ، ويقول الأنصار وكانت بيننا وبين اليهود شرورٌ ومشاكلُ ، فإذا نلنا منهم ما يكرهون ، قالوا : إنه تقارب زمانُ نبيٍّ يُبعثُ ، وسنقتلُكم معه كقتلِ عادٍ وإرم . فلما بُعثَ رسولُ اللهِ r كذّبوا وحاربوه لعنةُ اللهِ عليهم .كما تباشرت الجنُّ في يومِ مولدِه ، وكانت العربُ تسمعُ مَنْ يكلمهم ولا يرونه من الجن ، بل إنَّ وحوشَ البرِّ بشَّرت به r كما في قصة راعي الغنم والذئب الذي أنطقه الله وأخبر الراعي  بمولده r : 

.   ولقد أوردَ الإمامُ البخاري والإمامُ مسلمٍ في صحيحيهما ما صرَّحَ به هرقلُ ملكُ الرومِ حين استلمَ الرسالةَ التي بعثها النبيُّ r  إليه يدعوه فيها إلى الإسلامِ حيثُ قال : وقد كنتُ أعلمُ أنه خارجٌ في هذه الفترة من الزمن ، ولكنْ لم أكنْ أظنُّ أنه منكم .

وُلِدَ رسولُ اللهِ r  سيِّدا لولد آدم ، فكانَ خيرَ الناسِ خَلْقًا وخُلُقًا ، وكان سيدَ الثقلين ، بل إنَّ ربَّ العزةِ والجلال أقسم بعُمرِه الشريفِ  r  فقال : ( لَعَمْرُكَ إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) 72/الحجر . وأثنى اللهُ على خُلُقِه فقال : ( وإنك لَعَلَى خُلُقٍ عظيم ) 4/القلم ، ورفع اللهَ ذكرَه في السماوات والأرض فقال : ( ورفعنا لك ذكرَك ) 4/الشرح . فاسمُه يرتفعُ مع اسمِ ربِّه خمس مرات في اليوم والليلة . وقد اتخذه الله خليلا كما ورد في حديث الإمام مسلم يرحمه الله . ولقد جبله اللهُ سبحانه على مكارمِ الأخلاقِ ، ومآثر الشيم ، فهو  r أعظمُ الخلقِ مكانةً ، وأصدقُهم حديثا ، وأجودُهم يدا وأسخاهم بِرًّا، وأشدُّهم احتمالا وصبرا ، وأعظمُهم عفوا  ومغفرةً ، وكان لايزيدُه شدةُ الجهلِ عليه إلا حلما وتكرُّمًا ، روى البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عَمْرو رضي الله عنهما في صفة رسولِ الله r في التوراة  : ( يقول الله : محمَّدٌ عبدي  ورسولي ، سميتُه المتوكل ، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ، ولا سخَّابٍ بالأسواقِ ، ولا يدفعُ السيئةَ بالسيئةِ ، ولكن يعفو ويصفحُ ، ولن أقبضَه حتى أُقيمَ الملةَ العوجاءَ ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، وأفتحُ به أعينًا عُميا ، وآذانا صُمًّا ، وقلوبا غُلْفًا )  . فما أعظمَه من إنسان وما أجلَّه من نبي ، وهو الذي يحزن إذا أصابَ أُمتَه السوءَ يقول الله تعالى : ( النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسِهم ) 6/الأحزاب . يقول رسولُ الله  r : ( ما من مؤمنٍ إلا وأنا أولى الناسِ به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا إذا شئتُم : { ألنبيُّ أولى بالمؤمنين  من أنفسِهم } وقال r : ( أنا أولى الناسِ بكل مؤمن من نفسِه ) أخرجه مسلم .فهو شفيعُنا يوم لاينفعُ مالٌ ولا بنون ، ولذلك لايكونُ المؤمنُ مؤمنا حقًّا إلا إذا كان النبيُّ r أحبَّ إليه من نفسِه وماله و ولدِه والناسِ أجمعين . أخرج البخاري في صحيحه أنه r قال : ( لايؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه و ولدِه والناسِ أجمعين ) وأخرج  أيضا أنه r قال : ( والذي نفسي بيدِه لايؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه و ولدِه ) . ولذا افتدتْ نسيبة أم عمارة الأنصارية رسولَ الله r بنفسِها وزوجِها و ولديْها يومَ أُحُد ، وحين رأى النبيُّ r هذا التَّفاني منها ومن أسرتها قال : ( بارك اللهُ عليكم أهلَ بيت ) ، فسمعتْه نسيبة فقالت : ادعُ اللهَ أن يجعلَنا نرافقُك في الجنة . فقال  r : ( اللهم اجعلْهُم رفقائي في الجنة ) وعند ذلك قالت الصَّحابية الفدائية رضي اللهُ عنها : ما أُبالي ما أصابني من أمر الدنيا : فذلكُم رسولُ اللهِ r التي لايكملُ إيمانُ المرءِ إلا بحبِّه وطاعته ، قال  r : ( ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمانِ : أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سِواهُما . وأنْ يحبَّ المرءَ لايُحبُه إلا للهِ ، وأنْ يكرهَ أن يعودَ في الكفرِ كما يكرهُ أنْ يُقذَفَ في النار ) رواه البخاري ومسلم . ومن أجلِ أن يكونَ المسلمُ مترجما لحقيقةِ حبِّه لرسولِه r  فإنه يجبُ أن توافقَ أعمالُه أقوالَه ، ويراعي المحبة في تقديم أوامرِه على كل مافي حياتِه الدنيويةِ . ولقد سُئل الخليقةُ الراشديُّ عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه ، كيف كان حبُّكم لرسولِ الله r ؟ فقال : كان واللهِ أحبَّ إلينا من أموالِنا وأولادِنا وآبائنا وأمهاتِنا ، ومن الماءِ الباردِ على الظمأ . وحين سألَ أبو سفيان ( قبل أن يُسلم ) الصحابي زيدَ بنَ الدَّثِنَة رضي الله عنه ، وقد أخرجه كفارُ مكة ليقتلوه ، وكان أسيرا لديهم .فقال له أبو سفيان : أُنشدُك بالله يازيدُ أتحبُّ أنَّ محمدا الآن عندنا مكانك نضربُ عُنُقَه وإنك في أهلك ؟! فقال زيد رضي الله عنه : واللهِ ما أُحبُّ أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبُه شوكةٌ تؤذيه وإني جالسٌ في أهلي .فقال أبو سفيان : مارأيتُ من الناسِ أحدا يحبُّ أحدا كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمَّدا . وعن أنس رضي الله عنه قال : ( لما كان يومُ أحدٍ حاصَ أهلُ المدينةِ حَيصةً ، قالوا : قُتِلَ محمَّدٌ . حتى كثرت الصوارخُ في ناحية المدينة . فخرجتْ امرأةٌ من الأنصار متحزِّمةً ، فاستُقبلتْ بابنِها ( أي بخبر استشهادِ ابنها ) ثم بأبيها ثم بزوجها وأخيها ، قال أنس : لاأدري بأيِّهم استُقبلت أولا . فلما مرَّت على أحدِهم قالت : مَنْ هذا ؟ قالوا : أبوك ، أخوك ، زوجُك ، ابنُك . فقالت : مافعلَ رسولُ الله r ؟ فقالوا : أمامك . حتى دفعتْ إلى رسولِ الله r فأخذتْ بناحيةِ ثوبِه ثمَّ قالت : بأبي أنت وأمي يارسولَ الله ، لاأبالي إذْ سلمتَ من عطبٍ ) . رواه ابن هشام في السيرة وأورده صاحب البداية والنهاية

وبمولدِه r جاءَ الحقُّ وظهرَ دينُ الله ، وانقسم الناسُ إلى فريقين ، فريقٍ كفرَ وصدَّ عن سبيلِ الله فخسرَ وخابَ وكان أهلُه من أصحابِ النار  ، وفريقٍ آمن واتبعَ الهدى ففازَ في الدارين ، وكان من أصحاب الجنَّةِ . يقول الله تعالى في سورةِ محمَّدٍ r : }  الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضلَّ أعمالهم ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزِّلَ على محمد وهو الحق من ربهم كفَّرَ عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ) 1/2/3/محمد . والمؤمنون ينجون بفضل إيمانهم بربهم وبنبيِّهم r في أول منازل الآخرة ، ألا وهو عذابُ القبر ، فهو للكافر حفرة من حفر النار ، وللمؤمن المقبولِ روضةٌ من رياض الجنة ، وقد جاء عنه r أنَّ الشهيدَ والمرابطَ في سبيلِ اللهِ ومَن يموتُ في يوم الجُمُعَةِ من أُمتِه r والمبطون ... يُعصَمون من عذابِ القبرِ بفضلٍ من الله ورحمة . كما تحظى أُمتُه بشفاعتِه يوم القيامةِ ، فيُخرِجُ المؤمنين من النارِ ، وله أيضا الشفاعةُ الكبرى ، وهي خاصةٌ له دون الأنبياء في ذلك الموقف العظيم .وببركته r  تُحاسبُ أُمتُه أول الناسِ ، ويسترُ اللهُ على أهلِ الذنوبِ ذنوبَهم فلا يفضحهم على رؤوسِ الأشهاد ، وإن أولَ الأعمالِ حسابا الصلاةُ فإن قُبلت قُبلَ العبدُ ونجا ، ومَن ضيَّعها في الدنيا خسرَ وخابَ يومَ الحساب . فإذا وُضِعتْ أعمالُ الناسِ في الميزان ، وهو ميزان حقيقي له كفَّتان ، وإنما تُثقلُه الأعمالُ الصالحاتُ الباقياتُ ، كما جاءَ عن نبيِّنا r من أذكار مثلِ : لا إله إلا الله ، وسبحان الله وبحمدِه وسبحان الله العظيم ، كما يُثقلُه حُسْنُ الخُلُقِ . ثمَّ تأتي أمةُ محمَّدٍ إلى حوضِه المورود ، ومَنْ شربَ منه فإنه لايظمأُ أبدا ، ولكل نبيٍّ حوضٌ ، وأعظمُها حوضُ نبيِّنا محمَّدٍ r : ماؤُه أبيضُ من اللبنِ ، وأحلى من العسلِ ، وأطيبُ من المسكِ ، وآنيتُه ذهبٌ وفِضَّةٌ ، كعددِ نجومِ السماءِ التي يراها الناسُ في ليالي الدنيا ، وطولُ الحوضِ أبعدُ من أيْلَة بالأردن إلى عدن في اليمن كما جاء عن المصطفى r ، ويأتي ماءُ الحوضِ من نهر الكوثر الذي خصَّ اللهُ به رسولَه محمَّدًا r . ويأتي فضلُ رسولِ الله على الأمةِ بعدَ فضلِ ربِّه عليه وعلى أمتِه عند الصراطِ ، وهو جسرٌ ممدودٌ على ظهرِ جهنَّمَ ليعبرَ عليه المؤمنون إلى جنَّاتِ الخلودِ ، وقد وصفه النبيُّ r فقال : ( إنه مدحَضَةٌ مزلَّةٌ ، عليه خطاطيفُ وكلاليبُ كشوكِ السَّعدانِ ، أدقُّ من الشَّعرةِ وأحدُّ من السَّيفِ ) رواه مسلم . وعنده يُعطَى المؤمنون النور على قَدرِ أعمالِهم ، فأعلاهم كالجبال ، وأدناهم في طَرَفِ إبهامِ الرجلِ ، فيضيءُ لهم فيعبرونه بقدر أعمالِهم أيضا ، فيمرُّ المؤمنُ كطَرْفِ العينِ وكالبرقِ وكالريح وكأجاوِدِ الخيلِ ، وكما قال نبيُّنا r  : (فناجٍ مُسَلَّمٌ مرسَلٌ ، ومكدوسٌ في جهنم  ) متفق عليه . أما الكافرون والمنافقون فلا نورَ لهم ، يرجعون طلبا للنور ، فيضربُ بينهم وبين المؤمنين بسور ، فلا يجدون نورا ، ويطلبون أن يجوزوا على الصراطِ فيتساقطون في جهنم . ثمَّ يأتي بعد ذلك فضلُ أبي القاسمِ r أيضا . ففي الحديث الذي يرويه البخاري رحمه الله يقول رسولُ اللهِ r : { يخلصُ المؤمنون من النارِ فيُحبسون على قنطرةٍ بين الجنة والنارِ ، فيُقتَصُّ لبعضِهم من بعضٍ مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هُذِّبُوا و نُقُّوا أذِنَ لهم في دخولِ الجنةِ ، فوالذي نفسُ محمَّدٍ بيدِه لأَحدُهُم أهدى بمنزلِه في الجنةِ منه بمنزلِه كان في الدنيا ) . كلُّ ذلك في جنَّةٍ أعدَّها اللهُ لأوليائه المؤمنين من خلقِه ، وفي الجنةِ مالا عينُ رأتْ ولا أُذُنٌ سمعتْ ولا خطرَ على قلبِ بشر . بناؤُها فضةٌ وذهبٌ وملاطُها مسكٌ ، وحصباؤُها لؤلؤ وياقوت وترابُها زعفران ، لها ثمانيةُ أبوابٍ ، عرض البابِ منها مسيرةُ ثلاثةِ أيام ، لكنه يغصٌّ من الزحام ، وفي الجنةِ 100 مِئَةُ درجةٍ مابين الدرجتين كما بين السماء والأرض . الفردوسُ أعلاها ومنه تتفجرُ أنهارُها ، وسقفُه عرشُ الرحمن جلَّ جلالُه ، وأنهارُها عسلٌ ولبنٌ وخمرٌ وماءٌ ، تجري دون أخدودٍ ، يُجريها المؤمنُ كيف شاء ، أُكُلُها دائمٌ دانٍ مذلَّلٌ ، بها خيامٌ من لؤلؤ مجوَّفةٌ عرضُها ستون ميلا ، للمؤمنِ في كلِّ زاويةٍ فيها أهلٌ جُرْدٌ مُرْدٌ كُحْلٌ ، لايفنى شبابُهم ولا ثيابُهم ، لابولٌ ولا غائطٌ ولا قذارةٌ ، أمشاطُهم ذهبٌ ورشحُهُم مسك ، نساءُ الجنةِ حِسانٌ أبكارٌ عرُبٌ أترابٌ }، وأولُّ مَن يدخلُ الجنَّةَ محمَّدٌ وأُمتُه ، يتمنى المرءُ فيها شيئا فيُعطَى عشرةُ أمثالِ ماطلب ، وأعظمُ ما فيها رؤيةُ الله الرحيم الرحمن ، ثم رضوانُه سبحانه وتعالى ، ثم الخلودُ فيها . هذا الفضلُ أرشدنا إليه نبيُّنا صاحبُ هذه الذكرى ، ذكرى مولدِه r في هذه الأيام المباركات ، فالدنيا ستفنى وتبلى ، ثمَّ إلى جنَّةٍ أو نارٍ ، يقول r : ( كلُّ أُمتي يدخلون الجنةَ إلا مَن أبى . قالوا : ومَنْ يأبى يارسولَ الله ؟ قال : مِنْ أطاعني دخلَ الجنةَ ومَن عصاني فقد أبى ) . وقال نبيُّنا r : ( لايدخلُ الجنةَ مدمنُ خمرٍ ، ولا مؤمنٌ بسحرٍ ، ولا قاطعُ رَحِمٍ ، ولا كاهنٌ ، ولا منَّان ) . وقال r : ( مَنْ قطعَ ميراثَ وارثِه قطعَ اللهُ ميراثَه من الجنة يومَ القيامةِ ) . وقال r : ( مَنْ كانت الدنيا همَّه جعلَ اللهُ فقرَه بينَ عينيه ، وفرَّقَ عليه شملَه ، ولم يأْتِه من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له ) . وقال r : ( من تشبَّه بقومٍ فهو منهم ) وفي حديثٍ آخرَ : ( ليس منَّا مَنْ تشبَّه بغيرِنا ) . وقال r : ( مِنْ تركَ صلاةَ العصرِ حَبِطَ عملُه ) . وقال r : ( إياكم والحسد فإن الحسدَ يأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النارُ الحطبَ ) أو قال : ( العشبَ ) . وهكذا نقرأُ لرسولِ اللهِ r العديدَ من النصائحِ والإرشاداتِ ، ونستبين من خلالها سبلَ النجاةِ ، ونتعرفُ على ماينفعُنا ، وعلى مافيه ضررٌ لنا ولأمتنا ، وهدانا إلى جميعِ المآثرِ والفضائلِ في كلِّ شأن من شؤون الحياة ، من حُسنٍ للخُلُقِ ، والرحمةِ بالناسِ والبدء بالسلام ، والتحابُبِ في الله ، والمداومةِ على فعل الخيرات ، والستر على المسلمين ، وارتداءِ لباسِ التقوى الذي تراه في تقديم الأعمال الصالحة ، كإدامةِ الوضوءِ والصلاةِ والذكر والصدقة ، واغتنام الأوقات والساعات الفاضلات في جوف الليلِ ، وعند انشغال الناسِ في النهار ، وفي مخالفة الشيطان الذي يحاول إبعاد المسلمين عن الاقتداءِ برسولِهم r في قراءة القرآنِ بتدبُّر وعمل ، وفي الاشتغال بذكرِ اللهِ وقيام الليلِ والتَّضرع للهِ عندَ السَّحر ، والمحافظةِ على الجماعة في المساجد فذاك هو الرباط .  إنَّ ما أصابَ الأمةَ اليومَ إنما لبعدِها عن هَدْيِ نبيِّها r ، وذلك بما كسبتْ أيادي أبنائها  هداهم اللهُ  قال تعالى : ( ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئةٍ فمن نفسِك ) . ومن رحمةِ الله بهذه الأمة أنه لن يهلكها ، وقد ينالُ الأعداءُ منها ، ولعلها ترجعُ إلى  رحابِ سُنَّةِ المصطفى r فيصلح اللهُ حالَها ، وما ذلك على اللهِ بعزيز . فالخيرُ كلُّ الخيرِ بيد الله ومن عنده سبحانه ، يقول رسولُ اللهِ r : ( والخيرُ كلُّه في يديك ، والشرُّ ليس إليك ) رواه مسلم . 

وسوم: العدد 747