التوجه نحو الزيادة في تكاليف المعيشة مغامرة غير محسوبة العواقب
استغرب البعض اندلاع الحراك الشعبي فجأة في دولة إيران ، وتعددت التحليلات لهذا الحراك الذي أخذ توجها عنيفا بين شعب غاضب ونظام شمولي قمعي يقود البلاد باسم سلطة الدين ، وهي سلطة تضفي على نفسها القداسة ، وتتعالى على المساءلة والمحاسبة ، وتحمي نفسها بقوات حرس وميلشيات . والحقيقة أنه لا داعي للاستغراب لأنه لا يوجد ما يمنع اندلاع الثورات في كل البلدان مهما كان نوع أنظمتها حين تجوع الشعوب ، وتضيق بها سبل العيش . وهناك من ذهب إلى أن وراء ثورة الشعب الإيراني قوى خارجية تمولها خصوصا مع نشر خرجات الرئيس الأمريكي على موقعه العنكبوتي، وقد وجد ضالته في اندلاع هذه الثورة ليركبها ويجني ما يمكن أن يجنيه منها من مكاسب سياسية وغير سياسية . ومهما يكن من أمر هذه الثورة، فلا يمكن تصور الشعب الإيراني على هذه الدرجة من الغباء والسذاجة التي تجعله دمية في يد الرئيس الأمريكي أو في يد أنظمة إقليمية متواطئة معه يوافق هواه هواها . وحين يحاول الرئيس الأمريكي أو من يدور في فلك سياسته حشر أنفه في ثورة الشعب الإيراني إنما يقدمون خدمة كبرى للنظام الإيراني الذي ليس أمامه سوى استعمال ورقة تربص الأعداء في الخارج لتبرير استعمال القوة والقمع ضد ثورة شعب ضاق ذرعا بتكاليف العيش ،وذلك بسبب سياسته الفاشلة التي تصرف ثروة هذا الشعب المجوّع من أجل أطماعه التوسعية في المنطقة ، ومن أجل إبقاء نيران الحروب فيها لأطول مدة ممكنة، وذلك لتحقيق ما يتوخاه من وراءها من أهداف معلنة وغير معلنة .
ومعلوم أن كل نظام يحاول تأمين وجوده واستمراره عن طريق تسويق إيديولوجيته خارج حدوده ليكون له أتباع أو أنصار يسدون مسد سياج يحميه حتى لا تقتحم عليه أسواره وحدوده . ومعلوم أن الأنظمة الشمولية الدينية كنظام الولي الفقيه المقدس في إيران، وغير الدينية كنظام الزعيم المقدس في كوريا الشمالية تعتمد سياسة الأبواب الموصدة لحماية نفسها إلى جانب آلة القمع الأمني .
ومعلوم أيضا أن الشعوب ما لم تجع وما لم تضق بها سبل العيش لا تبالي بنوع الأنظمة التي تحكمها لأن ما يعنيها بالدرجة الأولى هو استقرار عيشها . وقد تبدو الشعوب خاضعة أو منصاعة لأنظمتها أو مؤيدة لها والحقيقة أنها إنما تكون منشغلة بأمر معاشها . فإذا ما توفر لها العيش الكريم بدت كأنها شبه غائبة عما تمارسه أنظمتها ، وعكس ذلك إذا تهدد عيشها بدت حاضرة في كل ما يصدر عن أنظمتها تتربص بها لتثور عليها لا بسبب ما يصدر عنها بل لنقمتها عليها بسبب تضييع كرامة عيشها . وقد تعمد بعض الأنظمة إلى حروب خارجية وتدخلات في شؤون شعوب أخرى بذريعة تأمين العيش الكريم لشعوبها ،وتلك مجرد حيل تحتال بها على شعوبها لتقنعها بأن مصدر عيشها ورفاهيتها مهدد في الخارج وليس في الداخل . وغالبا ما ينقلب السحر على الساحر كما يقال حين يكون مصدر تهديد رفاهية الشعوب هو سياسة الأنظمة خارج حدودها ، وهي سياسة لها تكاليفها الباهظة التي تكون سببا في تفقير شعوبها وثوراتها . وهذا ما حصل للنظام الإيراني الذي تدخل في العراق، و بعد ذلك في سوريا ليحذو حذو النظام الأمريكي الذي غزا العراق ليحصل على مقابل من ثروته البترولية لعقود من السنين ، ولتحذو حذو النظام الروسي الذي غزا سوريا ليحصل على مقابل ذلك من ثروتها .و ما لم ينتبه النظام الإيراني إليه هو أنه بذلك خاض مقامرة غير محسوبة العواقب. وليس النظام الإيراني وحده من وقع في هذا الفخ بل هناك أنظمة خليجية خاضت نفس المغامرة و المقامرة، وقد اضطرها ذلك إلى سياسات اقتصادية تضيق الخناق على شعوبها بعد إتلاف أرصدتها المالية في صراعات وحروب حاولت التظاهر أمام شعوبها بأن لها فيها نوق وجمال ،كما ظنت أن الأمر سيكون عبارة عن نزهة تنتهي بنصر مجاني ،والواقع أنها إنما تصب الزيت على نيران غضب شعوبها ،وقد مست كرامة عيشها في الصميم . ومن شبه المؤكد أن ثورة الشعب في إيران ستكون لها مثيلات في المنطقة العربية خصوصا بالنسبة للأنظمة التي بدأت تنهج سياسات اقتصادية ترهق كاهل الشعوب بالزيادات في تكاليف المعيشة وبفرض الضرائب المنهكة . ومعلوم أن الزناد الذي يقدح شرارة ثورات الشعوب هو ضيق العيش لا غير . ومن المغامرات غير المحسوبة العواقب التي تقدم عليها الأنظمة حين تندلع ثورات الشعوب الجائعة الرهان على القمع ، وهو ظلم يتسبب في خراب العمران كما قال العلامة ابن خلدون رحمه الله . وأبشع الظلم أن يظلم الإنسان في كرامة عيشه حتى قيل قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق . وما تعبد الله عز وجل العباد بعبادات مالية ومادية إلا لدورها في استقرار الحياة البشرية . وما جعل الله عز وجل للفقراء نصيب في أموال الأغنياء إلا لمنع الغبن الذي يشعر بها الفقراء ،والذي يكون سببا في حقدهم على الأغنياء والثورة عليهم . ولما كانت الأنظمة مسؤولة عن كرامة عيش الفقراء والأغنياء على حد سواء، تعين عليها أن تضمن للجميع كرامة العيش، فلا يجوع فقير عندها ، ولا يخشى غني على نفسه من غضب وحقد الفقير . ولن ينفع نظام إيران إخضاع الشعب الجائع عن طريقة إقناعه مقولة نيابة فقيهها الولي عن الإمام المرفوع أو المغيب الذي سيملأ الأرض عدلا، ولن يقوى هذا الشعب على الصبر وهو مهان في كرامته المعيشية حتى ينزل الإمام ليذوق طعم حلاوة عدله وهو يتجرع مرارة ظلم من ينوب عنه . ولن ينفع أنظمة أخرى قداستها أو خدمتها لحرم أو مقدس أمام شعوب جائعة .
فهل ستستفيد الأنظمة العربية مما يقع حاليا في إيران أم أنها ستمضي في التضييق على شعوبها في معاشها، فتصب بذلك الزيت على نيران الثورات خصوصا وأن شعلتها وإن كانت متوقدة تحت الرماد ، فإنها قابلة لأن تتحول إلى ألسنة لهب مشتعلة في كل وقت وحين لأنها قنابل موقوتة ، وذلك كلما أحست الشعوب بما يتهددها في أقواتها.
وكمواطن غيور على بلده، يخشى عليه من الفتن أدعو حكومتنا التي يقودها حزب محسوب على التوجه الإسلامي أن تتراجع عن كل الإجراءات التي تضيق الخناق على الشعب من قبيل خفض الأجور، والاقتطاع منها، والزيادة في سن الخدمة ، والتخلي عن مجانية التعليم ، والرفع من أسعار المواد الاستهلاكية والوقود ، والزيادة في الضرائب ، والمبالغة في تغريم الشعب الراجل والراكب ، وتكريس سياسة مغرب الجهات النافعة والجهات غير النافعة ، وتقديم الحلول الناجعة والصادقة والإجرائية في الجهات التي يصدق عليها وصف المنكوبة اقتصادية بسبب انعدام أو شح الشغل واستفحال البطالة وانسداد الآفاق . وما لم تتراجع الحكومة عن هذا التوجه المحفوف بالمخاطر ، فإن الأمور ستصير لا قدر الله إلى ما لا تحمد عقباه.ونسأل الله عز وجل أن تتحرك الضمائر ، وترق القلوب ، وتغلب الحكمة التهور وسياسة المجازفة والمقامرة والمخاطرة بأمن الشعب المعيشي قبل فوات الأوان وحلول ساعة الندم ولات حين مندم . ولن تجدي سياسة القمع وتوفير قوات الأمن بالأعداد الكبيرة، لأن صيانة كرامة الشعب المعيشية هي صمام الأمن والأمان والسلام الذي يغني عن قوات تحرسها.
وسوم: العدد 753