رواية الرقص الوثني وإطلالة على المجتمع الإسرائيلي
صدرت رواية الرقص الوثني للكاتب الفلسطيني إياد شماسنة عام 2017، عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان، وتقع في 317 صفحة من الحجم المتوسط.
بين أيدينا رواية سياسية تاريخية توثيقية، تدور أحداثها في فلسطين التاريخية الممتدة من النقب جنوبا إلى اللد فالجليل شمالا مرورا بالقدس مركز الحياة وإدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، اراد الكاتب أن يضع بين أيدينا أحداثا حقيقية يعيشها الفلسطينيون عامة والمقدسيون خاصة في قالب درامي يجسد الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال الاسرائيلي، في ظل غياب السيادة الوطنية، وما يعنيه هذا الغياب من اهمال في معالجة الآفات الاجتماعية الناتجة عن الاحتلال، مثل انتشار للمخدرات وسرقة الآثار والمتاجرة بها، واسقاط الشباب المقدسي المحافظ من خلال ابتزازه بالأفلام الاباحية وربطه بأجهزة الأمن الاسرائيلي، واستغلال الدين وسيلة للتسترعلى الخيانة، التي تتجلى في أهمّ الملفات التي تقض مضاجع المقدسيين وهو تسريب العقارات بأساليب ملتوية، تستخدم المظاهر الدينية لخداع الناس، وذلك من خلال شخصية ادريس حمدان العتيق كنموذج، فقد اعتقل ادريس ليخرج من السجن مختلفا كليا ضمن صفقة مقابل أن يقوم بدور المتديّن، فأذهل الناس بشدة انتمائه للدين وممارسة الطقوس الدينية، والالتزام باداء الصلوات الخمس في الجامع متقدما الصفوف، تداعب أنامله مسبحة طويلة في إشارة إلى توبته، ولإيجاد وسيلة عيش كريمة؛ ليعيش بكرامة فيقتنع به من حوله، وتغيب الظنون من رؤوسهم (ربنا هداه وفتحها عليه) فقام بشراء حصص الورثة في بيت العائلة في سلوان؛ ليقوم بهدمه وبناء عمارة سوبر ديلوكس أثار تشطيبها الشك في حي سلوان؛ لتسقط على رؤوسنا المفاجأة الكبرى بأن العمارة تم بيعها لعطيرت كوهنيم المنظمة اليهودية الاستيطانية.
اختار الكاتب أبطال روايته بعناية فائقة، ومنذ البداية أحاط أبطال روايته بالغموض ابتداءا من ادريس حمدان العتيق ابن البلدة القديمة في القدس، سارق الآثار يتعاطى الخمر(سكير) يستهوي مشاهدة الأفلام الإباحية، إلى مايك سمرون الأرمني صاحب محل الأنتيكا في باب خان الزيت، وهو شخصية ذكية جدا، يحسب الأمور بدقة (حويط ) لديه علاقات مع شخصيات ذات مكانة رفيعة (واصلين )، ولا ينفك الشك يداعب مخيلته، لديه مفهومه الخاص للنجاح، فهو يعتقد أن من ينجح بأعماله التجارية خاصة في القدس، لا بد أن يكون مدعوما من أجهزة الأمن الاسرائيلية، وإلا ما كان لينجح. ربما هذا أسلوب سلطات الاحتلال في رفع شأن من يتعاون معها، ولكنه أسلوب ثبتت عدم نجاعته مع المقاومة الفلسطينية، التي تصدت لروابط القرى، وأفشلت مخطط الاحتلال بجعلهم بديلا لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
يتبادر إلى ذهني سؤال وهو: هل حقا هؤلاء هم من يبيعون ثروات الوطن سعيا وراء متعتهم وشهواتهم؟ وما الثمن إلا فيلم بورنو على اليوتيوب، أم أنهم مجرد وسيلة وأداة في أيدي أصحاب النفوذ ذوي الياقات، وزبائن "البراندز" الذين تزكم أنوفنا رائحة عطورهم الباريسية، من هم الضحايا ومن هم الجناة الحقيقيون؟
امّا البروفيسور بنيامين بن يهودا الذي يعمل في الجامعة العبرية، فقد أدخل عنصر المفاجأه إلى جانب الغموض الذي أودعه في الغرفة المغلقة، التي يحفظ بها أسرار طفولته وطفولة ابنته بالتبني، والتي تبين أنها من أصول فلسطينية عربية، وجدها تائهة على شاطيء يافا، والتي كان شديد الحذر من أن يكشفها لأفراد أسرته اليهودية، حرصا على تماسكها، هنا وضع القاري في صراع ما بين مشاعر التضامن معه كونه حفيد سعيد بطل رواية عائد الى حيفا، وبين مشاعر الكره كونه الصهيوني المعادي للعرب وارتباطه بجهاز المخابرات الاسرائيلية، وأعتقد أن القاريء الفلسطيني انجر وراء مشاعره راغبا أن يرتد هذا البروفيسور إلى أصله العربي، ولكن ما نيل المطالب بالتمني، على أيّة حال هذه العائلة نموذج للتكوين الاجتماعي للمجتمع الاسرائيلي ومثلما تدين تدان.
تناول الكاتب الأقلية المسيحية من خلال مايك الأرمني، وأعماله القبيحة، وهو يؤمن بالمادة، وسرعان ما تحول إلى بطل في التحقيق بعد مداهمة بيته واعتقاله ومساومته على أملاكه، في إشارة إلى تسريب العقارات في القدس، وأنا لا أوجه نقدا للكاتب بقدر ما أوجه لوما وعتابا له؛ لأنه تناول الوجه القبيح للقدس، مما أفسد الرواية قليلا. كنت أود لو تناول رموز الطائفة المسيحية، وابراز دورها الوطني مثل الأب عطالله حنا، كذلك كنت أرغب في اظهار المقاومة الشعبية للمقدسيين، ودور المقاومين المقدسيين في التعامل مع الظواهر السلبية في المجتمع كالعمالة والمخدرات، فالقدس على الرغم من محاولة محاصرتها وعزلها عن محيطها الفلسطيني، خاصة بعد بناء جدار الفصل العنصري، إلا أنها ما صمدت إلا بفعل المقاومة والدور الوطني الذي لعبته منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل العمل الوطني.
الرواية تعج بالأحداث التي تأتي متسارعة كأنها تقرير اخباري على شاشة التفزيون، بينما تطل علينا الأخبار العاجلة على شريط أحمر أسفل الشاشة
المحامي
في البداية ظهر دور المحامي من خلال علاقة غرامية مع الطالبة الجامعية اليهودية ابنة البروفيسور بن يهودا؛ ليضفي قليلا من الرومانسية على أبطال روايته، إلا أن الكاتب لم يكن موفقا في هذه العلاقة، فسرعان ما زج بالمحامي بطلا قوميا يدافع عن مجتمعه في اللد ضد قضايا العنصرية اليهودية ضد العرب، ومصادرة الأراضي، وقضايا الهدم في مدينة اللد المحتلة منذ العام 1948، وقد أدخلنا الكاتب إلى قاعة المحكمة لنشهد إحدى المرافعات القوية والجريئة للمحامي الشاب حديث التخرج، ولمع دوره في الأوساط الصحفية والاعلامية حتى وصل صيته الى القدس؛ ليصبح موضع اهتمام المخابرات "العين عليه".
لم يكن كاتبنا موضوعيا في رواية المحامي سلمان بن شاهين، ولا أعتقد أنا شخصيا كما القاريء والمواطن الفلسطيني أن بامكانه أن يجمع بين علاقة غرامية ودور بطل قومي في آن واحد، حتى وإن كان ذلك بارادة ورغبة جهاز المخابرات الاسرائيلي. فشارع ديزنغوف بتل أبيب الذي احتضن علاقة عاطفية بين فتاة إسرائيلية وشاب فلسطيني ابن اللد (المحامي بن سلمان )هو نفسه الشارع الذي شهد اعمال مقاومة بطولية للفلسطينيين، واحتضن جثث الشهداء، كان جدير بكاتبنا أن يشير إلى العمليات الفدائية التي أرّقت مضاجع الأجهزة الأمنية الاسرائيلية في ذات الشارع.
حاول الكاتب أن يضيف مسحة انسانية لأبطاله، فأظهر دور أمّ سليمان والدة المحامي الشاب، ولكنه لم يعطها مساحة كافية في حياة المحامي بقدر ما أعطى لحبيبته اليهودية، فكان دورها صغيرا وقصيرا، داهمها الموت وحيدة في غياب ابنها المحامي، فكان المشهد قاسيا ومؤثرا يحاكي المعاناة و الظلم الذي يقع على النساء الفلسطينيات المقهورات حتى بالموت.
الأماكن
اهتم كاتبنا بالأماكن جيدا حتى انتشرت أسماء كل المدن والشوارع والأحياء على صفحات روايته، وتنقل بمهارة وسلاسة وانسياب بين المكان والأحداث المختلفة جنبت القاريء القليل من الملل، وأجاد الربط بينها من خلال علاقة أبطال الرواية الذين انتشروا عبر الأماكن بتناغم مع الأحداث؛ ليبين من خلال ذلك ترابط العلاقات بين الشعب الفلسطيني في شقيه المحتلين عام 1948 و1967 أن الشعب الفلسطيني واحد موحد من الشمال الى الجنوب
(جبل المشارف وباب الخليل سلوان ووادي الناطوف، دكان أبو غزالة بالسوق، سجن المسكوبية، سوق خان الزيت، شارع صلاح الدين، شارع الزهراء، كنيسة الخضر، الخالصة التي تسمى كريات شمونة، تل أبيب ولفتا وبيتح تكفا، باب الخليل وسلوان – جبل المشارف – التلة الفرنسية –لفتا – محنيه يهودا – ديمونا –رهط وبئر السبع والنقب –المنطقة الصناعية بالقدس ومخيم الجلزون برام الله –عطاروت. كلها أسماء لاماكن حيوية، تشكل مركز حياة المقدسيين بالذات، فالجامعة العبرية المقامة على أراضي لفتا، والقريبة من البلدة القديمة، وعطروت منطقة صناعية بين القدس ورام الله، الكثير من الفلسطينيين من خارج الجدار يعملون فيها، وشارع يافا الشهير حيث الكنيسة الروسية المعروفة بالمسكوبية، والتي يجري التحقيق الاسوأ والاصعب مع المعتقلين المقدسيين فيها، وهي قريب جدا من البلدة القديمة، ومن أماكن أخرى لها دلالات وطنية، وقد ارتبطت هذه الأسماء بأعمال مقاومة نوعية، فحي محانيه يهودا لم يكن مجرد ضاحية في القدس الغربية، بل كان مسرحا للمقاومة الفلسطينية منذ السبعينات، شاهد على أجرأ العمليات النوعية للمقاومة، والنماذج والشواهد متعددة في هذا المجال، عملية النفق في طريق بيت لحم واستدراج ضابط كبير في المخابرات الاسرائيلية، وعملية في تل أبيب أمام وزارة الدفاع الاسرائيلية، وانتفاضة الجليل كلها نماذج حية لا زالت في ذاكرتنا شاهدة على تحطيم أسطورة المؤسسة الأمنية الاسرائيلية، كان حري بكاتبنا لو مرّ عليها مرّا سريعا في روايته؛ لتشكل حافزا للأجيال القادمة إذا ما وقعت بأيديهم.
رواية الرقص الوثني هي محاكاة للحياة في المجتمع الاسرائيلي، اشتملت على كافة جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والقانونية والحقوقية.
اجتماعيا
أعتقد أن الكاتب ركز في روايته على المجتمع الاسرائيلي بهويته وثقافته وقيمه الأخلاقية ومؤسساته، ومكوناته الاجتماعية والطبقية والعقائدية والطائفية، مكونات المجتمع الاسرائيلي عرب ويهود اشكناز وسفراديم ودروز ومسيحيين 76
مجتمع تعددي يقوم على أساس التمييز العنصري والتناقضات، فأساس التعددية الحياة الديمقراطية وتقبل الآخر، قدم لنا الكاتب أمثلة متعددة كنموذج لعنصرية المجتمع الاسرائيلي، وأشهرها قيام المستوطنين بمدينة اللد ببناء جدار فاصل بين العرب واليهود.
وليس أقل شأنا منها حادثة احتراق سيارة شاب درزي دون تقديم المساعدة له على خلفية قوميته، رغم أن بعض أبناء الطائفة الدرزية يخدمون في صفوف جيش الاحتلال، وهذا حتما يصب في يهودية الدولة. وفي ذات الوقت يريد منا الكاتب أن نتقبل علاقة المحامي بن سلمان بفتاة يهودية تلتحق بالخدمة العسكرية، وتشارك بالحرب على غزة دون أن تتحرك فيها جيناتها ذات الأصول العربية، وكان هذا أساس انفصاله عنها مما ساهم في انهيارها كليا.
سياسيا
تناولت الرواية المجتمع الإسرائيلي بمكوناته السياسية اليمنية واليسارية والكتل العربية ممثلة بالقائمة الموحدة في داخل الكنيست الاسرائيلي، وحركات سياسية مثل (السلام الآن ومؤسسات مجتمع مدني مثل بيتسيلم) مبينا الوجه الديمقراطي لدولة الاحتلال.
عكست الرواية الصراع في المجتمع الإسرائيلي ما بين اليمين واليسار من خلال البروفيسور وزوجته، التي تعمل في بيتسيلم، حيث يكشف لنا الكاتب عن الدور الخفي لهذه المؤسسات المنضوي على تحسين صورة إسرائيل من خلال الدفاع عن حقوق الانسان الفلسطيني. واظهر التناغم الحاصل بين الشريعة والقانون الذي يستخدم فقط لخدمة الدولة الاستيطانية، الأمر الذي يحول دون تطبيق العدالة، كما أشاد بمنهجية التقييم واستخلاص العبر كأحد أهمّ الوسائل لتطور ونجاح المجتمع الاسرائيلي على مستوى جميع مؤسسات الدولة.
الكاتبيتحدث عن الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال، ولكنه أطل علينا من نافذة المجتمع الاسرائيلي ومكوناته وثقافته وقيمه الأخلاقيه وسياساته، والمؤسسات التي تحكم هذا المجتمع هي مؤسسات الأمن (الجيش والشرطة والمخابرات )
اقتصاديا
تناول الكاتب رموز ازدهار دولة الاحتلال ابتداءا من تجارة الألماس التي تشتهر بها دولة الاحتلال، إلى التقدم التكنولوجي الذي تفوقت به على مستوى العالم (هاي تك ) إضافة إلى دور الجامعات والمعاهد التي يعود لها الفضل في شهرة دولة الاحتلال في المجالات التقنية والتكنولوجية والأبحاث العلمية، والأكثرها شهرة الجامعة العبرية في القدس ومعهد التخنيون في حيفا.
امنيا
استعرض عضلات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في السيطرة على مصادر المعلومات والتحكم بكل صغيرة وكبيرة، واظهار القوة الأمنية للاحتلال الاسرائيلي، وأن الكل يعمل لحسابها من البروفيسور في الجامعة إلى موظفي مؤسسات المجتمع المدني إلى العاهرات، سيطرة أمنية كاملة على مناحي الحياه بما يخدم مصالح الدولة العليا، ولكنه في هذا المجال كان حري به أن يظهر أسطورة المقاومة الفلسطينية في تحطيم معنويات تلك المؤسسة المتغطرسة، والنيل من معنوياتها، والشواهد ماثلة في عملية استدراج ضابط كبير في جهاز المخابرات الاسرائيلية إلى نفق بيت لحم واغتياله هناك.
عسكريا
أسطورة الجيش الذي لا يقهر سقطت أمام المقاومة الفلسطينية في غزة، جسدت الرواية هذا الانهيار الأسطوري في دور استر عشيقة ابن اللد المحامي ابن شاهين، وبين هشاشة المجتمع الاسرائيلي الذي سرعان ما ينهار أمام أبسط الأحداث، استر انهارت عند اكتشاف حقيقة والدها وأصوله الفلسطينية، وانهارت أكثر عند اكتشاف حقيقتها أنها متبناه، هربت من مواجهة العدو الذي يسكن في حقيقتها لتلتحق بالجيش الاسرائيلي، وشاركت في الحرب على غزة ليتخلى عنها عشيقها بن شاهين.
ركزت الرواية على اظهار الأثر النفسي على المجتمع الاسرائيلي من خلال انهيار استر ابنة البروفيسور، دون اظهار هول الحرب على المجتمع الفلسطيني ككل وخاصة في قطاع غزة.
الرواية سياسية بامتياز قوية وواقعية وبشدة تحاكي الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال، وبعد قدوم السلطة الفلسطينية وليدة أوسلو، إلا أن الكاتب جلد الفلسطينيين باستعراضه خيبتنا وبؤسنا التي ساهمت في ازدهار إسرائيل، وتحويل أحلامهم إلى حقيقة، ربما ساهم جهلنا وفقرنا وسذاجتنا في تسهيل مرور سياسات الاحتلال، ولكن لا شك أن مقومات قيام وازدهار دولة الاحتلال تفوق قدراتنا مجتمعين وفرادى.
الرواية طويلة جدا امتلأت بالأحداث، ولكنها خلت من العواطف والمشاعر، عكست بصورة واضحة نقاط القوة في المجتمع الاسرائيلي ومؤسساته، ولكنها لم تكن منصفة للمجتمع الفلسطيني خاصة المقدسي، الذي سطر أروع نموذج في الصمود والمقاومة في وجه سياسة الاحتلال التهويدية، وحافظ على هويته الوطنية، ودافع عن عروبته، وقدم المعتقلين الذين أصبحوا رمزا من رموز الثورة الفلسطينية، كما قدم الشهداء الذين روت دماؤهم الزكية تراب القدس، وانتصبت قبورهم حراسا للمدينة.
وسوم: العدد 756