مجموعة "آن الأوان"والقفلة المراوغة
تعد القصة القصيرة جدا جنسا أدبيا جديدا تعتمد التكثيف الموحي، والحكاية ، والوحدة الموضوعية والعضوية، مع المفارقة الصادمة، متبّلة بالسخرية، وتوظيف الرمز والتلميح. كما تلتجئ إلى الأنسنة، والاعتماد على القفلة المراوغة ببعدها الصادم ، مع ضرورة اختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها، ولعل معظم نصوص مجموعة "آن الأوان" لمديحة الروسان قد تمثلت هذه العناصر ووظفتها بطريقة فنية ذكية. ومن حسنات المبدعين أنهم ينطلقون من الواقع لإعادة بنائه بفنية وجمال، مشذبين إياه من الزوائد والإضافات؛ والقصة القصيرة جدا إبداع فني ميزته الأساس الكلام القليل والموحي بدل الإطناب والتكرار، تميل إلى الرشاقة لا إلى البدانة، تتحرك بخفة دون أن تصدر ضجيجا إلا ما كان همسا، وتترك للقارئ فرصة الرقص مع ما يسمعه من أنغام آتية من أعماق النصوص؛ رقص يحاور أرواح النصوص ليرتقي ويسمو. تلتقط القاصة بحس مرهف ذبذبات الواقع وما يرسله من إشارات دقيقة؛ لتعيد بناءها وفق ترتيب فني يجعلنا أمام واقع أعلى؛ يشبه واقعنا ولا يشبهه؛ يشبهه من حيث الأحداث، ولا يشبهه من حيث البناء والرتيب، تلملم القاصة أطراف الحكايات من واقع متشظ، يعزف على لحن القبح، إذ يعج بالعديد من الظواهر السلبية التي تقف وراء تراجعه قيميا، وتعيد بناء تلك الأطراف بحياكة ذكية بغاية رسم معالم نصوص تعج بالمفارقات؛ حتى تضع القارئ أمام الصورة؛ لترفع من همته؛ فيتجاوز مستلزمات الإحباط التي تحيط به من كل جهة مهددة إياه بالغرق. أمّا على المستوى القضوي : فتعالج المجموعة ألم المرأة وتعرضها للعنف وتحمّل نوعًا من اللوم لمؤسسة الزواج ومواجهة الذكورة، كما رصد آلام الطفولة وما يعتورها من مشاكل، فضلا عن الاستبداد، وما ينتجه من واقع مترد. تكتب المجموعة واقعًا اجتماعيًا عربيًا في حقيقة الأمر، محاكمة العنف سواء أكان سياسيا أم اجتماعيا، تنتقد الذكورة وتعري سلبيات المجتمع الأبوي، وتطرح في الوقت نفسه جملة من القضايا الحساسة.
براعة العرض:
يلاحظ أن القاصة تعرض نصوصها على الصفحات بأشكال مختلفة، وذلك بحسب البعد الدلالي والمعنوي، تميل في كثير من الأحيان إلى أن تكون على شكل قصيدة النثر التي هي قريبة منها، لكنها تباعدها بفعل حضور الفعل، وتتابع الأحداث. فالنصوص وإن تشكلت بصريا على صورة القصيدة، إلا أنها لم تفرط في عنصر السرد الحاضر بقوة. من هنا، ندرك تفنّن القاصة في عرض نصوصها بشكل لا يتعب العين، ولا يعودها الرتابة بفعل التشابه؛ إن القاصة تعطي أهمية للعين في بناء المعنى؛ إذ العين دليل انتقال من البعد السمعي إلى بعد القراءة، من ذلك، مثلا، نص "يمين" ص49؛ فهو يتشكل من أربعة أسر، لا تظهر حروف العطف إلا في السطر الأخير، حيث تحضر "ثم" نوع من إنهاء المشهد المرسوم بعناية، يقول النص. في "أول يوم عسل.. هب يقطع رأسها.. تداركت أمره سريعا.. ثم رمت عليه اليمين وخلعت"، وفي غياب علامات العطف نجد حضور نقط الحذف التي تسمح بتخيل الأحداث التابعة. فالنص يبدأ بتحديد زمان الحكاية، حكاية زواج في أول أيامه وأسعدها؛ شهر العسل، ويرصد توتر العلاقة التي انتهت بانتصار العروس، وخروجها من المحنة التي كان يهيئها لها، سالمة، فقد رمت عليه الخلع، دليل قوتها وتمكنها من صياغة فعلها بكل حرية. وكذلك نص "حنين" ص72. أما نص "موادعة" ص 73، ففضلا عن البعد البصري، نجده يتلاعب بترتيب الأحداث والتلاعب بها من خلال المؤشرين الزمنيين التاليين: باكرا وقبل قليل، فهناك الحاضر وبعده العودة إلى ما قبله بقليل؛ ترتيب يسعى إلى استثمار الذاكرة لإدراك أبعاد الأحداث في لحظته الراهنة.
ما يلفت الانتباه في العنوان، أمران، أولهما اعتماد الجملة الفعلية قليلة الورود بخلاف الجملة الاسمية، ثانيهما اعتماد الجناس غير التام بين آن والأوان، والجملة الفعلية تبين أن لحظة أمر قد حلت، وينبغي التحرك لتحقيق القطيعة مع ما سبقها. والجملة قد تشير إلى ما ينبغي القيام به، إذ نقط الحذف تلمح إليه ولا تصرح به، وكأنه مفهوم ومتفق حوله، بيد أن مثل هذا الاتفاق لا يكون إلا بين طرفين معلومين، اتفقا على انتظار لحظة الفعل، لكن الإشارة جاءت من طرف القاصة إلى قارئ يفترض فيه المعرفة أو تخمينها، يقدم افتراضات، ويعضدها أويصححها بعد قراءة العمل. والتركيب يختلف بحذف التعريف من الفاعل، إذ يطلب تتمة، بخلاف التعريف الذي يفترض الاكتمال تركيبا لا معنى، حيث أن هذا الأخير يبقى ضمن المأمول والمفترض، خاصة وأن نقط الحذف تحمل القارئ على تقديم جملة افتراضات قد تصيب وقد لا تصيب.
أمّا على المستوى القضوي؛ فتعالج المجموعة ألم المرأة وتعرضها للعنف وتحمل نوعًا من اللوم لمؤسسة الزواج ومواجهة الذكورة، كما ترصد آلام الطفولة وما يعتورها من مشاكل، فضلا عن الاستبداد، وما ينتجه من واقع مترد، فعلى المستوى السياسي، نجد نص 'مصير"ص 14، يندد بالتسلط، واستعباد الناس، يقول: ” استيقظ الأسد مذعورا على عفطة من حمار. استدعى كبير الكهنة والعرافين. أشاروا عليه بقتل جميع حمير الغابة. منذ المجزرة والأسد يعاني من حمى الحمير”. والبين أن النص وظف الرمز، فالحيوانات ما هي إلا شخصيات بشرية، العلاقة بينها صراعية، تروم إما الإخضاع والتبعية، وإما السيادة والتحكم. والا"نهاية" ص23. وعلى المستوى الاجتماعي: تسلط القاصة الضوء على مؤسسة الزواج، حيث نجد نص "ذبح" ص62، يناقش مسألة اللا تكافؤ بين طرفي المعادلة، وخاصة على مستوى السن، حيث يعمد بعض الشيوخ من الزواج من صبايا وهم غير قادرين على الاستجابة لرغباتهن، حتى وإن استعانوا بالأدوية الطبية والشعبية، وتعتمد القاصة في معالجتها لهذه الموضوعات على السخرية والنقد اللاذع؛ هذه السخرية سنجدها طافحة في نص "ناشطة..." ص42، فالمرأة التي ناضلت لتحوز حريتها، انتهت في الأخير إلى إحناء رقبتها كي يزين رقبتها بما يطوقها. لقد انتهت إلى ضد ما تريد التخلص منه؛ إنها سخرية من لا جدوى الفعل.
- اللغة بين الواقعية والشعرية: على الرغم من أن قارئ هذه المجموعة يشعر أن لغتها تنساب انسيابا طبيعيا من قلم القاصة لا أثر فيه للتكلف والتصنع ، مع اختيارها المناسب من ألفاظها لوضع القارئ في صلب المشهد. ورغم أن لغة المجموعة طغى عليها البعد الواقعي الذي فرضته طبيعة الموضوعات المعالجة، فإنها مع ذلك، ضخت طاقة شعرية كان لها دور المخفف من عبء تلك الواقعية المؤلمة..من ذلك مثلا : "جنة" ص51، يقول: شرع لها ذراعي جنته...تماهي انكساراتها المجنونة... ترقص عارية قرب نهره المقدس... لامس عري نبضها... انبرت لها صومعة شاهقة ارتدت إلى تراتيلها... تداري سوأتها قبل أن تتلقفها جنته... تجدر الإشارة إلى حضور التعارض بين المقدس والمدنس، ومدى التنافر بينهما، للتعبير عن سقوطها في الغواية، بيد أن الشعرية تضفي على النصوص خفة وجمالا، فاتحة بذلك آفاقا من التخييل لدى المتلقي..
التـّكثيفُ: نيمّم شطرَ التّكثيف وهيَ تقنية من تقنيات التّجويد في الكتابة القصصيّة ، في عمق الفكرة وثراء اللّغة ، فالكلماتُ تنتمي إلى جمل قصيرة ، ولكنّهَا غنيّة بالمعاني وثريّة بالدّلالات تنبض بالحياة، فالقارئ حينما يلتقيهَا يعود إلى حياته في مشهد مختلف، ويصطدم بالحقائق دفعة واحدة ، كقصّة "مزجة" ص33، حيث نجد ثلاثة أسر بكلمات قليلة لا تتجاوز الثماني عشرة كلمة، وتطرح فيها قصة عريضة تسمح للقارئ بتخيل تفاصيلها، عبر التقتير، والتكثيف، والبياض الدلالي.
وسوم: العدد 810