طائرة عزّام الأحمد المخطوفة
أثار تصريح عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ومسؤول ملف المصالحة مع حركة حماس، عزام الأحمد، بأن غزة بمثابة طائرة مخطوفة، موجة كبيرة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي التي حفلت بالتغريدات الساخرة ورسوم الكاريكاتير المندّدة بما نطق به الأحمد، في قوله إنّ "غزة طائرة مخطوفة، ولا تفاوض مع الخاطفين، واليوم هناك قاعدة في العالم أنّه يجب عدم التفاوض مع الخاطفين، فإمّا أن يستسلموا أو تُهاجَم الطائرة". وفي تصريحاتٍ أخرى مصورة له، قال عزّام الأحمد إنّه حتى مع قطع الهواء عن غزة، وهذا رأيه منذ البداية.
لا تهدف المقالة إلى تتبع ردود الفعل الساخرة أو الغاضبة على هذه التصريحات، وهي غيض من فيض، وبعضها يذكّرك بأنّ أهل غزة، والفلسطينيين عمومًا، لم يفقدوا بعد حسّ الفكاهة، على الرغم من أنف الحصار والاحتلال وظلم ذوي القربي.
اللافت أنّ عزّام الأحمد هو مسؤول ملف المصالحة مع حركة حماس، منذ أن بدأت محاولات المصالحة وجولاتها وصولاتها المتعدّدة في عواصم عربية، وقد تعوّدنا دومًا في كل محاولة فاشلة سابقة للمصالحة أن تطالعنا الصحف بصورته مبتسمًا ومعانقًا رفيقه في هذه الرحلة الطويلة القيادي في "حماس"، موسى أبو مرزوق، وتجرّعنا تصريحاته المضللة المتفائلة بحدوث المصالحة أو الاقتراب منها بعد كل جولة وفي أثنائها، فما الذي تغيّر، وجعله يُرينا وجهًا آخر لم نألفه منه من قبل؟ مع أنّ الأمل في تحقيق مصالحة فلسطينية هذه المرة أقوى من المرات السابقة وأكثر واقعية. وفي الحدّ الأدنى، قد يصل الفريقان إلى معادلةٍ تتيح لهما إدارة الانقسام، بانتظار جلاء ملف التسوية والمبادرة الأميركية التي هلّت تباشيرها بتسريباتٍ عن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وتجرّع الرئيس محمود عباس بعضًا من تفاصيلها لدى زيارته أخيرا الرياض. فضلًا عن انتظارٍ مشوب بالقلق والحذر من ترتيبات إقليمية تتعلّق بفلسطين، وتمسّ بالأردن، من دون أن يعلم الطرفان أو يشاركا في صياغتها.
لا يمكن تحليل تصريحات عزّام الأحمد في معزل عن السياق العام لتصريحات زملائه في
السلطة الفلسطينية، وبعيدًا عن مسار الحوادث التي أدّت إلى رعاية النظام المصري اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ورعايته قبل ذلك الحوارات واللقاءات التي جمعت، بإشراف من المخابرات العامة المصرية، بين حركة حماس والقيادي المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، في القاهرة، والتي أسفرت عن تفاهمات بين الطرفين، وعن توريد للمحروقات المصرية بدلًا من مثيلتها التي قرّرت السلطة الفلسطينية وقفها ضمن عقوبات الرئيس عباس على القطاع، وعن تأليف لجنة مصالحة مجتمعية رصدت لها الإمارات العربية المتحدة 50 مليون دولار أميركي.
واضح تمامًا أنّ السلطة الفلسطينية فوجئت بالمبادرة المصرية، وبدعوة وفدها إلى القاهرة للتوقيع على اتفاق مصالحة أُعدّ سلفًا. وأنّ الرئيس محمود عباس فوجئ بأنّ ثمّة موافقة أميركية على عودة النظام المصري إلى الملف الفلسطيني، وفوجئ أكثر بالطريقة التي تعامل فيها النظام المصري مع هذا القرار، أكان ذلك بالانفتاح على حركة حماس أم بتصدّر محمد دحلان المشهد، ردّا لا لُبس فيه على العقوبات التي فرضها على قطاع غزة. بحيث بدا لأهل القطاع أنّ ثمّة اتفاقًا دحلانيًا حمساويًا كاملًا لإدارة الأمور برعاية مصرية، وأنّ مثل هذا الاتفاق المدعوم بالمال الإماراتي سيُخفّف من وطأة الحصار وانقطاع الكهرباء، ويفتح معبر رفح، شريان غزة، على العالم الخارجي، قبل أن يتراجع دحلان عن المشهد، وتُقحم فيه السلطة الفلسطينية التي كانت في ذلك الوقت تُبحر في اتجاه آخر، فهي بعد أن اطمأنت إلى أنّ مساعي الرباعية العربية لإعادة دحلان إلى المشهد السياسي الفلسطيني قد تراجعت، وبدلا من أن يسعى أركان السلطة، بعد مؤتمر بيروت للفصائل الفلسطينية، إلى تعزيز إجراءات الوحدة الوطنية، وتفعيل الإطار القيادي الموحّد، فقد انساقوا، بعد الانتخابات الأميركية، وراء الاتجاه العربي الداعي إلى تجريم جماعة الإخوان المسلمين، واعتبار "حماس" حركة إرهابية ضمن مسلسل القرارات الداعية إلى حصار قطر، حيث ظنّوا أنّ الفرصة مواتية الآن لعزل "حماس" ولتشديد الحصار على غزة.
واضح أنّ قيادة السلطة ما زالت مرتبكة بشأن المصالحة التي تمت أخيرا، بل وتتوجس منها وتعجز عن تفسيرها، فهي ما زالت مسكونة بأنّ هناك اتجاها عاما في المنطقة لضرب الإسلام السياسي، وهي وطدت نفسها لتكون جزءًا منه. لم تدرك السلطة في رام الله أنّ مصر قد عادت لتُمسك بالملف الفلسطيني، وأنّها تسعى لعزل حركة حماس عن "الإخوان المسلمين"، وتريد منها أن تضمن حدود غزة مع سيناء، وأن تضمن أن لا تصبح غزة قاعدة خلفية للمتطرّفين العاملين في سيناء، وقطعًا لن تحصل مصر على مباركة سعودية وإماراتية، وتفويض أميركي وإسرائيلي، من دون تعهدها بضبط الأمور في غزة، وضمان هدوء جبهتها مع الصهاينة، واحتواء سلاح المقاومة عبر تحويل جزءٍ منه للأمن الداخلي وحراسة الحدود، وبقاء الجزء الآخر في المستودعات. وهي ترتيبات وثيقة الصلة بما هو قادم ضمن مبادرة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ولعلّها تتعلّق أيضًا بمرحلة ما بعد الرئيس محمود عباس.
نتيجة هذا الخوف والتوجس، وعدم القدرة على تفسير الحوادث، جاءت ردة فعل السلطة
مرتبكة، عبر قراراتها وتصريحات قادتها، بغرض وضع عراقيل أمام المصالحة، فعقوبات الرئيس لم تُرفع، وثمّة حديث متكرّر عن أنّ السلاح الواحد أزعج المصريين، ما حمل الرئيس محمود عباس على إصدار قرار بمنع الإدلاء بأي تصريحاتٍ تتعلّق بالمصالحة. إضافة إلى القرارات العشوائية بعودة الموظفين، وطرح شعار التمكين بدلا عن الشراكة، بحيث بدا أنّ ثمّة اتجاها واضحا لعرقلة المصالحة يزداد يومًا بعد آخر أو لفرض شروط تقوم على مبدأ غالب ومغلوب، وتصفية حسابات واستسلام كامل، كما يفترض عزّام الأحمد في تصريحه عن الطائرة المخطوفة، وما دون ذلك فالويل والثبور وعظائم الأمور.
لا يمكن فهم ذلك كله إلّا من باب العجز عن رؤية الواقع كما هو والمتغيّرات الموجودة فيه، وعِوضًا عن ترك الملف الفلسطيني يعبث به الآخرون، ويستخدمون معاناة الشعب الفلسطيني لفرض شروط قاسية عليه، في سعي دؤوبٍ من أجل ترويضه وإخضاعه لشروطهم في عملية التسوية، يتحتم على الحركتين، وفي ظل تهديدات ترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وما تسرّب عن مبادرته التي يصعب على أي فلسطيني أو عربي القبول بها، تجاوز ذلك كله والسعي نحو إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني.
وسوم: العدد 749