رحلة مع تايه

clip_image002_f584d.jpg

صدرت رواية "تايه" للأديب الفلسطيني صافي صافي عام 2019، وتقع في 256 صفحة من الحجم المتوسط

مع كل نصّ أدبي او وثائقي يعود بي الى تفاصيل النكبة، تنتابني حالة من الفزع، فالتفاصيل دائما مؤلمة والنصوص حزينة وبائسة بحجم بؤس المأساة.

مع تايه غاب هذا الشعور وغُصت في نصّ أدبي جميل لا يمكنني وصفه بأنه وثائقي رغم ما حمله من توثيق تقصيلي ودقيق لحياة الناس وحركتهم وانفعالاتهم ومسباتهم وأغاني أفراحهم وكسوة عرائسهم، وأشهر خياط ديمايات لبلدتهم وأكلاتهم وترحالهم القسري.

تايه الشاب الذي يفتقد الى الكثير من المهارات العقلية والجسدية ليكون كالآخرين، لا يغيب عن صفحات النص الأدبي طويلا ، فهو يعود ويطلّ بين الفينة والأخرى ليذكرنا ببعض القيم البدائية والبسيطة والتي لا تحتاج الى مدارس وجامعات لتعلمها.

من خلال تايه الشاب وتايه العشيرة نتعرف الى تفاصيل دقيقة جدا عن اللجوء وما قبله وما بعده، تفاصيل لن تجدها في كتب التاريخ ولا في وثائقيات النكبة. التفاصيل هنا مختلفة لانها تفاصيل انسانية لا سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية، وإن كانت في النهاية تضم كل هذه العوامل بين طياتها لمن يريد أن يقرأ ما بين السطور.

بيت نبالا وبيت اللو تحتلان مركز الرواية، لكن ليس لشخصيهما ولكن لتكونا مثالا مصغرا لما جرى في حقبة من تاريخنا الفلسطيني الموجع. من الموقعين تعرفنا على أول مستوطنة يهودية بنيت في زمن الحكم التركي عام 1905، وتعرفنا الى أول تهجير لأهالي بيت نبالا خلال الحرب العالمية الاولى والمعارك بين العثمانيين والانجليز، الهجرة التي استمرت لأربعين يوما.

ومن هناك تعرفنا الى اصول وجذر بعض العائلات والحمايل وعدنا بهم الى عدنان وقحطان،البعض أعادنا حتى الى القرن الثاني الميلادي والى الغزو المكابي لبيت نبالا، والبعض أخذنا الى إمارة الحرافيش التي يعتقد بأنها امتدت الى مصر في المنطقة بين القيلوبية والغربية. عائلات تتلاحم في كثير من المواقف، وتتناحر في مواقف أخرى لأسباب تبدوا تافهة ومضحكة.

الراوي في تايه هو صافي صافي، ملك التفاصيل وصاحب الذاكرة اللامعة والحس الساخر والفكاهي ، هذا الحسّ لم يغب أبدا في الرواية رغم ثقل الحمل على كاهل جميع سكانها ؛ فتايه يحضر كلّما بدا الحمل ثقيلا على النصّ ليخفف من وطأته وليرسم على شفة القاريء ابتسامة من القلب. 

تايه لم تنس الشيخ حسن سلامة ورفاقه من المجاهدين، ولا ابو مجدي الفلاح الأصم والأبكم الذي كان يقاوم بطريقته ودون أي توجيه أو اتصال مع أي جهات أو جماعات. كما لم تنس الضابط العربي المشارك في الحرب والذي سؤل عن قدرة الجيوش العربية على تحرير فلسطين من الغرباء، فقال: " يمكننا تحرير الساحل بأكمله خلال ساعات" ثم يضيف قائلا: عليكم أن لا تناموا في البلدة هذه الليلة، " ما بقدر أحكي أكثر" ...

يرافقنا تايه حتى الحرب الثانية والتي سميت بالنكسة، ليتلقى رصاصة في قدمه تودي بحياته في الغالب وتنهي الحكاية.

وسوم: العدد 836