طبيعة الممارسة السياسية في الإسلام

د. سعد الدين العثماني

 يعد الحديث عن الاصلاح السياسي في البلدان العربية والإسلامية هو الشغل الشاغل للمثقفين العرب إلا أن الجوانب المعرفية لا تزال قاصرة وفي حاجة إلى المزيد .

 وتصرفات الرسول بالإمامة لم يهتم بها العلماء لتطوير التجربة السياسية المعاصرة للمسلمين .

 إن الحركة الإسلامية لا تحمل تصوراً واحداً لأمور الإصلاح السياسي، بل تتجاذبها مدارس متنوعة، وهذه ظاهرة إيجابية وإثراء للعمل السياسي .

 والتيار العام للحركة الإسلامية هو تيار يتبنى الفكر الوسطي المعتدل، وينبذ كل أشكال العنف .

 والسمة الغالبة لهذا التيار التدرج، وطول النفس، وعدم التسرع ، والقفز على معطيات الواقع بغية اختصار طريق الإصلاح ...

تنوع التصرفات النبوية :

 يرى بعض العلماء أن تصرفات الرسول كلها من نوع واحد صادر عن الوحي ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) .

 ولكن بين الكثير من الأصوليين خطأ هذه النظرة من أمثال : ابن قتيبة والقاضي عياض وابن قيم الجوزية والشاه ولي الله الدهلوي ومن المعاصرين الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ..ولكن أكثرهم توسعاً هو الإمام شهاب الدين القرافي (ت 684هـ ) صاحب الذخيرة والفروق والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام .

 ويمكن تقسيم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نوعين :

أ‌-      تصرفات تشريعية : وتسمى السنة . وهي ما صدر عن الرسول من تصرفات بقصد الاتباع والاقتداء ، وهذه التصرفات تقسم إلى قسمين:

1-تصرفات بالتشريع العام : وهي تتوجه إلى الأمة كافة إلى يوم القيامة ، وهي نوعان :

تصرفات بالتليغ : وهي الأحكام التي يبلغها الرسول عن الله ، وهو معصوم عن الخطأ في التليغ ، مثل الصلوات الخمس وسائر العبادات .

تصرفات بالفتيا : وهي تشريع عام للأمة كلها ، فهي بيان للشرع وتصدر عن الوحي .

2- تصرفات بالتشريع الخاص : وهي مرتبطة بالزمان والمكان وأحوال الأفراد ، وليست عامة للأمة كلها ، وهي ملزمة للأفراد أصحاب العلاقة ، وهي صنفان :

أ-التصرفات بالقضاء : وهي أحكام الرسول في القضاء حين الفصل بين المتخاصمين ، وتحتاج إلى أدلة وبراهين وشهود ، فهي أحكام خاصة غير ملزمة لغيره صلى الله عليه وسلم بل هي لأي قاض أن يحكم باجتهاده .

ب‌-                        التصرفات بالإمامة : وهي تصرفات الرسول بوصفه رئيساً للدولة .

ت‌-                        التصرفات الخاصة : هي التصرفات التي تخص أفراداً معينين، ويسميها الفقهاء ( قضايا الأعيان )

ث‌-                        تصرفات غير تشريعية : وهي لا تدخل في باب السنة . ولا يقصد بها الاقتداء، وهي /5/ أنواع :

1-التصرفات الجبلية : وتشمل أقواله وأفعاله الصادرة بمقتضى البشرية المحض .

2-التصرفات العادية : وهي ما يتصرف به على عادة قومه من أكل وشرب ولباس وزواج ..

3-التصرفات الدنيوية : وهي تصرفات الرسول -عليه السلام- التي تخضع للخبرة البشرية مثل : الزراعة، والصناعة، والطب، فهي متروكة لمعارف الناس وتجاربهم ..مثل تأبير النخل .

4-التصرفات الإرشادية : وهي توجيهات ترشد للأفضل من منافع الدنيا ، مثل حديث (بريرة ) عندما تشفّع النبي لزوجها، فقالت : أتأمرني يا رسول الله !! فقال : لا بل أشفع 0 فقالت: لا حاجة لي فيه .

5- التصرفات الخاصة به صلى الله عليه وسلم لا يشاركها فيها أحد من أفراد الأمة مثل الوصال بالصيام ، وقيام نصف الليل، والزواج بأكثر من أربع ...

التصرفات النبوية بالإمامة :

 وهي تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفه رئيساً يدير شؤون الدين والدنيا ويحقق المصالح، ويدرأ المفاسد .

وتصرفات الإمام : هي وصف زائد عن النبوة والفتيا والقضاء .

ويختلف هذا المقام عن غيره بأمرين :

1-أن الإمام مفوض بتسيير أمور الخلائق فهو يحقق المصالح، ويدرأ المفاسد، ويقمع الجناة ، ويقتل الطغاة ، ويقوم بتوطين العباد في البلاد .

2-أن الإمام يمتلك قوة التنفيذ، وهذا شيء لا يملكه المفتي ولا القاضي .

سمات التصرفات النبوية بالإمامة :

 يمكن حصرها في أربع سمات، وهي :

1-تصرفات تشريعية خاصة : وهي التي التصرفات الجزئية التي تهتم بتدبير الواقع وسياسة المجتمع ، وهي ليست دائمة جامدة إلى قيام الساعة بل تتغير بتغير الزمان والمكان ، مثل قوله : من أحيا أرضاً ميتة فهي له . فالإمام يعطيها لمن يشاء في عهده. أما في عهد غيره فالحكم يتغير .ويرى الإمام أبي حنيفة : أن الإحياء لا يكون إلا بإذن الإمام .

2- تصرفات مرتبطة بالمصلحة العامة : وتهدف التصرفات بالإمامة إلى تحقيق مصالح العباد العامة ، ويشترط الإمام القرافي في الإمام (أن يكون عارفاً بتدبير المصالح وسياسة الخلق ) .

ومن الأمثلة عليه نهي النبي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث بسبب الجوع والقحط، وفي العام التالي نزل الرخاء فأمرهم بالأكل والصدقة والإدخار .

3- تصرفات اجتهادية : فالرسول قد يبلغ أمراً عن الله، فيكون معصوماً يجب طاعته ، ولكن عندما يحكم كرئيس للدولة فهو مجتهد قد يصيب، وقد يخطئ، وحكى الإمام الشوكاني الإجماع في حق الأنبياء بأنهم يجتهدون بمصالح الدنيا وتدبير الحروب... ونحوها .

وأمثلة ذلك كثيرة :

 فقد أراد الرسول في غزوة الخندق مصالحة غطفان على ثمار المدينة، فرفض الصحابة ذلك، فرجع عن رأيه .

 وكذلك مسألة تأبير النخيل –التي رواها مسلم - فهي رأي ومشورة، وليست وحياً .

 وكان الصحابة يميزون بين الاجتهاد النبوي والوحي، وإذا اشتبه عليهم الأمر سألوه كما فعل الحباب بن المنذر في معركة بدر الكبرى .

 وفي غزوة تبوك أراد رسول الله نحر الإبل، فأشار عليه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - بأننا لو فعلنا ذلك لقلّ الظهر، ولكن نجمع الزاد فتدعو الله لنا بالبركة، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وبعد :

نستنتج مما تقدم ما يلي :

-هناك نوع من التمييز بين الدين والدنيا في الإسلام .

-يجب إزالة أي نوع من القداسة عن الممارسات السياسية حتى لا يصير ذلك احتكاراً لها باسم الدين، أو حجراً على التفكير والإبداع .

-تغير التصرفات بتغير المصالح، وهذا يضمن حركة التطور والنمو في المجتمع، كما يكون قانوناً للمجتمع لكنه قانون مدني لا يأخذ الطابع الأبدي والمطلق، وعملية صياغة القانون عملية تاريخية متحركة تقوم بها كل مؤسسة تشريعية في المجتمع، وهي غير ملزمة، تتغير بتغير الزمان والمكان .

____________

مقتطفات من كتاب "الدين و السياسة تمييز لا فصل" للدكتور سعد الدين العثماني

وسوم: العدد 750