قراءة في رواية (القرار) داود سليمان العبيدي
رواية تبحث في المدى الذي تتحمل فيه النفس البشرية المصاعب، حين تُكتَشف حقيقتها في المواقف الحرجة، وتحس بحاجتها إلى معونة الله عز وجل. تدور أحداثها في مصعد يتعطل فجأة، يضم خمسة رجال: مديراً وثلاثة موظفين وفراشا، كانوا في اجتماع لإقرار تعيين موظفين جدد، وقد تواطؤوا مع المدير في الاختيار إلا واحدا وقع محرجاً ومضطراً (الحاج إسماعيل).
ومع مرور الوقت وتغير الهواء واليأس من حضور أحد في الليل ينتبه إليهم، بدأت كل شخصية تكشف عن ذاتها القريبة، في التعامل فيما بينهم في المصعد، حيث الإحساس بالخطر والإنعتاق من المواضعات الاجتماعية والوظيفية! فالفراش يرد على كلمات المدير النابية بضربه بالمحفظة وهو يحس بكرامته للمرة الأولى، والموظفان (صبحي وعبد الفتاح) يتندران عليه. كما تكشف عن أغوارها البعيدة من خلال استعراض سلسلة الأيام السابقة على طريقة التداعي. وتقوم الرواية بإبراز أربع قصص داخلية ببراعة مع تبادل في المواقع الزمانية، فعلى الرغم من محدودية الزمان والمكان (مصعد وزمن لم يبلغ يوماً) فقد استطاع الكاتب أن ينقل القارئ إلى أمكنة كثيرة وأزمنة عديدة.
فهذا عبد الفتاح تنقله أفكاره من مرحلة إلى أخرى، يذكر خروجه من فلسطين صغيراً وما عاناه حتى وصل إلى بغداد، وحلمه بالعودة إلى الوطن وحنينه إلى الماضي العظيم لأمته، بلغة شاعرية تثير الحزن في النفس، وتصوير زاخر للواقع يبرزه الوصف بدقة وانسيابية وأسى أن يموت محشوراً في المصعد وقد فاته أن يستشهد على أرض فلسطين. وهذا صبحي ترجعه الذكرى إلى طفولته، ويعرض لنا الكاتب من خلالها صورة للأب الذي يدمن الخمر، ولا يجد أهل بيته منه اهتماما أو رعاية، فينشأ الأبناء في بيت مضطرب، وقد ظهر أثر ذلك في شخصية صبحي المتمردة، فانحصر اهتمامه في السعي لقبول ابنة عمه به، على الرغم من كرهها له ولأمه، فعاش وليس هناك قضية تشغله أو أمر ذو بال يستأثر باهتمامه.
وهذا الحاج إسماعيل الذي وقع على محضر اللجنة مضطراً، وأحس بخطأ ما فعل، وكان يقيم الصلاة خلال مدة المحاصرة في المصعد ولا يني عن تذكير زملائه بوجوب التوبة، ينقله إلى خارج المكان أغنية شعبية يدندن بها الفراش (كل الشرايع زلك "زلق") إلى مقارنة بين شريعة الله وأثرها في النفوس، وبين شرائع البشر، فيذكر دراسته للحقوق، وأصدقاءه الذين عادوا من الغرب ضائعين ممزقين وآخرين متمسكين بأصالتهم ونقائهم؛ ويتطور هذا التداعي إلى عملية استرجاع لما في النفس والذاكرة من ثقافة وأشخاص ومواقف، وتذكر رحلته إلى الحجاز مع رفقة طَيبة، وقد رق أسلوب الرواية إلى حد من الشفافية تتلاقى مع شفافية النفس في الأماكن المقدسة.
وأما المدير (خالد) الذي كان أكثرهم تضايقاً فقد ذكرته أدعية الحاج إسماعيل ما كان يسمعه من أمه، فانتقل إلى يتمه وفقره وعمله في المقهى، ثم انتقاله إلى الوظيفة، ثم علو مكانته مع استعراض لصور من الفساد والرشوة، ووقوفه طويلا عند زوجته التي خدع بها وبكذب أهلها، وحبه لأمه وخوفه عليها من بعده، لو كان مكتوباً عليه أن يموت؛ وأحس بشيء من الندم لأنه كان بعيداً عن ربه ولأنه كان قاسياً ومتعالياً على مرؤوسيه! وحين انتهى الحاج إسماعيل من صلاته، دعاهم إلى وجوب إعادة النظر في قرار التعيينات، فوافق الثلاثة وأخرج المدير الملف من المحفظة، ورتب أسماء الفائزين بحسب درجاتهم. وكان الفراش يعبث بالأزرار و حين وقعوا المحضر الجديد شعروا بالمصعد يتحرك إلى الطابق الأول وينفتح الباب، ليكونوا في الشارع مع أذان المغرب، فتوجهوا إلى المسجد وتقدم المدير ليقول: سأصلي معكم.
فكرة هذه الرواية قامت على التداعي واسترجاع الماضي، في لوحة كبيرة متعددة يتعدد فيها الزمان والمكان والشخصيات الرئيسة، مع تداخل في الزمن من خلال أربع قصص داخلية تدل على براعة المؤلف الذي أفاد من الأسلوب النبوي (كما في حديث الثلاثة الذين أطبق عليهم فم الغار). وقد برزت اللغة الشاعرية الرفيقة بما يناسب مع النفس الإنسانية حين تتخلى عن زيوفها الاجتماعية والحياتية.
وسوم: العدد 839