قراءة في رواية (القوقعة: يوميات متلصص)
ليس عجيباً في سوريا ـ كما عهدناها ـ أن يكون المسيحي متعاطفاً مع المسلمين .. وأن يكون المسلم مثل ذلك ، فقد عشنا طويلاً في مجتمع واحد ، تجمعنا المواطنة في المدارس والوظائف والجيش والمدن والقرى التي تنقسم أحياناً إلى قسمين يبرز في أحدهما المسجد وفي الآخر الكنيسة ..
أكتب هذا الكلام وأذكر أنه على الرغم من الشرخ الطائفي الذي أوجده نظام حافظ أسد وورثته ، بقي المجتمع السوري متماسكاً إلى حد كبير في بلدتنا التي تقع في وادي العاصي / منطقة الغاب / نتجاور ونتعايش ونعمل .. ويسعى بعضنا في خدمة الآخر ..
ومما يجدر ذكره أن شفيعي لدخول الوظيفة كان ابن جيراننا ميخائيل ، الذي كتب تقريراً مناسباً على اعتبار أنه موظف في الأمن .. فاعتُمد وعُيّنت على أثره وأن قارع الناقوس (مخلو) الذي قتلته المخابرات في حافلة فتحت عليها النار لوجود اثنين من الملاحقين ، كاد أن يكون من الإخوان المسلمين بعد أن أنزلت جثته من الحافلة ، وعند تفتيش جيوبه فوجئ عناصر المداهمة بأنه مسيحي فقالوا : هذا كتائبي ؟!
وأن كثيراً من أبناء بلدتنا وجيراننا لم يبتهجوا بمناسبة عيد الفصح ، لأن مجزرة استهدفت عدداً من جيرانهم المسلمين !! وأن خوري الكنيسة في مدينتنا كان يستريح قرب حنفية المسجد في حينا وهو عائد من السوق بعد أن طعنت به السن . فيسلم على الخارجين من الصلاة ويسلمون عليه ...
وأن زميلاً لنا في الجامعة دعانا لمنزله ، وعددٌ من زملائنا لا يعرفون أنه مسيحي فحانت صلاة المغرب ، فصلينا في منزله وحين سأله زميل لنا : هل صليت ؟ ابتسم وقال :
ـ صليت في الغرفة المجاورة !
دونت هذه الذكريات ، وأنا أقرأ كتاباً بعنوان : القوقعة : يوميات متلصص . لأحد مواطنينا المسيحيين وقد قضى في سجن تدمر اثني عشر عاماً ، لاقى فيها الأمٓرّين ، بتهمة الإخوان المسلمين على الرغم من أنه قال وصاح : أنا رجل مسيحي . ولكن أحداً لم يبالِ به فكتب الله أن يكون شاهداً من جملة الشهود على جرائم النظام الطائفي الذي لا يخجل من تبرقعه ببرقع الطائفية في الممارسات والأقوال ..
صرخت (حوار مع السجان) :
ـ سيدي أنا مسيحي ، أنا مسيحي .
ـ شو ولا !! عم تقول مسيحي ؟! العمى بعيونك ولا . ليش ما حكيت ؟! ليش جايبينك لكان ؟أكيد .. أكيد عامل شغلة كبيرة ! مسيحي ؟!
ـ يا أخي أنا ماني مسلم .. حتى أكون إخوان مسلمين ـ أنا مسيحي وليش حطوني هون ، ليش جابوني أصلاً ، ما بعرف .
ـ لَكْ أخي ! الطاسة ضايعة .. ما في حدا لحدا ؟!
وفي حوار مع الجلاّد :
شرحت الأمر وبنفس اللهجة الجبلية ردّ عليّ :
ـ وإذا مسيحي ، بلكي عاونت الإخوان المسلمين مثلاً ـ يعني بلكي بعتهم سلاح مثلاً ..
ولم يصدق السجّان والجلاد أن هذا المواطن المسيحي قد عاد من فرنسا منذ أيام .. ولكن كيف أصبح من الإخوان المسلمين ؟ يقول :
عرفت فيما بعد أن أحدهم ، وكان طالباً معنا في باريس ، قد كتب تقريراً رفعه إلى الجهة الأمنية التي يرتبط بها ، يقول هذا التقرير : إنني قد تفوهت بعبارات معادية للنظام القائم ، وإنني تلفظت بعبارات جارحة بحق رئيس الدولة ، وهذا الفعل يعتبر من أكبر الجرائم يعادل فعل الخيانة الوطنية إن لم يكن أقسى .. وهذا جرى قبل ثلاث سنوات على عودتي من باريس ؟!
أراهن أمام هذا الكتاب على أمرين : الأول : أن أحداً ممن يقرأ معاناة هذا المواطن المسيحي يستطيع أن يملك فوران الدم في رأسه ، وأن يضبط أعصابه ولا يفكر بالثأر الذي يتجذر في نفوس أهل سورية يوماً بعد يوم .
والثاني : أن يثبت أحد ما أن في هذا الكتاب معلومة كاذبة أو خبراً مدسوساً .
و قد قرأت عن تدمر ومأساة السجناء فيها وجرائم حافظ أسد وورثته سواء من أبناء طائفته أم غيرهم ، كتباً ... مثل (في القاع ، سنتان في سجن تدمر العسكري) و (شاهد ومشهود) وسمعت من أفواه من نجا ما تقشعر له الأبدان ، فلم أجد اختلافاً واحداً في وصف القتل والإعدام ومعاناة الأكل والحمام والتفتيش !؟
وسوم: العدد 859