الظاهرة الأدبية في ضوء نظرية المعرفة القرآنية (7)

وإذا عدنا إلى الآية السابقة التي انطلقنا منها، فإننا نجد أن الحقيقة الدماغية المستخرجة من التفكير في السماوات والأرض، ظهرت في صيغة {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} ومعناها يدل على حقيقة، ينفي فيها التفكير معنى العبثية عن الحياة والكون والإنسان، ويقر بأن الإنسان خُلق لمقصد محدد، وعندما ظهرت هذه الحقيقة بوضوحها أمام القلب المستقيم الفطرة، أصدر قيمة هذه الحقيقة والموقف منها لدى هذا القلب، وظهرت قيمة الحقيقة في صيغة {سبحانك فقنا عذاب النار} حيث ظهر هذا القلب الخائف أمام انتفاء العبثية وجدّية الحياة، وجاء على شكل دعاء وتعظيم لله سبحانه وتعالى، يتجلى فيه الإيمان والخضوع

والاستعاذة بالله من عذاب النار. وهكذا ظهرت قيمة الحقيقة والموقف منها منضبطة بمعيار متلازم، لا انفصال فيه بين الموقف والقيمة وهي أيضاً متصلة بالرؤية الفكرية التي كوَّنتها؛ لأن القلب هو الذي يعقل علم الدماغ وتفكيره وحقائقه ومفاهيمه، ويستفيد منها ويسترشد بها، أو يعرض عنها وينفر منها، وهكذا فهو يعقل قيمة هذه الحقائق ويدرك جدواها في إشباع ميوله وحاجاته وغرائزه وطموحاته.

ونلاحظ أن عملية المعرفة تتدرج في دماغ يعقل حقائق عالم الشهادة، وقلب يعقل وجه المصلحة من هذه الحقائق.

أما إذا عمي القلب عن إدراك هذه الحقائق ووجه الحق فيها، فمعنى ذلك أنه عرضت أمامه حقائق الحياة وحقائق التفكير ومفاهيمه عنها، لكنه لم يستجب لها، ولم يستفد منها، وأصبحت هذه الحقائق مجرد معلومات عابرة لم تؤثر في موقفه، ولم تعدل من استجابته، وما الفائدة من الحقائق التي يتعب الفكر الدماغي في الوصول إليها، إذا لم يقبلها القلب ويسترشد بها في تهذيب مشاعره وحاجاته وفطرته، حتى يدرك جوهر الحياة وحقائقها، فيخاف وقت الخوف، ويطمئن وقت الطمأنينة، ويتعظ وقت الاتعاظ، ويكره وقت الكره، ويحب وقت الحب. ولذلك وصف الله تعالى هذه القلوب بلسان الجمع في قوله {لهم قلوب يعقلون بها} [الحج:46]؛ لأنهم في آية أخرى تفصل حالهم: {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} [الكهف:101]. لا من قوى فكرهم ولا من فكر غيرهم؛ لأن مملكة الهوى تخضعهم لرغباتها، فهم لا يرون الحياة إلا من خلال منظارها.

ولا تخلو عملية التجاذب بين القطبين (الدماغ والقلب) من تبادل التأثر والتأثير فيما بينهما، بحثاً عن الوعي الأفضل والأمثل؛ فتارة يضيق القلب بحالات الجمود والتقليد الذي يعيشه الفكر أحياناً، فيدفع القلق القلبي الدماغ للنشاط والتفكير بحثاً عن العلم والتفسير والطمأنينة، وتارة يقوم التفكير الدماغي بهداية العواطف الجامحة لدى القلب، بما لديه من فكر، وبخاصة أمام حالات الجدة والدهشة والمفاجأة، يرشدها ويربيها؛ لتفيق من هياجها وتخضع للفهم الأفضل فيما استجد عن قناعة ورضى وتسليم

وفي نهاية المطاف، لا بأس من التفريق بين العلم في بعض معانيه وبين المعلومات؛ فالعلم: يدل على حالة استفادة القلب من تفكير الدماغ ومفاهيمه وحقائقه. وفي هذه الحالة يستفيد القلب ويهتدي، وتتحول الحقائق إلى هداية في أعماقه وارتقاء في مشاعره وطباعه وتهذيب في فطرته وانضباط في أهوائه، ثم يمتد هذا العلم إلى سلوك ظاهر في جوارحه وأفعاله وأقواله.

أما المعلومات: فتدل على الحالة الأخرى المغايرة، وهي الحالة التي تمرر فيها حقائق الدماغ عن الحياة وتفكيره وجهوده، وتعرض أمام بصيرة القلب لكنه لا يتعظ بها، ولا يتكيف معها في هداية فطرته، وهذا القلب عمي عن تلك الفائدة وقبول الحق منها، رغم أنها قريبة منه، وفي متناوله، وقد وصف الله سبحانه هذا النوع من القلوب بقوله: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46]؛ لأنها جعلت الإشباع هدفاً وهاجساً ومعبوداً، واستبعدت عملية تعلم الحق من أهدافها، فتحولت الحقائق إلى مجرد معلومات يختزنها في الذاكرة، ولكنه لا يستفيد منها ولا يعتبر بها. قال الإمام الشافعي رحمه الله: \"ليس العلم ما تحفظ، إنما العلم ما نفع\" ) (. ومن الأبيات الجميلة التي دارت في فلك الآية القرآنية قول أحمد شوقي:

لقد أنلتك أذناً غير واعية ورُبّ مستمع والقلب في صمم

الخلاصة:

وهكذا نرى أن المعرفة في المفهوم القرآني، تتدرج في قنوات العقل البشري من الواقع الخارجي (عالم الشهادة) إلى الحواس، ومنها إلى الدماغ ومنه إلى القلب، وهو أرقى الدرجات في السلم المعرفي وأعلاها، ضمن سلسلة من التواصل والتفاعل، تصنع المفاهيم وتكشف الحقائق وتصدر الأحكام التي تشكل الرؤية الفكرية للأديب، فيستقبلها القلب بإصدار قيمة الحقيقة والموقف منها.

وتتم عملية المعرفة تلك في ترابط وتشابك وتجاذب بين قطبي العقل (الدماغ والقلب) حتى تصل إلى مرحلة الحقيقة الكاملة بجميع أبعادها: الواقعية والحسية والفكرية والمنهجية والقلبية.

وكان الهدف من شرحها مفككة هنا، هو تسهيل عملية فهمها فقط، وقديماً قال أحد الحكماء: (إن الله جعل القلب أمير الجسد، وملك الأعضاء، فجميع الجوارح تنقاد له، وكل الحواس تطيعه، والقلب وزيره العقل) ) (، وقصد بالعقل هنا الدماغ والفكر وهو من قبيل إطلاق الكل وإرادة الجزء.

*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )

وسوم: العدد 856