تفكيك تماسك المقدمات السردية بغياب الضمير والروابط وعدم توظيف علامات الترقيم
(1)
للغة العربية مهارات أربعة تشترك بها مع اللغات الأخرى، هي: الاستماع والتحدث، والقراءة والكتابة؛ لذا يتعلّمها الطفل لا سيما القراءة والكتابة تعليما مباشرا وغير مباشر.
كيف؟
التعليم المباشر بتعليم قواعد النحو والخط والإملاء والإنشاء، وهذا له شأو ومكان وحضور في المجال التربوي. أما غير المباشر فيشوبه تقصير كبير.
كيف؟
يأتي التعليم غير المباشر - الذي هو في حقيقته تعلما- من تَمثّل الأنماط اللغوية للجملة والفقرة والموضوع مما يقرأ الطفل في موضوعات اللغة العربية المقررة عليه، ومحاكاتها؛ فإن كانت صحيحة امتلك التلميذ ناصية التعبير الكتابي بمحاكاة الأنماط التي اختزنها ذهنه في مكان الذكاء اللغوي أو الغريزة اللغوية، وإن كانت الأخرى فحدّث ولا حرج مما تراه وتقرؤه للمتعلمين في مراحل التعليم كلها من تدن وتدهور.
كيف تكون الأخرى المسببة التدهور والتدني؟
سنبين هذا من خلال تحليل المقدمات السردية في مقرر اللغة العربية للصف الثالث الابتدائي.
لماذا الثالث الابتدائي؟
لأسباب، منها: لأنه العام الدراسي الأول الذي يصادف فيه التلميذ النصوص الطويلة التي يختلط فيها السرد بالحوار بعد عامين عاش فيهما مع النصوص القصيرة، ولأن النمو اللغوي يكون قد تم عند تلميذ الثالث الابتدائي؛ مما يقتضي تماسك المحتوى المدروس تماسكا لغويا.
ولأن مقرر الصف الثالث ينفرد من بين السنوات الدراسية بالتفاوت في موضوع الحفاظ على نصية المقدمة أي تماسكها.
كيف؟
كما سيتضح لاحقا فإن هناك تباينا بين وحدات الكتاب بخصوص تماسك المقدمات السردية التي بينت في مقالي (علم النص وما تولد منه من نحو النص يلتقيان وما تريده إستراتيجيات القرائية ومسائلها من التماسك الموضوعي) - أن تماسك النص له عناصر كثيرة منها استخدام الضمير والروابط و...
وقد أدى غياب الضمير وإحلال الاسم الظاهر محله إلى عدم استخدام الروابط وعدم توظيف علامات الترقيم؛ مما أدى إلى تفكك السرد - أي إلى عدم نصيته أي عدم تماسكه- في مقدمات الموضوعات المدروسة التي شهدت هذه الظاهرة على الرغم من قلة كلماتها؛ مما يحرم التلميذ لغويا أنماطا لغوية حقيقية صحيحة، ويحرمه تربويا من وجه من وجوه التعلم النشط كما بينت في مقالي (القرائية حركة دائبة في فضاء النص والمفردات والفضاء خارجهما في الذهن وغيره لإنتاج التعلم النشط).
لماذا؟
لأنه هذه المقدمات المفككة قد ردت طفل الثالث الابتدائي إلى طفولته المبكرة التي كان يتحدث فيها عن نفسه بالاسم الظاهر بدل استخدام الضمير؛ لعدم نموه اللغوي.
كيف؟
(2)
يتضح ذلك من خلال الافتتاحيات السردية للوحدة الأولى المعنونة بـ (رحلة الفراشات الملونة) من مقرر الفصل الدراسي الآخر-التي تحتوي على نصين وظيفيين (موضوعيْ قراءةٍ)، ونص شعري.
كيف؟
جاء في الموضوع الأول المعنون بـ(أرض النخيل) هذه المقدمة السردية: {بعد رحلة طويلة وصلت الفراشات إلى أرض النخيل، جذب انتباه الفراشات المناظر الرائعة بساتين الزيتون والنخيل حول البحيرات. شعرت الفراشاتُ بالبهجةِ، فقالتْ: مَا أجْمَل وطننا مصر! حطت الفراشات على بساتين النخيل، البلح السيوىّ شهى وجميل. شربت الفراشات من عِيُونِ المياه المعدنية العذبة. وفي أحد البساتين تحدثت الفراشات مع أحد السياح...}.
في هذه المقدمة السردية التي تحتوي على خمسين (50) كلمة تكررت كلمة (الفراشات) اسما ظاهرا ست (6) مرات، ومرة واحدة ضميرا مستترا في الفعل (فقالتْ: ...)؛ فتفكك السرد؛ لعدم وجود الضمير المحيل إلى السابق الذكر؛ لأن الاسم الظاهر هنا ليست له فائدة بلاغية ولا دلالية على الرغم أنه يندرج تحت الفن البلاغي (الالتفات)، ولا يساير تربويا النمو اللغوي لطفل الثامنة الذي أصبح يجيد استعمال الضمائر؛ لذا يجب أن يجدها فييما يقرأ.
ولم يقتصر الاضطراب على هذا الوجه فقط بل انضاف إليه وجه ثان وثالث.
ما الثاني؟
عدم استخدام الروابط كحروف العطف التي تختلف دلالة زمنية؛ فصارت الفقرة جملا متراصة لا رابط بينها إلا كلمة (الفراشات).
وما الثالث؟
إنه الاقتصار على النقطة علامةَ ترقيمٍ؛ مما جعل الفقرة أسطرا منفصلة كما أوردها كاتبها.
ولو حدث استعمال الضمير كما يقتضي السياق الذي يجعل النص يتماسك بجعل الاسم الظاهر يأتي مرة واحدة، وتأتي بقية المواضع ضمائر تحيل عليه- فستأتي الروابط، وتتعدد علامات الترقيم؛ لتصنع مع الضمائر نصا متماسكا.
كيف؟
كالآتي: {بعد رحلة طويلة وصلت الفراشات إلى أرض النخيل، فجذب انتباهها المناظر الرائعة وبساتين الزيتون والنخيل حول البحيرات. وشعرت بالبهجةِ، فقالتْ: مَا أجْمَل وطننا مصر! ثم حطت على بساتين النخيل؛ فالبلح السيوىّ شهى وجميل. ثم شربت من عِيُونِ المياه المعدنية العذبة. وفي أحد البساتين تحدثت مع أحد السياح...}.
يتسم الموضوع الأول بكل هذا على الرغم من أن الموضوع الأول للفصل الدراسي الأول قد جاءت مقدمته السردية القصيرة متماسكة خالية من كل ذلك.
كيف؟
جاءت في موضوع (حي الأشجار): {يذهب باسم وبسمة إلى المدرسة كل صباح، وفي الطريق يلاحظان عمال النظافة يجمعون القمامة، وفي أثناء العودة تكون القمامة قد ملأت المكان مرة أخرى}.
وتكرار الاسم الظاهر (القمامة) هنا ليس عيبا كما كان في الموضوعين السابقين.
لمه؟
لأنه مسوق لغرض.
ما هو؟
إنه التنفير؛ فلذلك جاز عدم الالتفات من الاسم الظاهر إلى الضمير.
(3)
وتكرر الأمر في الموضوع الثاني المعنون بـ(أرض الذهب)، ويبدو أن كاتب الموضوعين شخص واحد؛ لاتحاد السمات الأسلوبية فيهما.
كيف؟
جاءت المقدمة السردية هنا قصيرة تكونت من سبع عشرة (17) كلمة، لكنها حملت ما أشرت إليه في الفقرة السابقة من تكرار الاسم الظاهر الذي هو الفراشات والقرية تكرارا حرم الفقرة وجودَ روابط تجعلها نصا متماسكا ووجودَ علامات ترقيم فيما خلا النقطة.
كيف؟
كان نص المقدمة السردية هو: {أقبلَ الشتاءُ .. طارتْ الفراشاتُ الملونةُ إلى الجنوبِ. هبطت الفراشات فى قرية جميلة. القرية على ضفاف النيل}.
ولو استخدمنا الضمائر والروابط لصارت الفقرة نصا متماسكا كالآتي: {أقبلَ الشتاءُ، فطارتْ الفراشاتُ الملونةُ إلى الجنوبِ، وهبطت فى قرية جميلة على ضفاف النيل}.
واختفت كل هذه المؤاخذات من النص الشعري المعنون بـ (نشيد الفراشات)؛ فقد جاءت الضمائر والروابط لتجعله نصا متماسكا كما بينت في مقالي (نشيد "الفراشات" للثالث الابتدائي: تنمية التفكير والمهارات الصوتية وبعض إستراتيجيات الفهم القرائي).
وليس هذا خاصا بهذا النص الشعري وحده بل هو يعم النصين الشعريين الباقيين في الوحدة الثانية والثالثة: نشيد (نيل بلادي)، ونشيد (بلادي).
وليس هذا وحسب فإن النصوص الوظيفية الأخرى أي موضوعات القراءة في الوحدة الثانية: (توفير الكهرباء، وقطرة ماء)، وفي الوحدة الثالثة: (هيا نتعاون، وهيا إلى العمل)- يبدو أن مَنْ كتبها كاتب آخر؛ فقد جاءت خالية من هذه المؤاخذات.
(4)
ويردنا هذا التفاوت في المستوى اللغوي في النصوص الوظيفية أي موضوعات القراءة إلى إيجاب معاملتها معالمة النصوص الشعرية.
كيف؟
كما تختار لجنة الكتاب النصوص الشعرية يجب أن تختار نماذج نثرية من صناعة الكُتّاب الكبار، أو تكلف أدباء بتحريرها وكتابتها- مهما كانت السنة الدراسية.
وسوم: العدد 781