الحكمة تقتضي التريث في تعميم الأحكام على خطباء الجمعة وعلى المخاطبين
لقد أثارت الورقة الإطار الصادرة عن المجلس العلمي الأعلى والموجهة خصيصا إلى الخطباء ردود أفعال مختلفة لدى الخطباء ولدى الرأي العام الوطني، وتجلى ذلك من خلال مناقشة بعض الأقلام موضوع خطابة الجمعة على المواقع الإعلامية . ولقد سبق لي أن عرضت مضمون الورقة الإطار، كما عرضت وجهة نظري فيها كخطيب على هذا الموقع . والذي جعلني أطرق هذا الموضوع مرة أخرى هو بعض وجهات النظر المعبر عنها، والتي تتعلق بنقد نماذج من الخطباء أخذ عليهم تناول قضايا ذات حساسية بالنسبة لأصحاب وجهات النظر هذه كقضية سفر المرأة المسلمة مع ذي محرم أو قضية زيارة الأضرحة . وأول ما لوحظ على الخطيبين اللذين أثار هاتين القضيتين فئتهما العمرية، فقد كانا شابين وواضح أن القصد وراء ذكر سنهما هو الإشارة تصريحا لا تلميحا إلى قلة خبرتهما ، علما بأن عمر الخطيب لا يزيد ولا ينقص من خبرته وكفاءته، فقد يتفوق الخطيب الشاب في حين يتعثرالخطيب الشيخ والعكس يصح أيضا . والحكمة تقتضي التريث وعدم تعميم الأحكام على خطباء الجمعة وعلى مخاطبيهم، ذلك أنه قد يكون الخطيب في المستوى ، ويتخلف عن مستواه مخاطبيه ، والعكس يصح أيضا . ولا جدال في ضرورة تمكن الخطيب من كل ما يمت بصلة لمهمته التربوية والتوجيهية من علم ومعرفة وخبرة بأساليب مخاطبة الناس على قدر عقولهم ، وبما يقتضيه المقام من مقال . وقد قال الإمام البخاري رحمه الله : "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذّب الله ورسوله " . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : " ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " . وروى البخاري رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى على معاذ بن جبل رضي الله عنه ثلاثا ، وكان معاذ يجيبه كل مرة لبيك وسعديك يا رسول الله فقال له : " ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله من قلبه إلا حرّمه الله على النار ، فقال معاذ يا رسول الله : أفلا أحدث به الناس فيستبشرون؟ قال : إذن يتّكلوا " فأخبر بها معاذ عند موته تأثما. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان على علم بأحوال الناس في تلقي الأخبار لأنهم ليسوا جميعا يحسن معهم الإبلاغ بما أخبر به معاذ لئلا يتقاعس بعضهم أو جلهم عن العمل بسبب سوء فهم لقوله عليه السلام . وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله : " يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه ، فلا يلقى إليه ما لا يبلغه عقله فينفر أو يخبط عليه عقله ، ولذلك قيل : كل ـ بكسر الكاف ـ لكل عبد بمعيار عقله، وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك وإلا وقع الإنكار بتفاوت المعيار " .
ويفهم من هذا أن الخطيب قد يحدث الناس بما لا يمكن الطعن في صحته ومصداقيته لكن وقع حديثه يختلف حسب اختلاف مستويات مخاطبيه العقلية والإدراكية لأنهم فئات غير متجانسة كل ما يجمعهم هو الرغبة في أداء فريضة الجمعة ، ومنهم من لا يستوعب الكلام باللسان العربي الفصيح أصلا ، ولا يفهم ما يقال في خطب الجمعة بل يحضر بنية الحصول على أجر الاستماع وحضور الصلاة بعد ذلك ، وهو يحتاج إلى من يلخص له مضمون الخطب باللغة التي يفهمها ، ولا يسترعي انتباهه من كلام الخطيب سوى بعض الجمل باللغة العامية التي يفهمها ويستوعبها . ولا زلت أذكر يوم اتصل بي أحد العوام فشكا لي عدم فهمه ما أقول في خطبي حين أتحدث "بالحفصى " على حد تعبيره ،وهو يقصد الفصحى ، وفي اعتقاده أن العربية السوية هي العامية التي يفهمها هو . وأذكر أيضا يوم اتصل بي مجموعة من كبار السن للمطالبة بترجمة ما أقول من الفصحى إلى العامية ، ولما لبيت طلبهم ،وجدت معارضة شديدة من بعض المتعلمين لأنهم استثقلوا تلبية طلب هؤلاء المسنين ولأن ذلك كان على حساب وقتهم الثمين على حد قولهم ،وكأن المسنين لا وقت لهم أولا قيمة لوقتهم .
ولا يجب أن يفهم من مخاطبة الناس حسب عقولهم العزف على أوتار أهوائهم لأن خطب الجمعة عبارة عن دورات لتدريب الناس على الاستقامة وفق ما شرع الله عز وجل والتعديل من سلوكاتهم المنحرفة عن شرعه . وكثير من المخاطبين يسيئون الظن بالخطباء حين يتناولون بالنقد والتصحيح بعض الانحرافات ظنا منهم أنهم يستهدفونهم . وأذكر يوما أن أحد الإخوة الخطباء تناول في خطبته موضوع التحذير من آفة التدخين ، فأغضب ذلك صاحب دكان يتاجر في التبغ وظن أنه هو المستهدف بكلام الخطيب الذي يريد أن يقطع رزقه ، ولا شك أن كلام الخطيب قد أغضب كل المدخنين وكل من يتاجر في التبغ . وعلى موضوع التدخين تقاس مواضيع أخرى كلباس المرأة حيث يغضب الآباء والأزواج حين ينتقد الخطباء السفور لأن بناتهم أو زوجاتهم يخرجن سافرات ، ويعتقدون أن الخطباء يستهدفونهم . وما قيل عن التدخين والسفور ينطبق على القروض الربوية وغيرها من الأمور التي نهى عنها الشرع . فإذا ساير الخطباء المخاطبين في أهوائهم تعين عليهم تنكب الحديث عن هذه المنهيات تجنبا لإثارة سخط المخاطبين ونفورهم منهم . وتوجد فئة من المخاطبين لا هم لها سوى عدّ الوقت الذي تستغرقه الخطب ، وهم يستثقلون تلك الخطب ليس لمضامينها أو لطرق إلقائها بل لما تستغرقه من وقت لأنهم يستعجلون مغادرة المساجد . وقد بلغت الجرأة بأحدهم أن يعلق لي عدة مرات على المنبر ورقة يطالبني فيها باختصار وقت الخطبة وتكييفها حسب هواه . ومعلوم أن الذي يجعل المخاطبين يستثقلون وقت الخطب هو خلوها من الفائدة ، أما إذا كانت مفيدة فاستثقالهم لوقتها دليل على عيب فيهم لا في الخطب والخطباء .
وعلى كل حال لا يجب التسرع في الحكم على الخطباء أو المخاطبين ،فهؤلاء وهؤلاء كلهم يقع في الخطإ ، وليس الخطباء ولا المخاطبون سواء. ولا يستقيم الحديث عن خطباء ومخاطبين افتراضيين بل لا بد من مراعاة واقع حال هؤلاء وهؤلاء ، ذلك أن الواقعي ليس هو الافتراضي .
ولا يجب أن يصل الأمر إلى حد التساؤل عن جدوى خطب الجمعة في هذا العصر الذي يرى البعض أن الناس فيه أصبحوا في غنى عن هذه الخطب التي هي في الحقيقة صمام أمان، وقد ضعها الله عز وجل لتسد مسد دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم. وبقدر ما يوصى الخطباء بالمخاطبين خيرا يجب أن يوصى هؤلاء أيضا بالخطباء لأنهم دعاة وليسوا مطربين يقدمون ما يطلبه المستمعون من الألحان التي تطربهم . ولا فائدة من خطب تبشر ولا تنذر، كما أنه لا فائدة من خطب تنذر ولا تبشر . ولا خير فيمن لا يقبل النصح سواء كان خطيبا أم كان مخاطبا. وما لم يرتبط الخطباء والمخاطبون بمحبة خالصة لوجه الله تعالى، فلا خير في الجميع . وإذا كان الرجل لا يؤم القوم وهم له كارهون، فكذلك الخطيب لا يخطب في الناس وهم له كارهون. وعلى كل خطيب يحترم نفسه ، ويحرص على كرامته إذا أحس بنفور الناس منه أن يتركهم غير آسف عليهم . وعلى كل مخاطب لا تروقه خطب خطيب أن يلتمس غيره لأن المساجد في هذه المدينة ولله الحمد كثيرة لا تفصل بينها سوى مسافات قصيرة جدا .وإذا كانت الوزارة الوصية على الشأن الديني لا ترغب في فئة معينة من الخطباء فما عليها إلا أن تسرحهم سراحا جميلا ، فإما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وعليها أن تتحمل المسؤولية أمام الله عز وجل إن هي أسكتتهم دون سبب أو مبرر شرعي وجيه ، ومنعت استفادة المخاطبين من وعظهم وإرشادهم وتوجيههم .
وسوم: العدد 753