كبار منشدي الشعر العربي
حدثنا أستاذنا الدكتور عبد الصبور شاهين -وقد كان عمل أول حياته بالتثقيف الإذاعي الإلقائي- عن الأستاذ عبد الوارث عسر، أنه كان يدعي بكتابه "فن الإلقاء"، ما لا يستحق، وكأنه ضجر به -وربما أحرجه وهو النجم الساطع، عن بعض تلك الأعمال- وللدكتور شاهين نفسه صوت أكبر من صوت الأستاذ عسر وأحسن، ولكن هيهات أن يقوم لأدائه!
لم يوهب الأستاذ عسر صوتا كبيرا حسنا، بل مهارة كبيرة حسنة بسياسة ما أوتي، وهو من الممثلين في هذا مثل عبد الحليم حافظ من المغنين، الذي ذكر عن نفسه في إحدى صَدقاته المعدودات، أنه صغير الصوت إلى قرينه محرم فؤاد الكبير الصوت الحسنه، فأشار -ونصدقه- أنه أمهر بسياسة صوته من محرم!
وقرين عسر من الممثلين حمدي غيث الكبير الصوت الحسنه، الذي شاركه في الأمسية المحمدية، ولكنه على عكس ما كان بين عبد الحليم ومحرم، فلج في الأمسية على عسر وغيره؛ فعجبت أن لم يتفرغ لإنشاد الشعر؛ فقد حيز له بحذافيره، ثم كفكفت من عجبي؛ فهو من مخضرمي المسرحيّين، الذين ملؤوا الدنيا بما لم ندرك من الأداءات الكبيرة!
وأعجب ما في حمدي غيث أنه بقي له صوته كبيرا حسنا طوال حياته، على حين أنكرنا أصوات غيره ممن ذاع لهم صيت، كالشيخ مصطفى إسماعيل من قراء القرآن، وعبد المطلب من المغنين، اللذَين كنت أعجب لتقدير الناس لهما تقديرا كبيرا، من حيث "أسمع صوتا، ولا أرى فوتا"، حتى طلع علينا "اليوتيوب" -أطال الله في النعمة بقاءه!- فإذا صوتاهما في شبابهما يتدفقان حين ينطلقان، من خلايا جسميهما كلها جميعا معا، وكأن الكائنات كلها تشاركهما في صوتيهما عندئذ من كل حدب وصوب، جميعا معا! كذلك كان لمحمود ياسين صوت كبير حسن، أنطق به أعمالا كثيرة، ولكنني لم أقدره قدره حتى أعاد التلفاز المصري عرض مسرحية "ليلى والمجنون"، لصلاح عبد الصبور، وكذلك قدره زملاؤه، حتى سمعت بعضهم يذكر أنه أزال عنه التباس القاف بالكاف، بكلمة كأنها من حكم الأوائل: "الْكَافُ مِنَ الْفَكِّ، وَالْقَافُ مِنَ الْحَلْقِ"!
وقد استطاع الأستاذ فاروق شوشة صاحب البرامج الثقافية الشهيرة الخالدة، أن يقتحم على ذوي الأصوات الكبيرة الحسنة، حتى صار الإعلاميون يتبرَّكون بصوته، يأخذ هذا من أداءاته، ويستعمله ذاك في أداءاته؛ فملأ الدنيا وشغل الناس، وبجواره صوت أكبر منه وأحسن، طويل الصمت بمكتبه من قسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة، لا يطلب حظا ولا يرضى عن حظ، ولا يعرفه غير الصادقين من زملائه والنابهين من تلامذته والباحثين من غيرهم، صوت أستاذنا الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم، الذي أراد في صباه أن يقرأ للناس به القرآن، فلما لم يتيسر له زهد فيه!
وفي أثناء ذلك كله نشأ محمود درويش كما شاء، جسما رشيقا ووجها وسيما وقولا بليغا وصوتا كبيرا حسنا وثوبا أنيقا -تلك خمسة كاملة- فظلمهم، وعفّى على آثارهم، حتى صار هو المسرحية والممثلين، والمعزوفة والموسيقيين، والأغنية والمغنين؛ فوجب أن يُفرد بالنظر!
وسوم: العدد 780