تَحوّل السياسي ، إلى حكواتي في مقهى .. ماذا يعني !؟
حين يفقد السياسي المحترف ، أدوات السياسة كلها :
ـ من أفكارذات قيمة ، تصلح للتسويق ، في بلاده ، وبين شعبه ..
ـ ومن جماهير، تؤمن بأفكاره ، وتؤيّدها ، وتتّخذ منه زعيماً ، أو مناضلاً ، أو مفكّراً..
ـ ومن شعبية له بين قومه ( في مدينة ، أو حيّ ، أو قبيلة ، أو قرية ) في وطنه ، تسانده في تحقيق طموح سياسي معيّن ..
ـ ومن دولة خارجية ، يستمدّ منها الدعم : الفكري والمالي والسياسي ..
حين يفقد السياسي هذا ، كله ، ولا يبقى لديه من أدوات السياسة ، إلاّ قدرته على التفلسف والحذلقة ، وكتابة المقالات الباهتة ، العاجزة عن تحريك عقل ، أو نزعة وطنية ، أو إنسانية.. والخالية من كل قيمة وطنية ، أو خلقية ، أو علمية ..! ولا يجد له عملاً ، إلاّ تسلية الناس بهذه الكتابات ، التي يدبّجها في مقاهي بلاده ، أو مقاهي الدول الاجنبية ، كما كان يفعل الحكواتي القديم .. حينئذ يصبح واجباً ، على هذا السياسي ، أن يضفي على نفسه قليلاً من الاحترام ، ويقدّم للناس ، الذين ندب نفسه لتسليتهم ، أشياء تؤنسهم وتسرّهم ، لا أشياء تزعجهم وتعكّر صفوهم ، من سباب وشتائم وتجريح ، لهذا الفريق ، أو هذه المجموعة .. ومن هجوم على عقائد الناس ، وقيمهم الاجتماعية والخلقية ..! وذلك ، ليستمرّوا في سماع كلامه ، وقراءة كتاباته ، والتعاطف معه في مأساته المعقّدة ، التي لايستطيع أن يقدّرها ، حقّ قدرها سواه ؛ فهو :
*) أفنى شبابه سياسياً ، حالماً بنوع من الزعامة ، استناداً إلى أفكار، كانت تَرد إليه من دولة غيردولته .. في زمن معين ، ثمّ تغير الزمن ، فلم تعد صالحة للتسويق ، بلْهَ صناعةَ الساسة والزعماء !
*) وحين بلغ الكهولة ، وجد نفسه عاطلاً عن العمل ، لأنه لم يتعلم ، في طفولته وشبابه ، حرفة تساعده على كسب رزقه !
*) أدمنَ معاقرة الأحلام السياسية ، ولم يعد لديه شيء من أدواتها !
*) لا يستطيع أن يحصل على منصب ، في دولته ، حتى لو نافق ، وتزلّف لأصحاب السلطة فيها ، لأن المحلات كلها ملأى بالمنافقين ، وليس ثمّة شواغر لأمثاله !
*) لا يستطيع أن يكون معارضاً حيقيقياً ، لأن المعارضة تحتاج إلى عناصرلا يملك منها شيئاً ، مثل الجماهير الشعبية ، الفكرية أو العصبية ، ومثل الفكر النيّر السديد ، الذي يجعل منه شخصاً مؤهلاً ـ بنفسه ، وملكاته ، وقدراته ـ .. للعمل السياسي ، والطموح إلى المناصب السياسية !
*) لا يملك قدرة على التعامل الجادّ ، مع القوى السياسية المعارِضة للحكم في بلاده ..
*) يحقد على أكثر القوى الموجودة على الساحة السياسية في وطنه ، القائمة على رأس الحكم ، والمعارضة ، على حدّ سواء ، ويَخشى الجميع ، وكل منهم مَصدر قلق له ، من زاوية معينة !
*) لم يعد يملك إلاّ قلماً ، عاجزاً عن كتابة جملة سليمة بلغةِ قومه .. وسَلَطةً من الأفكار، المشحونة بحَذلقات وهَرطقات، وأوهامٍ وتخيّلات، وجذاذاتِ أفكار متناقضة، ونشاراتِ مذاهبَ متآكلة ، ورزمٍ من ألوان الحقد والحسد ، وسلالٍ من أنواع الاتّهام والتجريح ، يَحرص على جعلها براقة ، ويغلفها بأغلفة ملوّنة ، من شتّى الأصناف ، يشتريها ، أو يسطو عليها ، من محلاّت متخصّصة ، ببيع السلع الأثرية ، من عهود قديمة ، كعهد إفلاطون ، أو هيرقليطس ، أو سبينوزا .. أو من عهود حديثة ، كعهد ديكارت ، أو نيتشه ، أو هيغل..وذلك ليضفي على أفكاره ، نوعاً من جلال التاريخ حيناً، ومن بريق الحداثة ، حيناً آخر!
لم يعد يجد لديه، سوى هذا الركام ، يسوّقه في أكياس من الكلام! وإذا انقطع عن تسويقه، انقطع رزقه ، وانقطع أمله ، أو حلمه ، أو وهمه .. بأن يكون ، يوماً ما ، شيئا مذكورا!
*) فماذا يفعل ، سوى أن يكون حكواتياً ، في مقهى مهجور ، على رصيف مهجور، في شارع مهجور .. يتصيّد الزبائن لكلماتِه ـ بضاعتِه المزجاة ـ ..!
*) فأيّة مأساة أبلغ من هذه !؟ وأيّة مأساة يصنعها بنفسه لنفسه ، إذا تصوّر أنه يستطيع كسب زبائن، لكلماته المشحونة بكل الركام المذكور، من الأحقاد ، والشتائم ، والهرطقات، وتجريح الخلْق !
*) أفليس أجهلُ حكواتي ـ والحال هذه ـ أسعدَ حالاً منه ؛ لأنه أكثر حصافة منه ؛ إذ يسمِع الناسَ مايحبّون أن يَسمعوه ، من سيَر الأبطال والشجعان ، فيشدّهم إليه ، ويكسب ودّهم ، ورِفدَهم ، واحترامَهم لمهنته ، حتى لو أيقنوا ، أنه يبيعهم أوهاماً وأكاذيبَ .. مادامت خالية من الحقد والاتّهام ، والتجريح والحسد ، والعقد النفسية القاتلة !؟
وسوم: العدد 748