ديوان "معاناة الورد والنزوح إلى ذاكرة المخيمات"
الشاعر (زبوناته علي) ينخر على صخر التراجيديا ليفاجئنا بعناصر الدهشة ...
في ديوان "معاناة الورد والنزوح إلى ذاكرة المخيمات"
للحرية أثمان، لا أحد يقدم الحقوق على طبق من الفضة، وغريزة التملك والاستحواذ ترافق الإنسان منذ الخليقة، وإن اختلفت درجتها ومعاييرها. ما نراه من القتل والدمار على وجه البسيطة هي من نتاج تلك الغريزة، ومن انعدام الثقة والضمير والعدالة، وسيطرة الجهل والأنانية والمادية بدلًا من العلم والأخلاق والعدالة والمساواة... إلخ.
وللعشق أيضًا صولات وجولات، مرتبطة ببعض الصفات أعلاه، وما نتج عبر تاريخ المجتمعات من العادات والتقاليد التي في بعض منها تكون صارمة، حازمة، أي منها قصص تنتهي باللقاءات والابتسامات وأخرى تصطدم بالواقع السيء تكون النتيجة مأساوية، أو القدر يصاحب الروح فيغيبها. وشاعرنا الثائر والعاشق سيترك الوطن، ينضم إلى قافلة النزوح، يعاني المسافات، وهول رحلة الاغتراب، سيموت عشقه جسدًا ويبقى روحًا معلقًة على بوابة الذاكرة، يعود بها ويحيي الأمل في مخيلة القادمين على طريق الزمن. هذه المختصرة عن فكرة الديوان، الذي أتحفنا الشاعر بلغته الشعرية الثرية، الممتعة.
فالشاعر في هذا الديوان، يوظف اللغة في خدمة الشعر بأروع ما يكون، ويترجم رحلة الهروب والاغتراب، المسافات والمعاناة، بحسه الشاعري ومخزونه الثقافي العميق إلى لوحات مزركشة، ينتقي المصطلحات المناسبة لتركيبها على متن قصائد في غاية الجمال، قصائد تجر حمولة الوجع والغياب والخيبات، يحول الحطام إلى الأمل، ويعلقه على جبين الذاكرة.
كما يستحضر في نصوصه أحداث وتواريخ وسير العشاق والمدن والمناضلين والمقاتلين الكورد باللغة الكردية بشكل مختصر، يستحضر التاريخ الكردي المرير، المليء بالثورات والبطولات والحسرات، مناديًا الجبال الشاهقات، ليرفع الأحرار شعلتهم على ذراها، وأن نوروزًا آخر آت لا ريب منه.
يفتتح الديوان أبوابًا من الوجع من البداية إلى النهاية، وقليل من الأمل، حيث معاناة الورد والحب والحلم إلى ذاكرة النزوح في المخيمات بتعبيراته وإيماءاته وإيحاءاته الوجدانية والرمزية والغزلية. يقرع كل أبواب الشعر لإتيان بـ لآلئ الكلمات من إبداعاته. شاعر رزين، يتفنن في هندسة اللغة لخدمة الشعر، ينبعث من بين أصابعه شلالات الدهشة. ونصوص مختلفة الدلالات وجريئة وبعض الآخر متمردة. وتحمل من قوة وحداثة وجزالة لغوية، إبداعية الكثير، ومحشوة بعواطف ولغة فلسفية أحيانًا أخرى، نصوص كألغاز، يعتمد على تكثيف الصور، رغم ما يحمله الديوان من الآلام.
إنه ينخر على صخر التراجيديا ليفاجئنا بعناصر الجمال والدهشة في كل سطر.
نوروز: عيد رأس السنة الكُردية/ العيد القومي الكُردي، ويحتفل به شعوب أخرى في المناطق المجاورة للكورد.
..................................
في أحد المقاطع يقول:
ويهمس الآخرون …ينادون آزادي آزادي
لأجلك عانينا ألم الورد في الصقيع
وهربنا من الحلم
كان جرحا ينزف في الظلام
أقصدك وقصدتك يا دوميز
نصبت أشرعة وخيام،
تأخذني هديلا على هديل.
المقطع أعلاه، يشير إلى محاولة للحلم في التحرر من المظالم (والحلم هنا ...الحرية) والتي من أجله ذبلت الورود كثيرة واختفى عطرها. ظنوا أن ما كانت كالحلم في يوم ما، بدأت تسلك مسار التحقيق، لكنهم لم يتوقعوا أن الحدث سيضيف ألمًا على الألم وجرحًا على الجرح، وسيتسبب بكوارث لم يتوقعها الكثيرون منهم، لتنزف الروح عويلًا على منصة الخيبات المتتالية. يتدحرج الحلم ويتحول إلى المأساة في محنة العابرين إلى رحلة الاغتراب. وفي مخيم دوميز، يبقى الحلم مرافقًا وملازمًا لروحه وقلبه وعقله مشبهًا كَهديل لحمام في كل حين تحوم مع سرب حول خيمته (خيمة الشاعر)، ومن خيمة اليأس هذه ستنطلق الحسرات الممتدة إلى عمق التاريخ والجغرافيا!
آزادي: تعني الحرية باللغة الكُردية
دوميز: هو مخيم للاجئين الكُرد والسوريين في كُردستان ـ العراق
............
على بعدٍ من شاريا إلى قامشلوك
أوقظ ُ اللحظات
وأنا عائدٌ من خارطة الشريدِ،
أرسمُ سرابا ًعلَّ يشبهكَ
فيخلعني المكان.
أسيرُ عاريا ً
يتساقط ُ مني البرد
وكثافة الحنين
الهائج بصمت الاغتراب.
أرتحلُ شتاتَ الورد
في وجهكِ الضبابي زحمَ النداء،
ويزرعنا العشبُ
شارة ً لكلِ طريق.
بفعل هواجس وهموم الاغتراب، من مخيم الصقيع والمعاناة، يجتاحه الحنين لمدينته، يعبر عن كمية دموع الوجع واختلاجات الفؤاد. الحنين إلى مدينته قامشلو/ قامشلي التي يصفها بـ قامشلوك تصغيرًا أي حبًا لها، فالشاعر يسرح في الخيال، وينسى بعض من هموهه وآلامه، ولا يصدق أنه ترك مدينته وأصبح مقيمًا في خيمة صغيرة تجتاحها الغبار، تتحول المخيم في نظره إلى قامشلو، لكن سرعان ما ينتبه إلى واقعه ويعود خالي الوفاض فالخيال لن يغير شيئًا، تدونهما (الحرية، والعشق) القلم والذكرى والمحنة عنوانًا لمعاناة العشب والورد.
.......
حين يتنصتك ســـرب الجهات
كدموعٍ مبللة بالمناديل
أشدﱡ بقامة الهروب
حتى عادت الأساطير توقظني
في محنة زورق الغياب
أكاد أشبهك جرحاً على جرح.
في خيمة اللجوء والنزوح يطل الشاعر من نافذته على الأفق، يتأمل جهات وطنه، يدون ما عاشه ويعيشه من ظلمات الواقع والقدر الملاحق له ولحبيبته ولشعبه، يترجم واقعه، شجونه، مصائبه إلى الواقع باللغة الشعرية الوجدانية الحسية.
محنة الغياب تؤرق كاهل المحب، العاشق، الإنسان، فالجهات تصبح واحدة، لعل وعسى تومض شارة قدوم حتى ولو على شكل الأسطورة، فالدموع بللت المحيا والمآقي يذرف باستمرار، والهروب من الواقع أشبه بالجنازة. الفقد والغياب صنوان لا يفترقان حتى ولو كان للأخير أكثر وقعًا وتراجيديا. لكن الجرح يبقى إلى أن يعود أو ينسينا الزمن.
..........
كاك زبوناته: لست َوحدك َ مَن يدرب الحمائم في أفق الكلمات،
كي تأتي إلينا برسائل النوروز.
لستَ وحدكَ مَن يزرع القمح في براري يأس العناوين،
حتى نحصدَ قصائد الحرية،
ولستَ وحدكَ مَن أسكنَ في خِيم النزوح و....
و....وهجرتَ كتاباتِكَ في قامشلوك.
هناك..................؟ هناك..................؟
هناك لجهة (الجبال المروية بالدم)
مَنْ أسكن َ الكهوف وعانى الصقيع،
كان جرحه ينزف في الظلام
وقد علق على كتفه الشمالي بندقيته
وبيده الأخرى لفافات تبغ ٍ وجعبة لبن،
كان يحتمي بأنفاسه المتعبة بالعشق
خلف ذهنية صخرة
يتأمل بـ (آله ره نگي) ترفرف يوما ً ما
في سماءِ قريته.
يقول الشاعر في نجواه، لست وحدك الذي يكتب عن هموم وحلم الوطن لتذكرنا بتاريخ الشعب الكُردي، ولست وحيدًا من يزرع بذور الأمل في النفوس المتعبة، ولست النازح والشريد الوحيد، وليس أنت وحدك فقط بالشاعر المهاجر من حريق الوطن، وكأنه يؤشر بإصبعه نحو الجبال الشاهقات، معاقل المقاتلين، بل والأصدقاء الوحيدين للشعب الكُردي في المحن، هذه الجبال احتضنت المقاتلين والشعب من الأعداء ومن شراسة الأمطار، كانوا في هذه الكهوف والجبال الوعرة يحملون البندقية على أكتافهم مع لفافة تبغ، وجعبة لبن، وكسرة خبز، والقضية ... كانت كل همهم ... فأين أنت منهم!؟
آله ره نگي: علم كُردستان
...................
الأغنيات القادمة من رائحة يديك،
ستظلُّ مبللة ً بلُهاثنا،
سيظل اليمام ينتشلُك لليمام
سيظل النهار مقتولا ً بعتمتي:
وهذه الأطراف مزدحمة بالذهاب
ستظلُ .... ستظلُ ....
وتركضين فيَّ حتى الحريق.
العشق الذي لا يضاهيه شيء آخر، أنه سرمدي في قلوب ونفوس العاشقين، إنه صدق المشاعر والأحاسيس إلى درجة قد يدفع العاشق إلى الانتحار إذا انعدم الضوء في دائرة مخيلته. تشبه الشاعر يدا حبيبته بالتغاريد والموسيقى التي تجتاح الأعماق، فرائحة يديها تزيده عشقا وسيظل القلب ينبض لها، وسيجري الحب في الوريد كالدم إلى آخر نفس.
....................
أرتكب نكهة َ رؤياك لحوار الألوان
في فسحة ٍ مبلّلة ٍ بالغموض
لبوابة يديك اخلعُ اسمي
أدخل إلى حجم ٍ تشكَّل من الهروب.
أصحو. وألملمُ أوراق حلمي، أبحثُ في ذاكرة السقوط وبقية ظلالكِ...؟
لا شيء سوى رماد الذكريات!!.
يظل تائهًا، ثملًا، هاربًا من ظلم الإنسان، يريد البقاء مع الخيال الماضي، القريب من النستولوجيا، لكنه، في كل صحوة يعود خائبًا، يلملم أشلاء حلمه الممزق، ويمضي للبحث عن جديد ودون فائدة تذكر فالجدار النسيان صلب لا يمكنه اختراقه!
...................
الساعات المعلقة في محطات العودة...هي قلبي؟،
والزمنُ أنتِ...، والنادل الذي يلهثُ في حانات التسكع لملل الانتظار-هي أصابعي-
كم أمارسُ الحلمَ وأبكي...
عناداً يرسمونني شريداً لجهة الصقيع!!؟،
حول المرأة
لا يزال يأمل في العودة إلى الوطن، حيث مدينته، ومسقط رأس حبيبته الغائبة أيضُا، ومرتع صباهما، ويشبه ساعات وشارات معلقة على بوابة العبور بالقلب، والأصابع التي ترتجف من الحنين بالنادل المعذب اللاهث خلف خدمة الحانات، لكنه يبقى شريدًا وعاشقًا للمرأة في نظر من حوله!
خالد ديريك
.........................................
الشاعر في السطور
حسن علي هو الشاعر والناقد والمخرج السينمائي الكُردي السوري من مدينة قامشلـــو/ قامشلي ـ محافظة الحسكة. درس اللغة العربية وآدابها في جامعة دمشق. عضو في الاتحاد العالمي للثقافة والآداب منذ 2015. اتخذ لنفسه لقباً أدبياً وفنياً بـــ ژبوناته بيجرماني (Jbonate Bêcirmanî)، ومعناه: من أجلك يا وطن …. يا حبيب …. يا صديق.
دواوينه الشعرية: ديوان "حكاية الينابيع الأربعة” دمشق مطبعة الجاحظ 1991. ديوان (لالش ئو هه لبه ستين بريندار Laleş û helbestên birîndar) – بيروت لبنان سنة 1993. ديوان “العشب الذي نما في قلقي” دمشق. دار الإيمان 1997. ديوان “معاناة الورد والنزوح إلى ذاكرة المخيمات” 2014. له دراسات نقدية تحليلية في مجال الشعر والقصة.
وسوم: العدد 841