سنركب حمارة أمريكا
الموقف العربيّ والاسلامي الرّسميّ من اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لاسرائيل، والمباشرة بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس ينطبق عليه ما جاء في موروثنا الشّعبيّ بأنّ فتاة غاية في الحسن والجمال، سليلة أسرة فقيرة، وابنة رجل فقير نذل، اعترضها أحد أبناء الاقطاعيّين الذي يملك أبوه بيّارة برتقال، عند عين الماء وألقى في جرّتها عشرة قروش وقال لها: سأعطيك سلّة برتقال أيضا إذا وافقت على معاشرتي كمعاشرة الأزواج، فغضبت البنت منه وشتمته، وهدّدته بأنّها ستخبر أباها عن ذلك الوغد؛ ليضع له حدّا، وعندما عادت إلى بيتها أخبرت والدها النّذل بما جرى لها، فأرغى وأزبد وهدّد بأنّه سينتقم من ذلك المعتدي ومن أسرته، وأنّه "سيعاشر" حمارة أهله! وهذه هي ردود الفعل العربيّة والاسلاميّة الرّسميّة التي لم تشهر أمامها أسلحة الشجب والاستنكار المعتادة! واكتفت بالتّحذير من عواقب ذلك القرار، ووصلت قمّتها في التّحذير بما هدّد به "السّلطان العثمانيّ" أردوغان قبل اعلان ترامب بقطع العلاقات مع اسرائيل، واكتفى بعد الاعلان بدعوة وزراء خارجيّة ما يسمّى "دول التّعاون الاسلامي" لبحث الموضوع.
وترامب يدرك تماما مدى ردود فعل وكلائه في المنطقة قبل اعلان قراره، الذي ستكون له انعكاساته الخطيرة على الصّراع في المنطقة، وهو يعلم قبل غيره مواقفهم مسبقا، لأنّ إدارته هي من تمليها عليهم. وقد مهّدت أمريكا لذلك باحتلال العراق في العام 2003، وتدميره وقتل وتشريد شعبه، واستمرّت باشعال الفتن الطّائفيّة فيه حتّى يومنا هذا، وواصلت عدوانها من خلال وكلائها العرب والمسلمين من خلال إشعال نار الفتنة والاقتتال في سوريّا وليبيا واليمن وسيناء المصريّة، بتمويل وتدريب وتنسيق عربيّ واسلاميّ، واستبقت ذلك بتقسيم السّودان، وزادت على ذلك بأن أوعزت لحلفائها العرب بالتّنسيق والّتعاون والتّحالف مع اسرائيل للتّصدي لما يسمّى "الخطر الشّيعيّ الايرانيّ.
ويلاحظ أنّ أيّا من القادة العرب والمسلمين لم يجرؤ على طرد السّفير الأمريكيّ وقطع علاقاته مع أمريكا، أو حتّى مع اسرائيل التي تواصل احتلالها للأراضي الفلسطينيّة والجولان السّوريّة منذ أكثر من خمسين عاما، لكنّهم كانوا سبّاقين بتجميد عضوية سوريا في الجامعة العربيّة، وفي قطع العلاقات مع سوريا؛ لأنّها تصدّت لمشروع الشّرق الأوسط الجديد الأمريكيّ، الذي يسعى لإعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة، وتدعم المقاومة المتمثّلة بحزب الله اللبناني، وحركتي حماس والجهاد الاسلاميّ الفلسطينيّتين. كما سارعت دول عربيّة في قطع العلاقات مع قطر في الصّراع معها على الفوز بسباق المولاة لأمريكا!
ولو كانت أمريكا تخشى حظرا اقتصاديّا على منتوجاتها، وتهديدا حقيقيّا لمصالحها في المنطقة، لما تجرّأت على اتّخاذ قرارها بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل.
ومعروف أنّ أمريكا التي اتّخذ الكونجرس فيها قرار الاعتراف عام 1995 بالقدس عاصمة لاسرائيل، قد باشرت فورا ببناء سفارتها في المنطقة منزوعة السّلاح بين جبل المكبر وصورباهر، وهي من الأراضي المحتلّة في حرب حزيران 1967، ونقلت إليها قنصليّتها التي كانت تعمل في القدس الشّرقيّة المحتلة.
وليس خافيا على أحد بأنّه لا فرق بين اسرائيل وأمريكا في الصّراع الشّرق أوسطي، فاسرائيل هي القاعدة العسكريّة الأمريكيّة المتقدّمة في المنطقة، وهي تواصل احتلالها للأراضي العربيّة بالسّلاح الأمريكيّ، وتواصل استيطانها في هذه الأراضي بالمال الأمريكيّ، والتّغطية السّياسيّة الأمريكيّة لها في المحافل الدّوليّة وفي مقدّمتها الأمم المتّحدة.
واستمرارا في الرّضوخ العربيّ الرّسمي للاملاءات الأمريكيّة والاسرائيليّة، فإنّ القادم أسوأ بكثير ممّا هو عليه الآن، وقد يتمثّل بالاعتراف باسرائيل كدولة يهوديّة، وما يترتّب على ذلك من قتل وتشريد ما تبقّى من الشّعب الفلسطينيّ على أرض وطنه.
ويجدر التّنويه هنا أنّ ما نصّت عليه اتّفاقات أوسلو بتأجيل قضيّتي القدس والمستوطنات إلى مرحلة الحلّ النّهائيّ، هي التّي مهّدت إلى ما وصلنا إليه الآن، وأنّ حلّ الدّولتين مجرّد سراب بعيد المنال، فالسّلطة الفلسطينيّة لن تكون أكثر من إدارة مدنيّة كما تريدها أمريكا واسرائيل، ولن يتغيّر الحال ما لم يتغيّر العرب عندما تستيقظ الشّعوب من سباتها العميق.
وسوم: العدد 749