مضايا و(مالبورو) وزخة رصاص

من الحياة اليومية لمواطن سوري

هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص التي عايشتها مع بعض أصدقائي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.

كما ذكرت في القصة السابقة، فبعد تخرجي في مطلع الثمانينيات من كلية الهندسة الميكانيكية، وقبل سفري إلى أمريكا، عملت لفترة وجيزة في مؤسسة انشائية عسكرية بصفة مهندس متدرب، وتم تسليمي سيارة لاندروفر للتنقل بين بيتي وبين فرع المؤسسة في الغوطة. بسبب ولعي القديم باللغات الأجنبية وكذلك بالآداب عموماً، كنت في وقت سابق تقدمت ونجحت في امتحانات البكالوريا الأدبية الحرة وسجلت في كلية الآداب قسم اللغة الانكليزية حيث كنت أدوام في المؤسسة خلال ساعات العمل الرسمية ومساءً في الكلية. في أحد أيام حزيران الطويلة، وقبل بدء الامتحانات بأيام، كانت الساعة حوالي الرابعة حين وصلت إلى الكلية، لأجد مع بقية الطلاب أن الدكتور قد اعتذر عن الحضور، فتوجهت مع مجموعة من أصدقائي، شاب وفتاتان، إلى المقصف لتناول الشاي.           في المقصف اقترحت إحدى الفتاتين، وكانت من (الطائفة الكريمة) ومن المدخنين، أن نذهب جميعاً بسيارتي إلى مضايا لشراء دخان (مالبورو) وغيره من المهربات. لمن لايعرف (مضايا)، فهي بلدة صغيرة تبعد عن دمشق حوالي ثلاثة أرباع الساعة، مجاورة لمصايف الزبداني وبلودان وبقين وقريبة من الحدود اللبنانية، وتشتهر خصوصاً بسوق المهربات وعلى رأسها الدخان الأجنبي والكهربائيات. وافقنا في النهاية على اقتراحها الذهاب إلى (مضايا) حيث اشترت هي وبقية الشلة كروزات المالبورو في حين اشتريت أنا صندوق كولا،حيث كنت قد اشترطت مسبقاً أن لاتدخين في السيارة وأن نعود مباشرة إلى دمشق قبل حلول الظلام فمن عاداتي أني لاأحب قيادة الليل.

     كنا قد قطعنا ميسلون وأخذنا طريق بيروت الجديد باتجاه المزة، وعند مفرق الصبورة، كانت هناك دورية أمن تحت أحد الجسور. وكالعادة في سورية، فلا أحد يعرف هوية دوريات الأمن، فقد تكون مخابرات عامة أو جوية أو عسكرية أو خارجية أو أمن دولة أو مكافحة تهريب والعد لاينته. المهم أننا وكوننا في سيارة عسكرية، فلم يخطر ببالنا أن إحدى تلك الدوريات ستقوم بايقافنا لأي سبب، ولكن يبدو أننا كنا على خطأ. فحين كنا نقترب من تلك الدورية، تقدم أحد العناصر من الطريق وبيده بندقيته الروسية وأشار لنا بيده لتخفيف السرعة، ولما قمت بذلك ولما أصبحت السيارة موازية له، حرك يده بطريقة فهمت منها أنه يطلب مني الاستمرار وعدم الوقوف. وهنا حصل مالم يكن متوقعاً، حيث ولم أكن قد ابتعدت عنه قليلاً حتى شاهدته في المرآة الخلفية وهو يرشقنا بزخة من رصاص بندقيته كانت كافية لأن أفرمل السيارة بقوة وصل زئيرها إلى دمشق وتركت جرحاً أسوداً عميقاً على الطريق وزكمت أنوفنا برائحة تآكل الدواليب. مشى العنصر (أبو شحاطة) مع سلاحه باتجاه سيارتنا، ولما وصل إلى نافذتي قال لي: "ليش ماوُقِفِتْ عِند الدورية، كان لازم قوصك يعني حتى تفهم؟" تمالكت أعصابي وقلت له بأني خففت السرعة حسب إشارته ولكني تابعت القيادة لأنه أشار لي بعدم الوقوف. نفى العنصر ذلك وقال بأنه أمرني بالوقوف وليس بتخفيف السرعة وأنه لذلك يشك بأننا نحمل مهربات وأنه بالتالي يرغب بتفتيش السيارة.

     طبعاً لاداعي هنا للذكر بأن العنصر من (الطائفة الكريمة)، فهذا مفروغ منه في (سورية الأسد)، وكنت قد هممت بالخروج من السيارة متوقعاً باقي الركاب القيام بالمثل حين حصلت المفاجأة الثانية الغير متوقعة. طلبت منا الفتاة صاحبة فكرة (مضايا) أن لانترك مقاعدنا في حين فتحت الباب وخرجت وحدها لتقف وجهاً لوجه مع عنصر الأمن، ثم وضعت يديها على خصرها وبدأت توجه الكلام له (رشاً ودراكاً وردحاً): "قرد، مو شايفنا طلاب جامعة؟ موعيب عليك جاي تتقاوى علينا؟ قلي انتو تابعين لأي فرع؟ روح قلو لرئيس الدورية يجي لهون بدي احكي معو" تدخل الفتاة بهذا الشكل الغير متوقع أصاب العنصر بالمفاجأة وجعله في موقع الدفاع بعد أن كان مهاجماً، فقد ساوره الشعور أن هذه الفتاة، وكونها من طائفته وكونها تتكلم بهذه الثقة وبهذا النفس، فلا شك أنها مدعومة، وبالتالي فان إصراره على التفتيش والذي الهدف منه أصلاً هو الاستيلاء على بعض المشتريات، قد يؤذيه أو على الأقل يكون مضيعة للوقت. استغلت الفتاة تردد العنصر وبادرته بالسؤال عن اسم ضيعته، وقالت له بأن لكنته تشبه لكنة أهالي الضيع المجاورة لضيعتها، وفعلاً فقد وجدت أنه من ناحية لاتبعد كثيراً عن ضيعتها وبدأت تسأله عن (أبو ليلى) و(أم سومر). لم تمض دقائق حتى اعتذر العنصر من الفتاة على إيقافنا بتلك الطريقة وقال بأننا نستطيع المغادرة، فعادت إلى السيارة وعلى وجهها علامات الانتصار، ولما ابتعدنا قليلاً قالت لنا: "هادا واحد (كر) بيسوى فرنك هو وضيعتو وأهل ضيعتو"

    هذه هي سورية الأمس واليوم للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، فهنا تتحول مزاجيات عناصر الأمن إلى إرهاب دولة يضع كافة المواطنين تحت زخات الرصاص ويجعل الكلمة الأولى والأخيرة للمحسوبيات والطائفية.

وسوم: العدد 748