انعدام فرص الشغل والبطالة والبون الشاسع في مستويات العيش تولد الإجرام والعنف والإرهاب

انعدام فرص الشغل والبطالة وانسداد الآفاق والبون الشاسع في مستويات العيش بين الفئات الاجتماعية كلها أمور تولد الإجرام والعنف والإرهاب أيها المسؤولون

أعود مرة أخرى إلى موضوع عقد الجهات الأمنية مؤخرا العزم على تعقب الشباب الذي يرتاد المساجد ويواظب على الصلوات الخمس وخصوصا صلاة الصبح  كإجراء احترازي من انزلاقهم  نحو الإرهاب حسب ما نسب لجريدة ورقية نشرت هذا الخبر لأقول إن  بيوت الله عز وجل وهي أماكن عبادة وتربية مثالية وبامتياز لا تصنع ولا تكوّن المجرمين والإرهابيين  بل تكوّن المؤمنين المتقين الذين يطمئن الناس إليهم لتربيتهم الدينية العالية والمثالية . ولقد آن الأوان لفك الارتباط مع دلالة الإرهاب بالمفهوم الصهيوني حيث يعرف الصهاينة الإرهاب بأنه حمل السلاح ضدهم لتحرير الأرض التي احتلوها بقوة السلاح ، ولا يمكن أن يستقيم هذا التعريف للإرهاب بل الإرهاب هو أن يحمل البعض السلاح دون سبب ودون مبرر ، ويمارس القتل من أجل القتل، وهذا إجرام  يختلف عن المقاومة من أجل نيل الحرية والاستقلال . ويتعين على كل دول العالم أن تحدد بوضوح وجلاء أنها لا توافق الكيان الصهيوني ومن يؤيده في احتلاله في تعريفه للإرهاب  الذي يلصق بالمقاومة . وبعد فك الارتباط بدلالة الإرهاب باللمفهوم الصهيوني لا بد من تبرئة الإسلام من الإرهاب الذي  كما قلنا يعني ممارسة العنف من أجل العدوان ودون مبرر أو دون وجه حق ، والبحث عن مصادر تفريخه واحتضانه الحقيقية التي يغض عنه الطرف عمدا وعن سبق إصرار من أجل وضع الإسلام ظلما وعدوانا في قفص الاتهام مجاراة للطرح الصهيوني والطرح السائر في فلكه ودائرته .

إن مصادر صناعة أو تصنيع الإجرام والعنف والإرهاب معروفة منذ القدم، وهي انعدام لقمة العيش التي تكون بسبب انعدام فرص الشغل والبطالة ،الشيء الذي يخلق فوارق بين الناس فيكون البون الشاسع في مستويات العيش بينهم  بحيث يتمرغ البعض في رفاهية العيش بينما يعاني البعض الآخر من شظف العيش فيتولد عن ذلك حقد الفقير المعدم على الثري المنعّم  . ولقد سجل التاريخ البشري الطويل  عبر حقبه ما نتج عن هذا الوضع من حروب طاحنة بحيث كانت أمم تغير على أخرى حين تفتقر إلى لقمة العيش ، وكان على مدار التاريخ الفقير المعدم يهاجم الغني  المنعّم لأنه يرى بأنه سبب شقاوته في الحياة . ولقد شهدت حقب تاريخية ظهور إيديولوجيات وفلسفات تبرر عنف الفقراء ضد الأثرياء .

وإذا عدنا إلى واقع الحال نجد أن سبب انتشار العنف والإجرام والإرهاب هو الفقر لا غير ، لهذا من العبث نسبة هذه الآفات إلى أمور أخرى بريئة براءة الذئب من دم يوسف كما يقال . فإذا صح أن الذئب أكل نبي الله يوسف عليه السلام يصح أيضا  أن يكون الإسلام هو صانع الإرهاب والإجرام والعنف وحاشاه أن يكون كذلك . وقد تلتبس عند البعض علاقة بعض الممارسين للعنف والإجرام والإرهاب بالتدين، فيرجعون ممارستهم  تلك إلى الدين دون الوقوف على الأسباب الحقيقية وراء ذلك . ولقد عرف الخوارج  من إباضية ، وأزارقة، وصفرية،  وحرورية أو نجدات في صدر الإسلام بالجمع بين الإجرام والعدوان واستباحة الأرواح والدماء  من جهة وبين التدين  من جهة أخرى ، ففيهم يروى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "  يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرءون القرآن ولا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، تنظر في النصل فلا ترى شيئا ،ثم تنظر في القدح فلا ترى شيئا ،ثم تنظر في الريش فلا ترى شيئا ،ويتمارى في الفوق ". فهؤلاء لم يكن خروجهم على المسلمين وإجرامهم بسبب تدينهم  بل كان بسبب مروقهم من الدين وإن تظاهروا بالتدين حتى أن من يراهم يصلون ويصمون ويقرءون القرآن الذي لا يجاوز حناجرهم يحقر صلاته وصيامه  وقرآنه . إن هؤلاء كان دافعهم إلى الخروج على المسلمين والمروق من الدين الطمع في السلطة والمال . وكان دعاة هؤلاء يستدرجون  إلى تنظيماتهم الإجرامية الفقراء والصعاليك ويخدعونهم بالتدين المغشوش . ولكل عصر خوارجه، وقد ظهرت في هذا العصر نماذج جديدة منهم تلتقي مع النماذج القديمة في استغلال الدين وركوبه  لتبرير الإجرام والعدوان  والإرهاب ، وحقيقة إجرامها أن دعاتها يريد ون عرض الدنيا الزائل ، وضحاياهم من الفقراء والصعاليك  الذين تضطرهم الحاجة إلى امتهان الإجرام.

 ولمواجهة هؤلاء لا يمكن اعتماد المقاربات الأمنية وحدها وتجييش الجيوش بل لا بد من مقاربات اقتصادية تقلص الفوارق في العيش  بين الفئات الاجتماعية ،وتوفر فرص الشغل للجميع ، وتقضي على انسداد الآفاق لدى الجميع . وتأتي المقاربات الأمنية بعد المقاربات الاقتصادية لأن بعد تطبيق  هذه لا يبقى مبرر لممارسة الإجرام والعنف والإرهاب حيث ينشغل الجميع بشغلهم ، ولا تدفع الحاجة بعضهم للعدوان ضد البعض الآخر . وما لم يقع التفكير الجدي في تقليص الفوارق في العيش بين الفئات الاجتماعية سيظل العنف والإجرام والإرهاب سيد الموقف ، ولن تجدي معه مقاربات أمنية أو مراقبات أو مطاردات .

إن سنوات الجفاف المتتالية هجّرت شباب البوادي من بواديهم إلى الحواضر ، كما هجرت بعضهم خارج  حدود الوطن طلبا للقمة العيش التي كانت توفرها لهم بواديهم ، فوجدوا أنفسهم في فقر أشد وهم في هوامش الحواضر وأحيائها الصفيحية ، وفي البلاد الأجنبية  لفي ظروف مزرية ، وولّد ذلك لديهم حقدا على الناس ، وصاروا مادة خاما لتجار الإجرام يوظفونهم مقابل لقمة العيش  الملطخة بالإجرام ، ويورطونهم في جرائم فظيعة ضد الأبرياء فيروعونهم .

ومن السخف أن يتحدث البعض عن انجرار بعض ضحايا تجار العنف نحو العمليات الانتحارية رغبة في الجنة والحور العين كما يزعمون ، والحقيقة أن الانتحار إنما يكون حين يبلغ اليأس بالمنتحرين مبلغه، وذلك حين تنسدّ الآفاق أمامهم، فيرون غيرهم يعيش في بحبوحة من العيش ، وهم لا يجدون لقمة تسد مخمصتهم ، فيفكرون في زوال نعمة غيرهم  حسدا وحقدا بقتله  والموت معه عن طريق العمليات الانتحارية، وكل هذا لا علاقة له بالدين إنما سببه الحرمان من نعيم الدنيا وحورها ، وليس الرغبة في نعيم الآخرة والحلم بحورها .

فما الذي حرك  بالأمس جهة الريف سوى هلاك السمّاك في حاوية الزبالة وهو يدافع عن لقمة عيشه ؟ وما الذي حرك اليوم جهة الشرق سوى هلاك شقيقين في بئر الفحم الحجري طلبا للقمة العيش ؟ هل كانت وراء هذه الحراكات بيوت الله عز وجل،  فما لكم أيها المسؤولون فكيف تحكمون ؟

إن الفقر أيها السادة لا يعالج بالوعود بالمشاريع  بل يعالج بتنزيل المشاريع وأجرأتها ، ولا يعالج بتجييش القوات لمنع المظاهرات بذريعة المحافظة على الأمن . وإن أول من يخلّ بالأمن هم الذين يساهمون في انسداد الآفاق الممهدة للفقر والفاقة  ومن ثم للعنف والإجرام والإرهاب . ولا بد أولا من  توفير أمن معيشي  يوطد للأمن الذي تعدّ له قوات الأمن . وحين يوجد الأمن المعيشي فلا حاجة بعد ذلك لجيوش قوات الأمن التي تصرف عليها مبالغ مالية ضخمة لو أنها تصرف على محاربة الفقر لتحول الفقراء  أنفسهم إلى حراس أمن بعد أن يتذوقوا شيئا من طعم الرفاهية التي تصيب غيرهم بالتخمة ، ورحم الله من قال : "رب مخمصة شر من التخم ". فهل ستتغير عقلية المسؤولين في حل معضلة البطالة وانسداد الآفاق  وهما سبب العنف والإرهاب أم أنهم سيظلون على تغريدهم في محاربة العنف والإرهاب الذي ينسبونه لبيوت الله عز وجل وهي منه براء ؟

وسوم: العدد 752