قراءةٌ فيما أبدعهُ الأديبُ اليمنيُّ: حُذيفة الوري، تحت عُنوان: مِن قبري هذه المَرَة

حقيقةً وبِلا مُزايدات:

فاجأني انتهاءُ هذا الإبداعِ الخُرافيِّ الذي قدَّمَ لنا ما يدورُ على أرضِ الوطنِ الغالي "اليمن" مِن ضراوةِ الحربِ والدمار، وما يسيلُ من دماءِ الأبناءِ – بِلا جَريرةٍ- فتفيضُ منها الأنهار.. فاجأني لأنني ارتشفتُهُ دُفعةً واحِدةً ورُحتُ أبحثُ عن المزيد؛

وأنا لا أكادُ أُصدِّقُ أنهُ انتهى؛ وما أثقلَ الحسناتِ في ميزانِ النقدِ بهذه المُفاجآت!

 يقولُ أديبُنا:

[[هي المرةُ الأولى التي أُستشهَدُ فيها "دون أن أرغب" كما هي عادة الأبرياء في هذه البقعة المظلمة من الكون والتي يسمونها اليمن]]

تمنَّيتُ لو لمْ تنتَهِ القِصَّةُ أو هذا العملُ الأدبيُّ الأكثرُ من رائعٍ؛ بِما انطوى عليهِ من جمالياتٍ، والذي لا أدري إلى أيّ جِنسٍ مِن الأجناسِ الأدبيةِ ينتمي؛ غيرَ أنّهُ مُمتِعٌ حدَّ الدَّهشةِ وحدَّ الوصولِ إلى نهايتِهِ دون توقُّفٍ ودونَ انتباهٍ؛ وبرغبةٍ أكيدةٍ في الامتداد!

ولكن دَعوني أقولُ ما لَها وما عليها باعتبارِها قصةً قصيرةً؛ وما أكثرَ ما لها إذا ما وُضِعَتْ في الميزان؛ كأدبٍ مُختلفٍ مُتميِّزِ الخَلْقِ والبيان؛ حتى وإنِ اتَّكأَ على حقيقةِ أنّ الشهداءَ أحياءٌ كما جاءَ في القُرآن؛ وَحَدَّ أنها للإنصافِ والأمانة: تُثاقَلُ بالذهب في موازينِ الإبداعِ والأدب..

ففي مُقدِّمَةٍ فارِقة..وبِمُفارقةٍ لافتةٍ غارِقةٍ مُغرِقة: في الأسى والغرائبيةِ والفَرادةِ رسمَ لنا الكاتبُ ملامحَ إبداعٍ مُتميّزٍ؛ فماذا أنتَ فاعِلٌ عندما يكتُبُ لكَ أحدُهم:

 [[أكتبُ لكم من قبري هذه المرة ، لا تستغربوا ، صدقوني أنا لا أمزح]]

ثُمّ يسترسِلُ في بَثِّ الطُّمأنينةِ وهو يصِفُ هُدوءَ وجمالَ المكان!

لا تملِكُ إلا أن تتبعَهُ لاهِثًا حتى آخرِ خُطاهُ على الطريق.

كم حالَفَهُ النجاحُ آنَ وظَّفَ التقديمَ كعاملِ جَذبٍ قويٍّ للمُتلقّي؛ لولوجِ عالَمِ القَاصِّ الفِكريّ والثقافيِّ والقِيميِّ بشكلٍ خاصّ؛ يقولُ في مَرارةٍ مُستدعيًا فلسفةَ الكاتِبِ العالَمي الشهير "ماركيز" لِيصفَ ما وصلنا إليهِ مِن هوان:

 [[لا تخافوا ، القبور ليست مخيفة كما تتخيلون أو كما يصورها لكم البعض ، إنها مريحة وتمنح ساكنيها عزلة لذيذة ووحدة ممتعة كأنها النعيم بتعبير ماركيز ، والعيش فيها أشبه ما يكون بساعات استراحة في سكينة الأرض ؛ فالقبور أكثر أمناً من بعض أوطان العرب]]... ليُتحِفَنا في قفلتِهِ النَّاريةِ بِتفكيكِ شَفْرةِ القضيّة:

[[من هنا، من هذه البقعة المنكوبة من الأرض، من اليمن، سيبدأ الجحيم بالاشتعال]]

وعندما يُردِفُ القَاصُّ في مَوضِعٍ سابق:

 [[إحملْ فكراً مخالفاً ، كن حرًّا بما يكفي أو كن يمنياً خالصاً ؛ لتكون شهيداً متى أراد أحدُهم]] ..

[[أرخصُ الأشياء وأكثرها في هذا البلد بعد الفقراء ، هُمُ الشهداء]]

فقد أوقفنا على حجمِ الظلمِ الخُرافيّ المُستبيحِ دماءَ الأوطان؛ لِتسقُطَ في وَحلِ حضارةِ الغربِ كلُّ حقوقِ الإنسانِ والحيوان.

وما أذكى ما قالَهُ بين السطور عن شيوعِ المفهومِ الخاطئِ للحُريّةِ؛ مُحاولًا تصحيحَهُ بل نسْفَهُ بعيدًا عن المُباشَرةِ والهُتافاتِ الممجوجة؛ من خلالِ فقرةٍ تصِفُ نشاطَهُ التَّوسُّعيَّ- حين كان الشهيدَ الحيَّ في قبرِه - واصطداماتِه بجيرانِه من الموتى.

لقد قرأتُ المُرادَ بين السطورِ؛ وترجَمَتُهُ على هذا النحو:

 (عندما تُمثِّلُ فِكرةُ تجاهُلِ حُقوقِ الأفرادِ والمُجتمَعات: نِصفَ الحلول؛ يبقى النِّصفُ الآخَرُ الإيجابيُّ في احترامِ حُريةِ الآخرين؛ هؤلاءِ الذين تنتهي حُريّاتُنا عند تُخومِ حُريَّاتِهم)

هي كما نرى: ثقافةٌ حُروفُها بادِيةٌ هادرة، وفلسفةٌ تَمُورُ ثائرة، مِدادُها التَّهكُّمُ؛ تعاضَدَا مع البِناءِ التَّخَيُّليِّ عليهما في فتحِ الأبوابِ على مَصاريعِها لولوجِ المَلْهاةِ المأساةِ على مسرحِ الأحداث؛ وبهذا قدَّمَ لقارئِهِ على طبقِهِ الإبداعيّ الشَّهيّ؛ ما يُسمَّى: العسلُ المُرّ.

لَمْ يَفُتِ الكاتبَ أنَّ عُنصُرَ القَصِّ أو الحَكيِ هو واحدٌ من أكثرِ العناصِرِ إثارةً لِذهنِ المُتَلقّي وانتباهِهِ؛ وتحفيزِهِ على تبنِّي الأفكارِ الإيجابيةِ؛ فنسَجَ لنا –ببراعةٍ- هذا النسيجَ القويّ الذي وصلَ فيهِ اللُّحمةَ بالسُّداة، والبدايةَ بالنهاية؛ فضلًا عن تطريزهِ:

 بخيوطٍ من الرَّمزِ: يقولُ في وصفِهِ التَّخَيُّليِّ الاحتفائيِّ بِسقوطِ الشهيد:

 [[فيصعد عبر السلم إلى أحد الكراسي في المدرجات وقد كُتب عليه اسمُه وعمرُه ومن أي مدينة ، أما تحت قدميه فيتم نحتُ اسم قاتله]]

فأيُّ رمزٍ لعلُوّ الشهيدِ ومَهانةِ النَّاحرين؟

و[[لقد صار ما حولي وحتى أقصى نظري ، صار غابةً نمَت في أرجائها صخورٌ مستطيلةٌ جذورها أجساد!!]]

في رمزٍ بديعٍ إلى كثرةِ الشهداءِ الذين صاروا جُذورًا لِشواهِدِ أجداثِهمِ الصخريةِ في غابةِ الدَّفن.

و[[وحفرتُ نحو الأسفل عدة أنفاق سرية ، منها نفق حلزوني إلى الحارة المجاورة والتي فيها يقع قبر غير مكتمل يستعد لاستقبال تلك الحمامة الرشيقة ناصعة البياض ، حيث سيتم دفنها هناك بلا رأس ..!]]

وقد غلبَ على يقيني أنه رمزٌ شديدُ الأناقةِ إلى حمامةِ السّلام التي ذبحها قراصِنةُ السَّلام.

وخُيوطٍ مِنَ البلاغةِ: الناعمةِ التي ما انفكَّتْ تُنافِسُ الحريرَ؛ يقول:

 [[وعلى أحد جدران القبر رسمتُ عينيها الخُلاسيَّتين ذواتَي النظرات الدافئة ، رسمتهما كنجمتين يتيمتين يحيطهما ذلك السواد المجيد والذي كان يحوّل قلبي في الدنيا إلى طائر قلقٍ ينقر صدري]]

 [[ومن ذلك المستطيل الصغير الذي ابتسم لتَوِّهِ بين حافة القبر وجسد البوابة ، تسلل ضوءٌ غسقيٌّ فملأ زوايا القبر ببخار الغروب الحزين]]

كمِ استوقفتني الانزياحاتُ في بناءِ النَّصّ مرسومةً بريشةِ البلاغةِ والخُصوصيّةِ

مِنها:

كما تعلمون فقد استشهدتُ عدة مراتٍ وانتحرتُ مرتين -حياتي القبريّة - كشهيدٍ طازَجٍ – أطفأتُ الخوفَ - سويتُ سريرَ الذكريات - وبعد ذلك نمتُ عدة سنوات دون قلق - ارتديتُ أعضائي – طقسٍ بُكائيّ - الحزن الديكوريّ – يتدلّى مِن رأسِها ليلٌ أسودٌ بهيج - الأصابعِ الذَّابِلة؛ وغيرِها

 وإذا كان للتوصياتِ مكانٌ في هذه القراءةِ السريعة؛

فأوصِي بالاهتمامِ باللغويّاتِ والنحوِ والتشكيلِ في الأماكنِ التي تحتاجُ إليهِ على  سبيلِ الإيضاحِ وإزالةِ اللبس؛ ومِثلِها بعلاماتِ الترقيمِ ووصلِ أو قطعِ ما يلزم من الهمزاتِ وكلها: أبجديَّاتُ الاكتمال.

ما بينَ الأقواسِ في النصّ (...)؛ تمّ تدارُكُهُ وتبقى كلمة(مبرووووك) تركتُها وهي خطأٌ لُغويٌّ شديدُ الشيوع مُشتقٌّ مِن بُروكِ البَعير؛ حتى لا أُغيرَ كثيرًا في النَّصّ .

وتبقى الكلمةُ الأخيرةُ للدهشةِ والإعجاب بما أهداهُ إلينا أديبُنا الرائع في هذه السطورِ البرَّاقةِ القلائل؛ مُعَمَّدًا بالبلاغةِ وصِدقِ المَشاعِر وإن كانت مغموسةً بالشَّجَن..

فإلى الأمامِ مع خالصِ أمنياتي بالحُريّةِ لوطننا الشهيد الذي كان وسيعودُ بأمرِ اللهِ كما كانَ:  "اليمنَ السعيد" وأمنيةٌ خاصّةٌ بتواصُلِ الإبداع.

ثريا نبوي

النَّصُّ المقروء:

- مرحباً

أكتب لكم من قبري هذه المرة ، لا تستغربوا ، صدقوني أنا لا أمزح ..

فانا أعيش حياة الموتى الآن ، أشعر بالحزن لفراقكم أصدقائي ؛ لكني على يقين أني سأنام وأتغلب على هذا الحزن الديكوري مع مرور الأيام ، فلم تعودوا تهمونني ، في الحقيقة حتى في السابق لم أهتم بكم ، أعترف لكم بذلك ، سأعتاد منذ الآن على حياتي القبرية والتي لستم جزءًا منها

- المكان هنا هادئ وجميل "في القبر" ، صحيح أنه ضيق بعض الشيء ومظلم كثيراً إلا أنه آمن ، آمن ٌجداً وهذا ما يجعلني مسروراً طوال الوقت

- لا تخافوا ، القبور ليست مخيفة كما تتخيلون أو كما يصورها لكم البعض ، إنها مريحة وتمنح ساكنيها عزلة لذيذة ووحدة ممتعة كأنها النعيم بتعبير ماركيز ، والعيش فيها أشبه ما يكون بساعات استراحة في سكينة الأرض ؛ فالقبور أكثر أمناً من بعض أوطان العرب .

- فحين تموتون وتنتقلون إلى الحياة الأخرى التي أحدثكم عنها ، سيقوم أولئك الساكنون في الأعلى باستقبالكم كما لو كنتم من أبطال الملاكمة لحظة خروجهم من الحلبة منتصرين؛

سيفرحون بكم ويحتفون بقدومكم خاصةً إذا كنتم شهداء ؛ فالشهداء يُحملون على الأعناق دائماً .

- كما تعلمون فقد استشهدتُ عدة مرات وانتحرتُ مرتين .

- فالمرة الرابعة التي استشهدت فيها ، كان قبل مغيب شمس أحد أيام الخريف ، حين قصفتني عيناها المُدلّلتان والمُذهبتان بألوان عسل أسود ، قصفتني "بنظرةٍ متقدة" لها بريق جمرة ورائحة شوقٍ يغلي ؛ لحظتها شهقتْ كل  أركان جسدي  وتسمرت عيناي "ذهولاً" ، وظل قلبي يرتعش حتى آخر نبضةٍ عَشِقَتْ لُقياها ..!

- لكني منذ أيام قليلة كنت قد استشهدت للمرة السابعة والتي كانت الأخيرة والأشَّد ألماً ، كانت الأخيرة ، وهي المرة الأولى التي استشهد فيها "دون أن أرغب" كما هي عادة الأبرياء في هذه البقعة المظلمة من الكون والتي يسمونها اليمن ..

- حين استشهدت وبعد مراسم الاستقبال الخاصة بي كشهيد .. اذهلتني طقوس ذلك الاستقبال الأسطوري لدرجة جعلتني أتمنى لو أنكم يا أصدقائي ضمن ذلك الحشد الهائل من الحاضرين الطيبين والذين استمروا في التصفيق والترحيب بي والهتاف باسمي من فور وصولي وحتى أتى شهيدٌ آخر ، لأنتقل بعدها أنا إلى جانب المصفقين .

إنهم الشهداء منذ هابيل يتم جمعهم في مدرجات "ملعب كرة قدم" سماوي وضخم جداً ليستقبلوا الوافدين الجدد (وليتعرفوا عليهم) .

- أعيش شهيداً الآن .. وفي اليمن قد يصبح المرء شهيداً دون أن يدري  ، وحتى دون أن يُريد ؛ فقط لمجرد مرورك بالشارع قد تتفاجأ لحظة انفجار أحدهم أنك أصبحت ضمن قائمة الشهداء الُمقدسين .

إحمل فكراً مخالفاً / كن حراً بما يكفي /أو كن يمنياً خالصاً ؛ لتكون شهيداً (متى أراد أحدهم) ..

أرخص الأشياء وأكثرها في هذا البلد بعد الفقراء ، هم الشهداء ..!

- يسقط الشهيد ؛

سقوطه تسجيل هدف في ملعب الشهداء ذي المرمى الواحد ،  ففي اللحظة التي تحتضنه رصاصات أو قذائف وانفجارات الموت يسقط جسده على الارض مسترخياً كورقةٍ يابسة تركت الغصن منهكةً لتطفو على ماء ساكن الى الأبد .

أما روحه "روح الشهيد" فتنطلق ككرةٍ من النور بعد أن يقبضها الملَك ويقذفها برفق نحو السماء لتستقر بعد ذلك في شباك المرمى الوحيد في ملعب الشهداء "معلقةً على الشباك كما لو أنها دمعة طفل متدلية على أحد أطراف عينيه البريئتين بعد أدائه لطقس بكائي حزين" ، حينها و كما يفعل المشجعون لحظة  تسجيل هدف في مرمى خصم فريقهم ، يقف الشهداء ببهجة وحماس لحظة سقوط الشهيد وبصوت واحد كأنه رعد عاصفة يهتفون : " ألف مبرووووووك لقد نجوت " ..!

- يظل الشهيد معلقاً على شباك المرمى حتى يتم دفن جسده ، ثم يعود كما كان في الدنيا "بريئاً وتعلوه ابتسامة" ، ينطلق بعد ذلك في أجواء من التصفيق الأسطوري قاطعاً وسط الملعب وبإحدى يديه يمسك قلبه وفي الأخرى يحمل رأسه ، يظل يمشي ويركض ومَن في المدرجات يصفقون بحرارة حتى يأتي شهيد آخر فيصعد عبر السلم إلى أحد الكراسي في المدرجات وقد كتب عليه اسمه وعمره ومن أي مدينة ، أماتحت قدميه فيتمُّ نحتُ اسم قاتله ..!

- بعد أن أغلق علي أهلي وأحبابي سقف القبر، وبعد مراسم الاستقبال الخاصة بي كشهيد طازج ، غادرت المدرجات وعدت إلى قبري لأرتاح قليلاً فبعد أيام من التصفيق الزلزالي للوافدين الجدد مللت من مشاهدة هذه المباراة التي يحدث فيها أن يتم تسجيل أهداف كثيرة ، كنت أنا حين استشهدت الهدف رقم "مائة وسبعة وعشرون مليوناً"  ما هذا !؟

- في قبري ، رأيتني على الحالة التي طالما حلمت بها ، "مجرد جسد" خاوٍ من  أي حياة ، ها أنا أخيراً قد أصبحت مجرد جثة "قلت لنفسي" .

- في البداية ظللت (عدة أيامٍ أحفُر) في التراب ؛

قمت بتوسعة مساحة قبري ، فعلى جانبي الأيمن حفرت غرفتين صغيرتين ، واحدة للنوم وأخرى لأداء طقوس القبر ، المساحة الأصلية للقبر رممتها وكنستها من غبار الدفن وجعلتها تبدو كصالة طارئة ؛ استقبل فيها الضيوف التائهين .

على جانبي الأيسر نحتُّ دولاباً صغيراً أضع فيه عظامي حين أقوم بخلعها أثناء النوم

وحفرت نحو الأسفل عدة انفاق سرية ، منها نفق حلزوني إلى الحارة المجاورة والتي فيها يقع قبر غير مكتمل يستعد لاستقبال تلك الحمامة الرشيقة ناصعة البياض ، حيث سيتم دفنها هناك بلا رأس ..!

- (بينما كنت) منهمكاً في أعمالي التوسيعية حدثت بعض المشاكل بيني وبين جيراني ، فكل دقيقة كان جاري العجوز يطرق الجدار الفاصل بين قبري وقبره ، كان يطرقه بشده وأسمعه يصرخ قائلاً : أزعجتني يا ولد دعني أنام أيها الوغد ، وكان يطلق عليّ العديد من الشتائم وكنت أتجاهلها وكأني لم أسمعها .

 في الحقيقة كنت أجعل نفسي تعتقد أن هذا العجوز (يصرخ في) ذلك الولد المشاكس المجاور له من الجهة الأخرى وكنت أقول يا له من ولد عنيد ! لماذا يُصرّ على إزعاج جيرانه ، وأستمرُّ في العمل !

- بعد أن انتهيتُ اخيراً من أعمال تلك الحفريات ، وفي قبري حيث لا أحد سواي ، خلعت أعضائي ، اقتلعت رأسي ووضعته بجانبي / قدماي خلعتهما ووضعتهما في أعلى مكان في القبر ، ففي مكان ضيق كهذا لست بحاجة لقدمين / عقلي هو الوحيد الذي تخلصت منه في الدنيا / أما قلبي فقد تركته على حاله ، كي لا أفسد عليه متعة حنينه لكل من بداخله / وعلى أحد جدران القبر رسمت عينيها الخُلاسيَّتين ذات النظرات الدافئة ، رسمتهما كنجمتين يتيمتين يحيطهما ذلك السواد المجيد والذي كان يحوّل قلبي في الدنيا إلى طائر قلق ينقر صدري .

رسمتُ عينيها ثم (أطفأتُ) الخوف ، وسويتُ سريرَ الذكريات ، وبعد ذلك نمتُ عدة سنوات دون قلق ..!

- كنت أستمتع بالأحلام والهدايا التي تأتيني من فوق قبري لحظة زيارة شخص ما ، إلى أن جاء أحدهم (وطرق باب قبري) ، كان يطرقه بشده كما لو كان هناك من يطارده ، استيقظت فزعاً وكنت أشعر ببعض الحر وبدأت أتعرق قليلاً .

خلعت ذلك الثوب الأبيض الذي ألبسوني إياه في الخارج والذي كنت أستخدمه في قبري كبجامة ، لا ينبغي لشهيد أن يقابل من طرق باب قبره بالبجامة ، يجب عليه أن يكون أكثر أناقة واحتراماً لضيوفه .

- خلعت بجامتي البيضاء والتي لا أدري كيف ألبسوني إياها ؟! وبعد خلعها بصعوبة ارتديت أعضائي وتفاجأت لحظتها أنني لا أرتدي كلسونا  ، أخجلني ذلك ، كنت أملك الكثير من الكلسونات في الدنيا ، لماذا لم يلبسوني إحداها ؟ و كيف سأقابل هذا الغريب الذي لا يكف عن طرق باب قبري ، هل أقابله عارياً ؟ لا لا ، لا يمكن ، فلا أستطيع أن أخلف وعدي للمرأة الوحيدة التي عشقتها والتي استحقت وحدها مجد أن تراني بلا كلسون ..!

- بدأت أشعر (بالتشنج والارتباك) ، فالضجيج المتصاعد والقادم من جهة بوابة قبري الصخرية لا يتوقف ، ارتديت بجامتي / لففتها كلها حول خصري ليظل نصفي العلوي عرياناً ، ولأبدو للضيف القادم كما لو أني "هندي أحمر" عفرت وجهي بالتراب وأخذت عظمة إصبع من قبر مجاور وربطتها فوق رأسي لتبدو كريشة ، ثم اتجهت نحو الباب لأفتح .

- فتحت بوابة قبري / رفعتها للأعلى قليلاً / ومن ذلك المستطيل الصغير الذي ابتسم لتوه بين حافة القبر وجسد البوابة ، تسلل ضوء غسقي فملأ زوايا القبر ببخار الغروب الحزين ، فتحت البوابة حتى النهاية ، كانت ساعة غروب ولم يكن هناك أحد ، أخرجت رأسي وتلفتُّ يميناً وشمالاً فرأيت ما لم أتوقعه ، لقد صار ما حولي وحتى أقصى نظري ، صار غابةً نمَت في أرجائها (صخورٌ مستطيلةٌ) جذورها أجساد .

- أسرَني المنظر وأبكاني ، سبحت في التأمل وغرقت في التفكير حتى بدأ الظلام يتهيأ للغزو ، وفجأة ظهرت أمامي فتاة كان يتدلى (من رأسها) ليل أسود بهيج ، ومن بعض تفاصيل جسدها الخيزراني بدت لي كما لو أنها في السابعة (عشرةَ) من عمرها ، بعينيها الرمحيَّتين واللتين  تبدوان  كعيني لبوة خائفة ، وبصوتها (النقي الذي) حين سمعته ظننت أني استمع لعزف قيثارة ، كانت تطرق جميع القبور ، وأخبرتني وهي تغادر : أنا رسولة السلام إليكم معشرَ الأموات ، فلتناموا إلى الأبد وليلة دون خوف ، فقد نجوتم ..!

- ومن بعيد وقبل أن تغيب هي كشمسٍ تهوي ، وأعود أنا إلى قبري حيران ، لوّحتْ بيدها ذات الأصابع الذابلة ، ثم صرخت بأعلى صوتها : من هنا ، من هذه البقعة المنكوبة من الأرض ، من اليمن ، سيبدأ الجحيم بالاشتعال ..!

- حذيفة الوري –

وسوم: العدد 761