ما لن يقوله الشاعرُ للمغنِّي!
«إنَّ الغِناءَ لهذا الشِّعر مِضمارُ»! هكذا أنشد (حسّان). فالغناء يجمِّل الشِّعر، ويقوِّمه. وما العَروض العربي سوى ضروب من الألحان الغنائيّة العتيقة. فلقد كان الشاعر مغنِّيًا، والمغنِّي شاعرًا. ثم انفصمت الحرفتان، وكان أكبر الضحايا الشِّعر. فأورث الشاعرَ ابتعادُه عن الغنائيَّة برودَ النظميّة، أو ضحالة النثريّة، وجهلُ المغنِّي بعَروض الشِّعر أورثه فسادَ الموسيقى الشِّعريّة، وتشويهها بين الناس، بل إفساد الذائقة الشِّعريَّة في الناشئين. وهل ميلاد قصيدة النثر إلّا بإخصاب عوامل منها هذا التحوّل في العلاقة بين الشِّعر والغناء؟!
ومن الظواهر لدى المغنّين المعاصرين، إلى جانب اختلال الموسيقى الشِّعريَّة، اختلال التفكير أحيانًا في المعاني. فلو أخذنا (طلال مدّاح، رحمه الله) نموذجًا- وقد كان من الحِراص على سلامة الأداء، وإن أخطأ تارةً وأصاب، وكان يسأل متحريًا الصواب، كما يشهد بذلك، مثلًا، الإذاعي الكبير (بدر كريِّم)، في إحدى المقابلات- لوجدنا ظواهر من ذلك لديه، كما في موَّاله المشهور «أنتَ في حِلٍّ»، (لأبي تمام):
أَنــتَ فـي حِــــلٍّ فَـــزِدنـي سَقَـــمـا
أَفْنِ صَبري واجعَلِ الدَّمعَ دَما
وارضَ لِيْ المـَوتَ بهَجرَيكَ فإن
لَـم أَمُـتْ شَـوقــــًــا فــزِدني ألَما
مـِحــنَــةُ العـاشِـقِ في ذُلِّ الهـــوَى
وإذا اســتُــودِعَ سِــــرًّا كَــــتَــمـا
لَــيــسَ مِــنّـا مَــن شَـكـا عِلَّــــتَــهُ
مَن شَكا ظُلمَ حَــبــيبٍ ظَــلَـمـا
يغنّيها طلال بتحويرات، منها إتيانه بكلمة «ألَما»، في البيت الأوّل، مكان «سَقَما». ليكرِّر الكلمة في عجز البيت الثاني. وهذا غير جائز تَقْفَوِيًّا؛ لما فيه من (إيطاء القوافي)، أي تكرارها. ويقول: «وافْنِ جسمي»، بدل «أَفْنِ صَبري». ويبدو أن انسيابيَّة الغناء تستدعي مثل هذا التعديل، تحاشيًا لجساءة الهمز في «أَفْنِ»، في بداية الكلام. أمّا «صَبري»، فربما غَيَّرها مراعاة لـمَن قد يكون اسمه (صَبري) من الجمهور! غير أن المعنى الشِّعري صار أضعفَ باستخدام كلمة «جسمي». ثم يقول: «وارضَى ليَ»، بدل «وارضَ ليْ»، فينكسر الوزن، ليخرج عن بحر (الرَّمَل) إلى (الرَّجَز). ويستعمل «بجفنَيك»، مكان «بهَجرَيك». واستعمال الجفنين أقرب للذائقة الغزليَّة البسيطة، وأرقّ من تحذلقات أبي تمّام. وماذا تراه يقصد الشاعر بهجرَي المحبوب؟! كما أن للمعنى الطلالي ظِلالًا شِعريَّة أخرى: فهل المقصود الموت بسبب الجفنَين، أم فيهما؟! كلاهما وارد وجميل. ثم يقول: «فإنْ أَلِمَتْ نفسي»، بدل «فإنْ لَم أَمُتْ شَوقًا»! ويختلّ المعنى هنا؛ فكيف يألم المرء وهو قد مات؟! ثم يستبدل «روعة العاشق» بـ«محنة العاشق». وفي هذا تحاشٍ واضحٌ لمعنى في كلمة الشاعر غير مستساغٍ في البيئة اللهجيّة المحلّيّة. غير أنه في الشطر الأخير من البيت يقول: «وإِذا ما استُودِعَ سِرًّا كَتَما»، بدل «وإِذا استُودِعَ سِرًّا كَتَما»، فينكسر الوزن، خارجًا عن (الرَّمَل) و(الرَّجَز) معًا، إلى لا بحر.
ثم يأتي (محمّد عبده) فيؤدِّي الموَّال بأخطائه تلك تقريبًا، لكنه يزيد عليها. ومن ذلك قوله: «وارضَى ليَ الموتَ بهجركَ لي/ فإنْ ألمتْ نفسي فزدها ألَـما». فبعد أن كان الكسر في الشطر الأوّل لدى طلال، امتدّ إلى الأخير لدى محمّد؛ فصار الأوّل من (السريع)، والأخير بلا وزن أصلًا؛ يبدو من (الطويل) وينتهي ناشزًا عنه!
إن في هذه الشواهد لدلالة على أن «نوتة» الشاعر أدقّ في قوانينها من نظيرتها لدى الموسيقيّ. وهي لن تقول للمغنِّي يومًا: «أَنتَ في حِلٍّ.. فَزِدني سَقَما»!
وسوم: العدد 797