(السيرة النبوية – الصحوة – النهضة ) 3 نظرية التعويض (إمكانية التعويض)
... لقد شاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أن تخاطب البشرية في مرحلة نضوجها الحضاري، بنبي خاتم ودين خاتم، تجد فيه ما يناسب نموها الحضاري المفتوح إلى يوم الدين. وكانت السمة الخاصة بهذا الدين، انه دين عام شامل كامل صالح لكل زمان ومكان، وجعل الله في هذا الدين من سعة المناهج ومرونتها، ما يتسع لظروف تطورها واستيعاب همومها.
لقد انتهى وقت المعجزات الحسية، التي كانت تناسب عقلية الأمم الغابرة، لأَن المعجزات الحسية، كانت تتناسب مع طفولتها الحضارية البدائية، حيث كان تأثير المعجزة الحسية ينتهي بانتهاء رسول تلك الحقبة، وقبيل ظهور الإسلام كانت البشرية قد وصلت إلى مستوى من الحضارة والعلم، يؤهلها لأن تخاطب بدين، يخاطب العقل والوعي الذي وصلت إليه.
ومن هنا كانت الرسالة الخاتمة، والنبي الخاتم لسلسلة الأنبياء، يحمل منهجاً قابلاً للتكرار، لمرونته وشموليته، وكانت معجزة الإسلام (القرآن الكريم) تعتمد الإعجاز العلمي، والثقافي، والفكري واللغوي، والتشريعي، والمنهجي، وكل أنواع الإعجاز التي يمكن للعقل البشري أن يصل إليها، أنها معجزة باقية، دائمة التحدي قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت:53.
هذه المعجزة القرآنية التي تقوم على الخطاب المنهجي الدائم للإنسان، هي نفسها التي عوضت البشرية عن انقطاع الوحي، وغياب النبي، لأن غياب النبي لا يعني غياب المنهج، كما أنها اعتبرت البشرية قادرة بما وصلت إليه من رشد حضاري، على تكرار التجربة الأولى، لتطبيق القرآن الكريم، في السيرة النبوية مرات أخرى، إذا صدقت مع الله في النية والعمل، قال صلى الله عليه وسلم (إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه)(2).
وغياب النبي عليه الصلاة والسلام، لم يكن إلا بعد أن ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقد ترك لنا التجربة الكاملة لتطبيق القرآن الكريم في السيرة العطرة.
وخبر السماء لم ينقطع عن الأرض، إلا بعد أن أكمل الدين نصاً وتطبيقا، قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) المائدة 3.
وهكذا نرى أن بقاء الكتاب والسنة والسيرة العملية، يعوض البشرية عن انقطاع (الوحي)، وغياب (النبي)، شريطة أن تعي استخراج الدروس من الكتاب والسنة استخراجاً علمياً مقنناً، يصف لنا: فقه الإسلام في العقيدة والشريعة، والحلال والحرام، والتكليف والاستثناء، وفقه الواقع، وفقه المراحل والأساليب، وفقه المحاكمة، وفقه فهم الغايات والأهداف.....
ولكن يجب التذكير بقضية مهمة، وهي أن كتاب الله وسنة رسوله، تكفي لإنارة الطريق وزيادة، شريطة أن يدرك دعاةُ هذا العصر أن هناك مهمة شغرت، بعد انقطاع الوحي وغياب النبي أُوكلت إليهم، وهي من اخطر المهمات، ولا يمكن النجاح في التعويض إلا بإتقانها، إلا وهي: مهمة التصحيح المستمر لتجربة التطبيق الجديدة، فقد كان الوحي الكريم يُصحح مسار التطبيق، وينقل أَوامر الله سبحانه وتعالى إلى نبيه باستمرار، ومن هنا كانت حكمة تنجيم وتفريق القرآن، مرتبطة بأسباب معينة، تخص التطبيق والتصحيح في الفهم والنية والعمل.
والمراجع للقرآن والسيرة، يجد أن المجاملة والمداراة على حساب المنهج مرفوضة تماماً، وفي دروس غزوة أُحد وحُنَين أمثلة واضحة على ذلك، لأن الضعف في التصحيح، يؤدي إلى تراكم الخطأ، والقبول بالأخطاء، يُشكل تآكل الدعوات من الداخل وانهيارها.
فكيف ومتى يستطيع دعاة هذا العصر أن يستخرجوا فقه التصحيح المستمر، الذي يضع النقاط على الحروف ؟ دون ضغط من هوى، أو مصلحة، أو مدارة على حساب المنهج، ولعلها أخطر قضية تتحدى دعاة اليوم.
والإجابة الوحيدة التي أراها - مقنعة لي على الأقل - هي أن تبحث الأمة عن منهجها العلمي، الذي يوضح خطوط التعويض الحقة، من كتاب الله وسنة رسوله، وتستخرجه لينير لها طريق العمل، شريطة أَن ينبع هذا المنهج من عباءة القرآن، وسنته -صلى الله عليه وسلم- ويصب في وجدان المسلم، دون أن تلوثه مناهج التغريب، تحت اسم البحث عن ضالة المؤمن (الحكمة) كما يزعم الزاعمون.
وسوم: العدد 862