أشواك البراري... رحلة الانسان الذي قام من أجل الحياة الراقية
في ذكرياته عن الطفولة المعذبة في " اشواك البراري " الصادر قبل أيام عن مكتبة كل شيء الحيفاوية.. روى الأديب جميل السلحوت رواية اجيال كاملة من الفلسطينيين المولودين في ريف القدس والبراري الممتدة حتى تخوم وشواطئ البحر الميت، وصّور قلمه المبدع بصدق وشفافية عالية ظروف الحياة والمعاناة الصعبة التي اكتنفت حياة أجيال من البشر لم تكن لهم أيّة خيارات في هذا الواقع المأساوي المغلف بأساطير الفقر والجهل والتخلف والحياة البدائية.
ويمكن القول ان " أشواك البراري " هي قصة كل واحد من أبناء شعبنا عاش تقريبا نفس الظروف والمعاناة والقمع والقهر والاضطهاد بجميع اشكالها والوانها، ورصد الشيخ اللكاتب بعينه اللماحة وفكره المتقد المستنير أدق التفاصيل لحياة تمور بالتيارات الاجتماعية والسياسية الصاعدة والمشحونة بالفوران العاتي، وهي تكابد للخروج من قوقعة الالتصاق بما هو سائد من قيم وأفكار وعادات قبلية متزمتة وبالية الى رحاب وآفاق جديدة تلامس روح التقدم والانعتاق من ربقة الجهل والظلم والتخلف، وتنشد التغيير لما هو أفضل وأجمل لانسان هذا العصر، إنها باختصار.. حكاية الانسان الذي قام من أجل حياة كريمة وراقية.
وباسلوبه الحكائي المتدفق بسلاسة وامتاع يغوص شيخنا في تلافيف ودهاليز الواقع المرّ، كاشفا لنا الكثير من خباياه، متحينا الفرصة للانقضاض عليه والمساهمة في تغييره من خلال امتشاق سيف العلم والتعليم، الذي يبني بيوت العز والكرم، ويهدم بيوت الجهل والتخلف والرجعية، وتمكن الكاتب في سيرته عن مرحلة طفولته " أشواك البراري " من تصوير الحياة كما هي، وأحالها الى شريط سينمائي جميل ومشوق يتراءى أمام أعيننا وناظرينا. وكأننا بتنا جزءا منخرطا في هذا السياق التاريخي المحمل بالمصائب والمؤامرات التي تترى على شعبنا وهو يناضل بكل ما أوتي من قوة؛ لرد هذه الغزوة الصهيونية عنه، إلا أنه يقع ضحية لها لكنه لم يستسلم ولم ولن يرفع الراية البيضاء، بل ينهض من جديد، ويتعثر أحيانا ولكنه يواصل التحديق واتباع البوصلة التى ستقوده الى شواطئ الحرية والأمان يوما ما.
ومن خلال تجربته الحياتية الشخصية يرسم جميل السلحوت سطور حياة عاشها كما أشار هو ربما الملاىيين من أبناء هذه الأمّة، حيث تماهى الخاص بالعام، ومزج الكاتب بصورة فنية أدبية مبدعة بين نواحي الحياة المختلفة، وكيف جاهد لتطوير وتثقيف نفسه رغم ما مرّ عليه من آلام شخصية، مثل فقدانه لعينه اليسرى والعذاب الذي مرّ به في رحلة العلاج القائم على الطب الشعبي، والخزعبلات والشعوذات التي كانت سائدة في المجتمع الريفي، وممارسته للعديد من الاأعمال الشاقة كرعاية الأغنام وحيدا في البراري والمناطق المنعزلة، والعمل في الآثار والأحافير في منطقة طنطورة فرعون في سلوان، وغير ذلك من الأعمال الشاقة على كاهل طفل أو صبي صغير.
وعدا عن سمة الصدق التي تميزت بها " أشواك البراري " ظهر جليا سمة أخرى وهي المصداقية، حيث تبدت في الاشارة الى مختلف أطياف المجتمع العشائري والوطني دون التحيز أو محاباة العشيرة أو الحزب السياسي، وإنما رصد واقعي والاعتراف لكل ذي حق بحقه، والترفع عن النظرة الضيقة، وإنما تغليب البعد الوطني والقومي كما في الاشارة الى علاقته الأولى مع الأخوة المسيحيين، وكذلك في ذكر أقدم المنازل التي شيدت في جبل المكبر لعائلات من السواحرة، وكذلك أولى العائلات التي بدأت في اسلوب الزراعة باسلوب علمي ومنهجي .. وهكذا.
اشواك البراري .. قصة من لا قصة له، لا أظن أن هذه الإضاءة والعجالة البسيطة والمختزلة جدا تعطيها ولو نزرا يسيرا من حقها، لأن حقها الأساسي في قراءتها والتمعن في " روحها " الوثابة المنطلقة نحو فضاءات الكون. إن هذه الصورة الانطباعية عنها عاجزة ومبتسرة ومبتورة، ولا غنى عن اصطحاب أشواك البراري في رحلة مطالعة شائقة، لمن يبحث عن الجواهر الثلاث، العلم والتقدم والحياة في ظلال الحرية، واذا كانت هذه ذكريات الطفولة يا شيخنا .. فماذا مع ذكريات الصبا والشباب والكهولة .. وهي مليئة بجواهر الحكمة السبعة.. وان غدا لناظره قريب.
وسوم: العدد 773