جمالُ الأدب سلاحُ الأدب

1- طبيعة الأدب

إذا كانت وظيفة العلم هي في اكتشاف حقائق المادة وسننها لتسخيرها في بناء حضارة الإنسان، وإذا كانت وظيفة الدين هي في تفسير الحياة وإيضاح مقاصد وجودنا فيها، وضبطها بالتشريع الذي يحمي الحياة من الفوضى، فإن وظيفة الفن والأدب هي في أن يكون الباروميتر الذي يقيس جدوى الحياة من حولنا، من خلال الحقيقة وقيمتها في الشعور ووقعها في نفوسنا من خلال اكتشاف مدى إشباعها لطموحاتنا، وهذه نماذج من الشعر التي تكشف جدوى الحياة من حولنا كما يحس بها الشاعر أثناء موقفه من الأحداث، يقول الشاعر:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً        على أي جنب كان في الله مصرعي(15).

وقول الشاعر:

غير مجد في ملتي واعتقادي        نوح باكٍ ولا ترنم شادي(16).

وقول الشاعر:

لماذا إذا هدأت نجمة الحرب        تعطى الجوائز للهاربين(17)

ولا يمكن معرفة تأثير الأدب من خلال وظيفته، ولكن الذي يصنع هذا التأثير، هي تركيبة الأدب وطبيعته، حيث تلتقي في كيمياء النص مجموعة من العناصر، التي تجعله أشد تعقيداً من المركب الكيميائي، ومع ذلك لا نجد صعوبة في التعرف على هذه الحزم المتداخلة من تلك العناصر، عند التحليل الجاد للنص، فالأدب فيه:

1- (تحرش متبادل بين المبدع وواقعه) عن طريق (الحواس).

2- والأدب فيه (من مرآة النفس وطباعها وأشواقها وإلهاماتها وطموحاتها الكثير) عن طريق (ما يرشح منها) إلى بنية النص.

3- والأدب فيه (إطلالة على الحياة) المحيطة بهذا الواقع عن طريق (التجربة والمراس).

4- والأدب فيه (رؤية فكرية) عن طريق (التحليل والاستيعاب) للواقع المحيط بصاحب النص.

5- والأدب فيه (فهم للحقيقة) عن طريق (الاستدلال والاستنتاج).

6- والأدب فيه (قيمة للحقيقة) عن طريق (الموقف الشعوري) من الحدث المحرك لذلك التحرش. 7- والأدب فيه (تعبير عن الموقف) عن طريق (ما يختزنه الموقف الشعوري للمبدع تجاه الحقيقة التي أدركها بعد فهم النص).

8- والأدب فيه (إدراك لجدوى الحياة من حولنا) عن طريق (معرفة مدى إشباعها لحاجاتنا من خلال معطيات الحال).

9- والأدب فيه (استثمار للجمال في خدمة الحقيقة وعرضها) لأنه يتحول إلى حامل للحقيقة، يوصلها بكل أبعادها المضيئة والمعتمة، الحقيقة بروعتها وجمالها وقبحها، من خلال الرؤية الذاتية للمبدع ومن خلال السياحة الخيالية مع أفانين البلاغة بجناحيها (البياني والنوعي) وحيث ينتشل الأدب الحقيقة من مواطنها في: (الواقع والحياة والفكر والفهم والخيال والقيمة والنفس) ليضعها في مركب جديد ومعرض جديد اسمه (النوع الأدبي) وقد حملت ألوان مواطنها التي قدمت منها، ضمن وظيفة جديدة ونسق جديد اسمه معرض (فن الشعر) أو معرض اسمه (فن القصة) أو معرض آخر اسمه (فن المسرحية) وهكذا مع امتداد الأجناس الأدبية التي تنوف على العشرين نوعاً.

وفي هذه الحالة، لا بد أن يتسلح الأديب بعدة أسلحة معرفية من علوم وفنون كثيرة، لعل من أهمها بعد الثقافة الواسعة وعلوم اللغة، (علوم البلاغة) الجزئية، التي تمكنه من التحكم في سبك الجمل والتراكيب والأبنية اللغوية، مستفيداً من (علوم البيان) في: التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية، ومن (علوم البديع) في: المقابلة والتورية وحسن التعليل والجناس والطباق وغيرها ومن (علوم المعاني) في: التحكم بالأفعال والإسناد والربط وأساليب الاستفهام والنداء والنهي والأمر وغيرها، ثم لا بد أن يتمرس في بلاغة (النوع الأدبي) ووسائلها وخبراتها، ونقصد ببلاغة النوع الأدبي هنا، ما تتميز به الفنون الأدبية عن بعضها، أو يغلب على فن منها دون الفنون الأخرى.

فكل أديب أو مبدع، له موهبة في نوع من هذه الأنواع يتناسب مع إبداعه وطاقاته في التعبير عن ذاته، فإذا كان (شاعراً) مثلاً استفاد من الخصائص النوعية الغالبة على فن الشعر (كالخيال والعاطفة والوزن..) وإن كان (خطيباً) استفاد من تقنيات فن الخطابة التي تكثر فيه (كضمائر الخطاب والحجة والإقناع والاستعطاف والإثارة) لكسب الجمهور الذي يقف أمامه، وإن كان (قاصاً) استفاد من (الحوار والرمز والاسترجاع والرواية والمناجاة..) في صياغة قصته وإيضاح فكرتها التي يرغب بإيصالها للناس، وكذلك يفعل (المسرحي) مستفيداً من (الحركية والتجسيد والحوار والرمز والمناجاة) وغيرها، وإن كان (كاتباً) للمقالة اتجه إلى: (التسلسل المنطقي للموضوع والحجة والبرهان والإقناع والإمتاع...) لأنه يخاطب جمهوراً غائباً اسمه (القراء).

وهكذا يستفيد الأديب من ثقافته الواسعة وخبراته في الحياة واطلاعه على العلوم والحضارات، ومن تقنيات الأنواع الأدبية والبلاغة والخبرات الفنية لمن سبقه من أهل الصنعة ،في صياغة المشروع الجمالي، الذي يحمل مواقفنا ومشاعرنا إلى الآخرين، إنها صناعة معقدة وخطرة، سندرك أهميتها أكثر عندما نتعرف على العوامل والظروف التي تكشف خطرها وعظم تأثيرها في النفس البشرية، من خلال البراهين التي تشهد بعظمة الفنون الأدبية .

2- طبيعة الأدب (سلاح الأدب):

يستطيع المتابع للتأثير الذي يصنعه الأديب (المنتج) على ذوق القارئ أو السامع (المتلقي) مستثمراً (سحر البيان) الذي يأسر القلوب ويسيطر على المتذوقين، يجد أن الأديب يستعمل عدة أساليب منها: أسلوب التزيين والتحبيب أو أسلوب التجميل والتشجيع، وقد يكبر الصغير أو يصغر الكبير لأهداف بيانية وقد يستعمل العكس من أساليب: التقبيح والتنفير والتكريه والاستهجان أو التحريض ضد أشياء أخرى. من خلال ما ذكرنا من البلاغة (الجزئية أو النوعية) ويوظف صناعة الجمال البلاغي المقنن، حيث ينمي هذا الجمال مشاعر الإنسان في اتجاه معين، من خلال المتعة الفنية، والإيحاء بالتدريج ودون جدل أو نقاش، وإنما يتعمد الإمتاع الذي يجر المستمع خارج الخط الذي ألفه، عن طريق السياحة الخيالية، وإذا استمر تحت تأثير هذا الإيحاء مرة بعد مرة، سهل عليه الخروج عن الخط عملياً، بعد أن يتم تدريب خياله على الخروج والتمرد ذهنياً ونفسياً ومع التكرار يزيد ترسيخ هذا التأثير.

والأديب لا يتسلح بمنطق الجدل الذي يتسلح به المفكر والعالم والحكيم، وهو منطق قد يقنع وقد لا يقنع، وإنما يستعمل منطقاً خاصاً به هو (المنطق البياني) الذي يقوم على فرضيات، التشابه والمقارنة والتقريب والحذف والتعديل والإضافة والاستثناء في أبنية الصورة الفنية لرسم الإيحاء الذي يحدث التأثير، ولنا في تحليل هذا البيت من الشعر نموذج يوضح هذا المنطق البياني ويقربه إلى الأذهان، وذلك من خلال قول الشاعر:

قد خلفتني جريحاً وهي قائلة: تأملوا كيف فعل الظبي بالأسد(20).

حيث عقد الشاعر مقارنة بين (الفتاة والظبي) و (الرجل والأسد) وحذف لفظي المشبه به (الفتاة والرجل) وأبقى العلاقة قائمة بين (الظبي الجميل) و(الأسد القوي) وحيث يتغلب (الظبي على الأسد) فيوقعه طريحاً، إنه الجمال الذي يصرع القوة، فمع أن الحقيقة تقول: إن الأسد هو الذي يصطاد الظبي لضعفه، إلا أن البلاغة صنعت من مخالفة الحقيقة، وقلبها رأساً على عقب، حالة جديدة من الانزياح الدلالي للمعاني، أدت إلى كشف حقيقة مخبوءة هي: أن الضعيف الذي يملك الجمال وروعته أقوى من القوي المحتاج إليه بالفطرة، وذلك من خلال منطق الجمال وسلاحه الفتاك الذي يتغلغل في النفوس فيفعل فيها الأفاعيل، وذلك عندما يكون بأسلوب فني غير مباشر حيث استعمل الشاعر أسلوب (القناع الفني) عندما اختبأ هو وحبيبته وراء قناع (الظبي والأسد) مما أضفى على هذا الانزياح مسحة من الإقناع لصالح هذا (المنطق البياني) الجميل الذي يختلف عن المنطق العقلي وأساليبه.

كذلك نجد عندما نتابع قصيدة، أو شريطاً لقصة معينة، حيث تجد نفسك تتأثر وتتربى وتتفاعل دون أن تدري، وذلك عن طريق تفاعلك مع سلوك شخصيات هذه القصة حباً أو كرهاً وحيث تنمو مشاعرك تجاه هذه النماذج سلباً أو إيجاباً ومن الأمثلة الواضحة على هذا الأمر، ما قام به كتاب (اليسار واليمين) في الفن الروائي الذي امتد إلى أفلام السينما العربية في القرن الماضي، حيث قاموا بتشويه نموذج (عالم الدين المسلم أو الشيخ المسلم) حين رسموه في رواياتهم بصورة الإنسان الأبله البليد الجامد، لتنفير الناس منه، وعزله عن المجتمع ظلماً وعدواناً، ونصرة لثقافاتهم العلمانية، ومحاربة للإسلام والمسلمين(21).

كما أن الأديب المنتج يعرض قدراته ضمن (النوع الأدبي) الذي يتقنه لتنمية استعدادات المتلقي: (القارئ والسامع والمشاهد والمتعلم والباحث والجمهور والمجتمع..) النفسية وإيقاظها في الاتجاه الذي ترمي إليه القصيدة أو القصة أو غيرها بمراميها الفنية والفكرية حتى تنجر نفسية هذا المتلقي مع المتعة الفنية إلى مقاصده التي يريدها، فهو لا يستعمل الجدل ولا النقاش ولا البرهان ولا الدليل، بل يغرق النفس في متعة التلقي، تلقي الفكرة والانجذاب لها حتى تصبح هذه المتعة في النفس مقام الضواغط التي تجبر النفس وتغريها بالانزلاق معها بسهولة ويسر، وهذا معنى قوله تعالى (يتبعهم الغاوون) أي ينجرون نحو الغواية والضلال ويسيرون وراءهم، تحت تأثير سحر البيان، وبخاصة الناس الذين لا يملكون التحصين والوعي الكافي، فالفارغ فكرياً هو أسرع استجابة وتأثراً، بحكم أنه لا يملك مصل المناعة الذي يحميه من الوقوع تحت تأثير البيان الذي يأسر القلوب بسحره، وحاله يشبه حال مجنون ليلى حين قال:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى        فصادف قلباً خالياً فتمكنا(22)

لقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم تأثير البيان بتأثير السحر حين قال (إن من البيان لسحراً) وأظن أن هذه المقاربة  بين البيان والسحر تقوم على أن البيان يخاطب مخيلة المتلقي أولاً ثم يوسع مساحة المتعة لدى النفس ويحركها للتفاعل معه عن طريق الأبنية الفنية، وكذلك السحر أيضاً يقوم على مخاطبة مخيلة الفرد أو الجمهور من خلال خفة يد الساحر وخدعه، فيوقع في مخيلتهم توهم الحدوث، وانظر لقوله تعالى: (فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم) (23) لترى دليل ذلك من القرآن الكريم، فسحر البيان والسحر المصطلح عليه، كل منهما يقوم على نشاط (المخيلة) التي توهم بالتحقق، وهو ما وقع لموسى عليه السلام حين خيل إليه ذلك، قال تعالى (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) (24).

فأنت تعيش في الأدب مع مخيلة يحركها أو يصنعها البيان وذلك حين يفتح هذا الأدب ثغرة في مخيلة المتلقي يوسعها ويغذيها بالأبنية الفنية المتلاحقة، التي تغرق النفس في متعة التلقي والتفاعل والتأثر، إنه أشبه بتيار كهربائي من سحر البيان يسري من النص إلى النفس، بينما المسحور يقع تحت تأثير الساحر وخدعه وألاعيبه والفارق بينهما كبير وواضح، فسحر البيان فيه الحلال ما دام في حدود القول السديد وفيه الحرام، بينما السحر العادي فيه مصادرة لعقول الناس وإرادتهم وحكم الشرع فيه أنه من السبع الموبقات، وفي نهاية الأمر لست بحاجة إلى الإيغال في ضرب الأمثلة، فالشعراء والأدباء وأصحاب القصة والمسرحيون والمغنون والمنشدون الذين يخدمون النص وفنونه، هم أقرب إلى قلوب الناس من أصحاب الجدل والنقاش في العلم والفقه والفكر، وأصحاب الخطاب السياسي والاجتماعي والإصلاحي لأن هؤلاء يرمون بسهمهم في العقل فهيهات أن يصيب أو أن يقنع إلا بحجة أو دليل أو برهان، أما الأديب فيصوب سهمه نحو النفس فيصيب بحق أو بغير حق، فإن كان من أهل التقوى حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وجمل الحق في أعينهم وحرضهم على الثبات عليه، وإن كان من أدباء الضلال، دغدغ عواطفهم وحرك مكامن الهوى والرغائب وأوقعهم في الضلال وحببه إليهم.

والفارق بين أديب يدعو إلى الحق، وأديب يدعو إلى الباطل كالفارق بين (الملك) الذي يذكر النفس بالخير ويلهمها إياه، (والشيطان) الذي يوسوس لها بالشر، خدمة للباطل وصداً عن سبيل الله.

وسوم: العدد 772