خالد ديريك على جثة الوعد اندثر!
في عوالم الشعر تستنهض المشاعر والأفكار والهواجس والرؤى مع تجليات الواقع حيث يكون التجسيد على آفاق بعيدة وقريبة في نفس الوقت رغم تكوين المباشرة واللا مباشرة التي تتجلى بين حين وآخر في الصور الشعرية.
الشاعر خالد ديريك من الشباب الواعدين الذين يحركون الراكد ويثيرون الساكن ويدخلون في ثورات فكرية شبابية، خاصة في لقاءاته وحواراته مع الأدباء والفنانين بمعاني إنسانية ومضامين تحيل الواقع إلى كارثة أو إلى أمل مشرق والأحداث إلى طوفان يغرق المعنى واللا معنى وإعصار قوي يقلع البسيط والعميق ليجعل من الحوارات طاقة إيجابية ينطلق من خلالها إلى عوالم غريبة بعيدة عميقة قيمة.
في قصيدته ” على جثة الوعد اندثر” يعكس حالة الضوء والعتمة، العتمة التي تضمحل الرؤية وتتعثر بأشياء لا تكن في الحسبان فلا موعد ولا ميعاد ولا خلاص ولا إخلاص للزهر للأفق الجميل، والفراق عن أنوار الأمل ومداها وأطياف الحياة وألوانها مأساة تكور نفسها على واقع الفكر والجسد، ومهما حاولنا أن نطوي مسافات العتمة تبقى جهالة العتمة مدوية كونها غرست في أرض الفكر مما يؤدي إلى انفجار الآهات والحسرات وتجلي العادات والتقاليد البالية.
((منذُ أَنْ حَجَبَ الضَّوْءُ
عَنِّي زَهْرَةَ المِيعَادِ…
أُعانِي الفِراقَ،
أُجاهِدُ لِطَيِّ المسَافاتِ
وَإِنْهاءِ الحَسراتِ
وَهَدْمِ العَاداتِ…)).
تمضي المحاولات بعد محاولات بشوق يمتطي حوافر الأثر لكي يلحق ما نأى لكن يتراءى كالسراب، والخيال يطوي الخيال المبحر بين واقع مر وإحساس أمر كالعلقم فغربة الديار تترك صور مؤلمة وحزناً مدهماً والابتعاد عن الديار لا يوصف بكلمات لأنها أعمق من أن تكون مجرد ديار مكونة من أحجار وطين وماء، أكبر من أن تكون غربة فقط فهي تندمج بين أمل العودة واللا عودة، الانتظار واللا انتظار، وأمل المكان المغترب يحيا في النفس صور إنسانية وذكريات الديار تأبى الرحيل عن هاجس الفكر والروح، ومهما كانت علو الأسوار فلا بد من العودة وإن تظهر عودة خيالية أو فكرية أو تأملية أو هاجسية.
((وأَمْتَطِي صَهْوَةَ الشَّوْقِ
أَقْطَعُ الأَمْيالَ…
أُلاحِقُ الخَيالَ…
لِأُقَبِّلَ خُدُودَ الدِّيارِ
رَغْمَ عُلُوِّ الأَسْوارِ)).
يمتد خيال الشاعر خالد ديريك بعد عوالم العتمة ومأساة الانتظار والعودة إلى الديار إلى ذات طائري يحوم على فضاء بيدر يحاول أن يلتقط حبة قمح التي تجسد الغير الوفير في أرض مأساوية في الإدارة والعدل والتربية السليمة والمساواة بين جميع أطياف وفئات المجتمع، ركود وعتمة وفساد وجهل وانكسار وانهيار خاصة حينما تكون الديار محاصرة بيد الظالمين الطامعين والتابعين والفاسدين والجاهلين فلغة القنص ترمي إلى قتل كل ما هو جميل في الحياة، قتل الإنسان والجمال والفكر والتطور والإبداع، والقتل ليس حلاً في أرض الإنسانية، ورغم المحاولات تمتد الخيبة حينما يستحيل كسر الطوق والحصار خيالاً ، حلماً.
((أَرَانِي طَائِرًا …
لَا يُفَارقُ البَيْدرَ
لِأَلْتَقِطَ حَبَّة القَمْحِ
رَغْمَ مَخاطِرِ القَنْصِ
فَأَخِيبُ ظَناًّ
دُونَ كَسْرِ حِصَارِ،)).
يدعم الشاعر خالد ديريك نصه الشعري تشبيهات ورموز وهي تعتبر طاقة فكرية جمالية متناغمة مع الواقع والطبيعة فالموج الهائج والصخور واصطدامهما اصطدام فعل (الثابت والمتحرك) وقد يكون المتحرك صور إنسانية عاطفية حسية فكرية والثابت المكان الديار الوطن حيث يلم متاعه ويعود إلى منفاه دون فعل متغير جديد على أرض الواقع.
((مِثْل ذَاك المَوْج الهَائِجِ
الذِّي يَصْطَدِمُ بِالصُّخُورِ
وَيَلْطِمُ الطَّحالِبَ
وَيَعُودُ إِلى مَنْفَاهُ دُونَ
أَنْ يَشُقَ بَرْزَخاً،)).
صدمة الواقع المأساوي، صدمة الغربة في بلاد الغربة بلا حدود، صدمة اللا عودة، صدمة الكارثة الإنسانية من قتل البشر وخراب الديار ودمار الفكر، ونزوح وتشريد وتهجير، نفير نفسي للبحث عن أمل جديد وابتسامة تأملية حيث يبقى وجه الجلنار راقياً منوراً كالقمر المنير في ظلمة الليل رغم كل المآسي.
((وفَجْأةً…
أَخْرُجُ مِنْ حِزامِ الصَّدْمَةِ
عَاشِقاً…تَائِهاً…. أَبْحثُ…
عَنْ عَبَقِ الابْتِسَامَةِ
فِي وَجْهِ الجلْنَارِ،)).
وفي صمت الروح يكون المنادي هاجساً، صوتاً والملتقى البعيد والقريب شحروراً يتناغم مع صورة جوهر النص الشعري والجمال الشحروري والحرف الروحي الممزق بين الوجود واللا وجود والمكان واللا مكان بين الوطن واللا وطن يبحر عاشقاً إلى شواطئ آمنة ليعلن من هناك على جثة الوعد المنتظر، وعد اللقاء والمحبة والجمال ولم الشمل، وعد عودة الوطن والديار والمكان والذكريات، لكنه يترنح كتائه في صحراء جرداء كالسكير بلا خمر ويندثر على حافات حضارة إنسانية راقية دمرها الهمج والجهل والطمع والفساد الفكري.
((أَسْتَمِعُ إِلى بَقَايا صَوْتِ
شُحْرورٍ…
فَأُلمَلمُ أَشْرِعَةَ
قَصَائِدي الممَزَّقَةِ
التِّي تُبْحِرُ
لِلْوُصُولِ إِلى
شَواطِئِ يَدَيْكِ
وَأقِفُ عَلى جُثَّة الوَعْدِ
أَتَرَنَّحُ ثُم أنْدَثِرُ
مِثْلَ حَضَارَةٍ غَزَتْهَا
حَوَافِرُ الهَمَجِ.))
اعتلى الشاعر خالد ديريك في نصه صهوة جواد المأساة الإنسانية والمكانية ليثير وراءه غبار العتمة والمعاناة وصور العودة والذكريات التي تتراءى في خيال الغربة وتندثر كالسراب، ورغم هذه الصور المعتمة يبقى الأمل في مضامين النص والمعالجة والحلول رائية ويبقى تنفيذها على الأرض وعداً قد يكون قريباً ولا يندثر.
قصيدة للشاعر خالد ديريك من ديوان مشترك ” صهيل من فلوات الأرواح” مع د. كريمة نور عيساوي.
نص القصيدة لخالد ديريك …
عَلَى جُثَّةِ الوَعْدِ انْدَثِرُ
مُنْذُ أَنْ حَجَبَ الضَّوْءُ
عَنِّي زَهْرَةَ المِيعَادِ…
أُعانِي الفِراقَ،
أُجاهِدُ لِطَيِّ المسَافاتِ
وَإِنْهاءِ الحَسراتِ
وَهَدْمِ العَاداتِ…
أَمْتَطِي صَهْوَةَ الشَّوْقِ
أَقْطَعُ الأَمْيالَ…
أُلاحِقُ الخَيالَ…
لِأُقَبِّلَ خُدُودَ الدِّيارِ
رَغْمَ عُلُوِّ الأَسْوارِ
أَرَانِي طَائِرًا …
لَا يُفَارقُ البَيْدرَ
لِأَلْتَقِطَ حَبَّة القَمْحِ
رَغْمَ مَخاطِرِ القَنْصِ
فَأَخِيبُ ظَناًّ
دُونَ كَسْرِ حِصَارِ،
مِثْل ذَاك المَوْج الهَائِجِ
الذِّي يَصْطَدِمُ بِالصُّخُورِ
وَيَلْطِمُ الطَّحالِبَ
وَيَعُودُ إِلى مَنْفَاهُ دُونَ
أَنْ يَشُقَ بَرْزَخاً،
وَفَجْأةً…
أَخْرُجُ مِنْ حِزامِ الصَّدْمَةِ
عَاشِقاً…
تَائِهاً….
أَبْحثُ…
عَنْ عَبَقِ الابْتِسَامَةِ
فِي وَجْهِ الجلْنَارِ،
أَسْتَمِعُ إِلى بَقَايا صَوْتِ
شُحْرورٍ…
فَأُلمَلمُ أَشْرِعَةَ
قَصَائِدي الممَزَّقَةِ
التِّي تُبْحِرُ
لِلْوُصُولِ إِلى
شَواطِئِ يَدَيْكِ
وَأقِفُ عَلى جُثَّة الوَعْدِ
أَتَرَنَّحُ ثُم أنْدَثِرُ
مِثْلَ
حَضَارَةٍ غَزَتْهَا
حَوَافِرُ الهَمَجِ.
وسوم: العدد 787