الأدب والثقافة سياج الأمة حول نفسها
يمكننا القول وبكل تأكيد أن خصائص الأمم والحضارات لا تتشابه مع خصائص المادة؛ لأن خصائص المواد ثابتة لا تتغير، بينما خصائص الأمم والحضارات قابلة للثبات والتغير والتحول؛ لأن الكائن الإنساني يملك من مواهب العقل والإرادة والفهم ما يجعله يقبل بحالات من التغير أو التحول أو يبدي حالات من الثبات والمقاومة لأي تغيير ينتهك كيانه أو مصلحته، ومن المناسب أن نضرب مثالاً يقرب الحالة ويوضحها:
(فنحن لو أحضرنا زجاجة، وملأنا ثلثها الأول ماء وثلثها الثاني زيتاً وتركنا الثلث الثالث فارغاً لمساحة الحركة والخض، واصطف أهل الأرض طابوراً لخضها، ومرّت عليهم الزجاجة الواحد تلو الآخر، وقام بخضها حتى يتعب ثم يعطيها لمن يليه، ثم ننظر إلى الزجاجة لنكتشف عند آخر فرد منهم، أن الماء بقي ماء وأن الزيت بقي زيتاً، ولم يتنازل أي منهما عن خصائصه رغم اختلاط أجزاء الماء والزيت أثناء عملية الخض تلك) (26).
وكذلك خصائص الأمم، فإنها تختلط وتتفاعل وتتعارف وتتآلف أثناء معارض الحراك الحضاري المستمر في: السلم والحرب والعلم والسفر والمعاشرة والزواج والجوار والتجارة والمخالطة على اختلاف أنواعها، ولكن بفارق واحد هو أن المادة لا تملك عنصر الإرادة الذي يحدث الرضا بالتغيير أو يقاومه، بينما الإنسان يخالط جميع الأمم، ويعود إلى خصائصه وذاته متمسكاً بها إذا رغب، ومتنازلاً عنها إذا اقتنع بالتحول، فالإنسان لا يتنازل عن خصائصه إلا بإرادته، وغالباً لا يختار التحول عنها إلا إذا اقتنع أن ثقافته قائمة على الباطل، تماماً كما فعل أهل الجاهلية عندما جاء الإسلام فأسلموا، أو أن يشعر بالهزيمة والضعف كما حصل للثقافة الإفريقية أمام الثقافة الأوروبية الغازية، أو أن يعيش تحت التذويب القسري والقهر المستمر، بل والإبادة والملاحقة كما حدث لأهل الأندلس وللهنود الحمر.
ومع ذلك يملك الإنسان أن يحتمي بثقافته ويجعلها درعاً يتقي بها التشرذم والضعف والهزائم، إذا كان واثقاً من حقائقها التي لا تقهر ولا تهتز، تماماً كما حصل للثقافة الإسلامية فقد قامت أوربا بابتلاع حضارات وثقافات كثيرة فهضمتها وتمثلتها وحولتها إلى رصيد للحضارة الأوروبية، ولكنها عندما حاولت ابتلاع الثقافة الإسلامية وجدتها كالجمرة الملتهبة التي لا يمكن ابتلاعها، وقبلهم حاول المغول ذلك فلم يفلحوا، بل هضمتهم معدة الحضارة الإسلامية وتحولوا إلى مسلمين (27).
والأدب والثقافة من أهم أسلحة الأمم في الدفاع عن نفسها فإذا كانت الجيوش العسكرية تحمي الحدود وتدفع الأعداء عن الأمة، فإن جيوش المثقفين من: العلماء والفقهاء والباحثين والمفكرين والشعراء والأدباء والنقاد، هي التي تحمي عقول أبناء الأمة من الاختراق والاحتلال الثقافي والأفكار الهدامة المعادية للأمة، وذلك أمر يحاوله الأعداء باستمرار ودون توقف. والمثقف الحقيقي من أبناء الأمة هو الذي استوعب ثقافتها وانتمى إليها وهو المدافع الأول عن تلك الثقافة في أوقات الشدة، يتماسك عند الضعف، ويحارب الخور والهزيمة واليأس، ولا ينهار عندما ينهزم السياسي أو العسكري أو الاقتصادي؛ لأنه ينظر إلى الأحوال المحيطة بأمته من خلال (حقائق الثقافة) المستمدة من مكونات الأمة: (الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا ثم الأدب والثقافة والإنسان والمصالح الدائمة...)
وحيث يتشكل (منظارها الثقافي) من تلك الحقائق لأن الثقافة هي مجموعة من الخبرات والمناهج والحقائق التي تفسر بها أي أمة من الأمم الحياة من حولها، ومن خلال هذا المنظار تصبح لها (الرؤية الكاملة) والمتكاملة التي تشرف على عمليات: الإبداع والإضافة والحذف والتعديل في ساحات الحضارة وميادينها المختلفة، بما يتلاءم مع ذوقها الذي صاغته رؤيتها للحياة من حولها.
وثقافة أي أمة هي عبارة عن مصطلح يحتوي في داخله: (العقيدة والمناهج والخبرات والإضافات التي أفرزتها في تفسير الحياة بها) وتبرز من خلالها دورها ومنجزها الحضاري الذي تميزت به على وجه الأرض بين الأمم.
وفي الوقت الذي قد يخضع فيه السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو الاجتماعي لمرجعية (المصلحة) تحت ضغط الزائل والمؤقت، فإن المثقف لا يعترف إلا بمرجعية (الحقائق الثقافية) لأنه لا يكترث بالمصالح العارضة التي تزول بزوال ضعف الأمة.
أما إذا تم اختراق عقل المثقف وفقد منظار حقائق الثقافة، أو أصبحت موازينه غائمة، فمعنى ذلك أنه ليس من الأمة وإن ولد فيها لقوله تعالى:
(ومن يتولهم منكم فإنه منهم). أي من الأعداء، الذين باع ولاءه لهم.
ويرى بعض دعاة الثقافة، أن من الحكمة أن يستقل الثقافي عن السياسي، بحيث يحصل السياسي على المرونة التي تخدم المصلحة، وحتى يتمكن الثقافي من المحافظة على ثوابت الأمة، دون ضغط من السياسي أو استبداده في كثير من الأحيان.
وأكثر ما يهمنا في هذا الموضع هو أن نفصل قضية الأدب وفاعليته بصفته أحد أهم مكونات الثقافة، داخل كيان الأمة، ولأنه يمتلك من المؤثرات أموراً كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ما يلي:
1- الأدب يعيد صياغة الذوق الجمالي للأمة في مقولات فنية تعبر عن ذاتها، وبه تنمو لحمة التماسك بين مكوناتها، فتجري الأخوة والمودة في عروقها، ويتآلف ذوقها الجمالي العام والأخلاقي وحتى ذوقها الاستهلاكي في مجموع أفرادها.
2- ومن داخل المنتج الأدبي، الذي تعبر به الأمة عن ذاتها الثقافية، تستخرج الأمة من الدرر التي صاغتها عقول مبدعيها، نماذج التربية الممتعة، للصغار والكبار لأن الأدب يمثل التعلم الممتع الجذاب المعجون بالجمال، المؤثر في النفوس، الذي يرتبط فيه التعبير بالتفكير من خلال الترابط بين الوسيلة والهدف في الفنون الأدبية المختلفة.
3- وللأدب دوره التعبوي الكبير في وعي الأمة ورفع هممها نحو الإنجاز والإبداع عن حب واختيار، والأمثلة على ذلك كثيرة لا يمكن حصرها في الواقع اليومي والمعاشي والتاريخي والسياسي، فقد اتخذت الأمم حديثاً ما يسمى بالنشيد الوطني والقومي وكذلك المهني، لما له من أثر في التربية وصقل الانتماء، وقديماً كان العرب ينشدون ويحدون ويغنون في سفرهم وترحالهم، لأن الغناء والحداء يطرد الملل عن النفوس ويشيع فيها الحيوية والنشاط، ولهذا أصبح لكل مهنة أناشيدها المعروفة والمفضلة، وقد اشتهر عن عمر رضي الله عنه قوله: (الغناء زاد الراكب) لأنه زاد النفس الفعلي في السلم والحرب. ومما ورد في السيرة النبوية الشريفة، ومن أخبار الأدب وأثرها في الحرب النفسية قصيدة كعب بن مالك رضي الله عنه، التي مطلعها:
قضينا من تهامة كل وتر وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
تخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا
وكان وقع هذه القصيدة وأثرها الكبير أن جاءت قبيلة دوس تعلن إسلامها، وكذلك قصيدة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه (أقسمت يا نفسي لتنزلنهْ) التي عالج بها حالة التردد التي اعترته لحظة الدّخول في المعركة.
ومن المعروف أن أكثر الناس رغبة في السماع ومتابعة الشعر والغناء والإنشاد هم الفئات العاملة في المجتمع كالعمال والمسافرين والمقاتلين والسائقين بل والناس في أفراحهم ومناسباتهم، لما للأدب من دور عظيم في التغني بمنجزات الأمة وتعميق روح الصمود والتحدي والثقة بمنهجها ومسارها.
4- وللأدب دوره العظيم في صناعة حالة (التوازن بين الإنسان والحياة)، وذلك من خلال تفريغ الطاقات القلقة في نفس الإنسان، عن طريق الإشباع التعبيري الذي يجده الإنسان في المتعة الأدبية، ويتجلى ذلك ويتضح حين يتناسب (مقال الأديب المنتج) مع (حال المتلقي: القارئ أو السامع)، فالمحب يفرغ مشاعره القلقة عن المحبوب بقصائد الغزل التي تتناسب مع حاله، والكهل الذي مل من الحب والغزل وبدأ يميل إلى فهم حكمة الحياة يجد ضالته في قصائد الحكمة والنفس التي تشبع رغبته وميوله، والمجاهد يستمتع بقصائد الجهاد والاستشهاد وغيرها، والغريب يجد متعته في قصائد الحنين إلى الأوطان، والمظلوم يستمتع بقصائد مواجهة الظالم أو هجائه أو فضحه أو تحقيره وقل مثل ذلك في بقية الفنون الأدبية كالقصة والمسرحية والخطبة والمقالة وغيرها، وهذا التوازن أصبح جزءاً من صناعة الطب النفسي العلاجي في عصرنا، حيث استعملت القصيدة والقصة والمسرحية وغيرها في هذه المعالجة وإليك هذا الخبر الذي ورد في إحدى الصحف عن هذه الأنشطة العلاجية تأكيداً لما نقول:
جاء بعنوان (الشعر –وسيلة علاجية للاكتئاب):
بريستول (إنجلترا) – رويتر – نصحت دراسة أجراها أطباء بريطانيون الذين يعانون من القلق والاكتئاب بقراءة الشعر بدلاً من تناول العقاقير، وقالت صحيفة (ديلي تلغراف) أمس إن الأطباء المشاركين في الدراسة في جامعة بريستول وجدوا أن بضعة سطور من أشعار وورد زورث أوكيتس أو براوننغ يمكنها التغلب على احتياج المريض للعقاقير، وقالت الصحيفة إنه في بلد يصل فيه الإنفاق على الأدوية المضادة للاكتئاب إلى أكثر من (80 مليون جنيه إسترليني) سنوياً، فإن هذه الوصفة الأدبية يمكن أن توفر على خدمات الصحة الحكومية أموالاً كثيرة، وقال الدكتور الكسندر ماكارا رئيس الرابطة الطبية البريطانية عن الدراسة: (أعتقد أن الشعر أفضل من أي أدوية، فهو وسيلة علاجية تماماً مثل الموسيقى، لكن صناعة الأدوية، قد لا يعجبها ذلك بالطبع) (28).
جريدة الدستور الأردنية 16/2/1994
5- كثير من الناس لا يكترث بالثقافة ولا بالأدب، ويعتبرهما شيئاً ثانوياً من سقط المتاع، لأنه لم يدرك خطر الجهل الثقافي والأدبي في حياته، ولذلك بخل هذا قد انعكس على نفوس الأدباء والمثقفين وأوجد عندهم حالة من الشعور بالمرارة وأنتج لديهم نصوصاً حادة في هجاء هذا الجهل الثقافي والأدبي، ومن هذه النصوص، ما قاله شاعر مهجري في هجاء لجنة للتحكيم لم تكن على المستوى المطلوب، حين حكمت بالفوز لنصوص ضعيفة، على ما قدمه لها الشاعر من نصوص قوية، فقال يكشف جهلها:
لو كان شعري شعيراً لاستطيبته الحمير
لكن شعري شعورٌ هل للحمير شعور(29)؟!
وهذا أحد الناشرين يصف إهمال الثقافة والأدب في بلد عربي بقوله (إنهم يفضلون رزمة الفجل على رزمة الكتب) (30) وعلق آخر قائلاً: (إنك لو قدمت لحمارك المهذب وردة فإنه لا يشمها بل سيقضمها بأسنانه، لأنه لا يتعامل مع عناصر الجمال فيها وليس له بصيرة بها، وجميع مواهبه محصورة في إشباع المعدة).
هذه الحالة من المرارة، سببها أن بعض الناس يعتبر أن صرف الأموال في ميدان الأدب والثقافة مغرماً، وكلفة ليس من ورائها مغنم اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي سريع، لأنهم ينظرون إلى الربح المادي السريع، ولا ينظرون إلى المصالح العليا الضخمة الدائمة، التي يقوم الأدب والثقافة بتأسيسها أو حمايتها أو حفظها والإبقاء عليها في رصيد الأمة ومنجزها الحضاري، الذي يتكرر في ممارساتها اليومية. هذه العقول التي تقيم الأدب والثقافة بميزان القرش والدينار، لا تدرك أن الاستثمار في الثقافة والأدب سوف يربي في الأمة السلوك اليومي، الذي تطل به على الحياة من خلال عقيدتها ومنظارها وقيمها، كما أنه يوضح لها سلوكها وأهدافها ومقاصدها، وبذلك تسير الأمة نحو أهدافها بوضوح واتزان، بعيداً عن أمراض الخوف والضعف والتقوقع والهزائم النفسية والاجتماعية، لقد ألف الله سبحانه وتعالى بين قلوب أبناء الأمة عن طريق عقيدتها القائمة على التوحيد، وهي التي صنعت لهم ثقافة التماسك والأخوة والتآلف تحت راية العبودية لله، فأصبحوا بنعمته إخواناً، قال تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) (31).
فالأدب والثقافة بحاجة إلى استثمار كبير وتنمية وتعميق حتى تستقر في طباع الأمة وسلوكها، ويقبل بها طبعها، وعند ذلك تبدأ الأمة بقطف ثمار الثقافة والأدب في توحد فهمها ومنظورها للحياة، فيؤدي ذلك إلى استقرار أوضاعها، ونضوج ذوقها وثقتها بنفسها، مما يؤدي إلى استثمار كنوزها، وتفتح مواهبها، واستقلال شخصيتها، وهيبة الأعداء لها، وانبهار المخالفين لها بتفردها وتميزها، لأن صرف الأموال والجهود في بناء الذوق العام للأمة، فيه توحيد للفهم، وهذا يساعد على اختفاء القيم السلبية التي تنبت: الكذب والنفاق والخداع والخيانة والأنانية والصراع، والتي ننفق كثيراً من أموالنا على بعضها دون وعي منا، وإنبات لقيم: الحكمة والصدق والثقة والشجاعة والمواجهة والجرأة والحوار المهذب بدلاً منها، وفي هذه القيم توفير للجهود والأموال التي تذهب هدراً في إشباع تلك التوافه.
لقد نسي كثير من الناس أن اختلال الذوق الثقافي العام لدى أبناء الأمة، يؤدي إلى التشرذم وضياع الجهود، وقلة القيمة بين الأمم، مما يجعلنا بقعة استثمار متخلفة، تستفيد منها كل الأمم، إلا نحن نفقد أنفسنا، لأننا كدنا أن نفقد البوصلة التي توجه وعينا، والثقافة التي توحدنا، مع أننا نملكها ونحملها بين أضلعنا، وفي تلافيف عقولنا، ولكننا لا نملك الاستفادة منها؛ لأنها معطلة في نفوسنا ومؤسساتنا ومناهجنا، تماماً كحال الجمال المسافرة في الصحراء، التي وصفها المعري بقوله:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
ومصيبة المصائب أن تخترق ثقافة الأمة وأدبها باستيراد المشارب المتعددة من الشرق والغرب حتى نصل إلى صناعة التلوث الثقافي الذي يفتت وحدة الأمة، لتفترق الأذواق وينبت الاختلاف والتمزق والعصبيات، وتترك (مرجعية الأمة وثقافتها) وتسود (مرجعية الهوى والمصالح والصراع وعقد الانتفاخ وثقافتها) ليذوق بعضنا بأس بعض، لا قدر الله سبحانه وتعالى.
وسوم: العدد 757