السيرة النبوية – الصحوة – النهضة 5
الخط الثاني: فتح بوابة الاجتهاد والتجديد
الخط الثاني: فتح بوابة الاجتهاد والتجديد والإحياء واكتشاف سنن الكون والحياة.
الاجتهاد بين الثوابت (الأحكام القطعية) والمتغيرات (الظنية):
أ- الثوابت: ويقصد بثوابت الإسلام، الأصول والفروع التي نص عليها الشرع بحكم قطعي الدلالة، وهي إلى لا مجال فيها للاجتهاد، لأن الشارع حددها وفصلها فهي أحكام ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، ومجال اجتهاد العقل البشري هو فهمها وفقهها، كما نص عليها الشرع، وكما يفهم من دلالته اللغوية، وأسباب نزوله؛ لان القاعدة الشرعية تقول (لا اجتهاد في موضع النص). وهي محاور ثابتة، تغطي جميع مسائل الحياة تغطية مباشرة متفاوتة، وتنبثق من العقيدة الإسلامية في أصولها، ومن الشريعة الإسلامية في أحكامها، كقضايا العقيدة وآيات الأحكام وفقه العبادات.. وغيرها.
وهذه الثوابت المنصوص عليها شرعاً، لا مجال فيها للاجتهاد، ولا تقابل إلا بالتسليم والخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى فيها، والخروج عليها أو الخضوع لها يتوقف عليه كفر أو إيمان.
وهذه الثوابت تُعين العقل البشري على الاستقرار، وتريحه من التخبط، وتبين له البدايات السليمة، وهو مطالب بالتكيف معها والتطبيق لها، والتحرك ضمن إطارها، لأنها بمثابة الضوابط التي تضبط حركة الإنسان، وعقله داخل محور الهداية، حتى لا يضل ولا يشقى بين كثرة الطرق المتشعبة.
يقول سيد قطب -رحمه الله-: (وهي من مقومات هذا التصور الأساسية وقيمه الذاتية، فهي لا تتغير ولا تتبدل ولا تتطور حينما تتغــير " ظواهر" الحياة الواقعية، ولا يقتضي هذا "تجميد" حركة الفكر والحياة، ولكنه يقتضي السماح لها بالحركة داخل الإطار الثابت وحول المحور الثابت، وسمة الحركة داخل المحور الثابت هي طابع الصنعة الإلهية في الكون)(17).
ب- المتغيرات: وأَما ما تغير من الإلى بين الزمان والمكان، ولم يرد فيه نص شرعي، فقد تُرِك المجال فيه للعقل البشري، لاستنباط الأحكام بضوابط لا تخرج عن المحاور الثابتة، حتى يقوم العقل بحل إشكالية التغيير والتطور فيها بالحكم الاجتهادي، وهذه هي بوابة الاجتهاد والمساحة والتي فتحها الله سبحانه وتعالى لتوظيف العقل البشري خدمة للمحاور الثابتة في الإسلام، ولمواجهة حركة الحياة المتبدلة والمتغيرة المتطورة، لأن حكمة الله شاءت أن تحمي الإنسان المؤمن من نفسه بالثوابت، وان تترك العناصر المتطورة والمتغيرة لعقول أبناء الإسلام، حسب الأزمنة والأمكنة، وحسب تغير مصالحها ليجتهدوا فيها ضمن حدود الثوابت ومعطياتها.
جـ - وقد وردت مجموعة من المصطلحات التي توضح أهمية التعامل مع المتغيرات الاجتهادية في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم منها:
1- الاجتهاد: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)(18).
2- التجديد: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها) "رواه أبو دواد في الملاحم".
يقول الأستاذ عمر عبيد حسن في مقدمته لكتاب " المنهج النبوي في التغيير الحضاري ": "لقد جعل التجديد تكليفاً، ولم يقتصر على أن يكون إخباراً، والتجديد الذي هو في الحقيقة تقويم للواقع وتغيير له ومحاولة للعودة به إلى الينابيع الأولى، بعد إدراك هذا الواقع في ضوء المنهج النبوي للتغيير... وهو لازم من لوازم الخاتمية، حيث توقف التصويب من السماء، فلا بد من ممارسة عمليات التصويب والتقويم للواقع في ضوء مرجعية قيم السماء... "(19).
3- الإحــياء (من أحيا سنـة من سنتي قد أُميتت بعـدي، فــإن له من الأجر مثل من عمل بها)(20) وكل هذه المصطلحات تحث على الاجتهاد، لتجديد أمر هذا الدين، حتى يندفع للسيطرة على الحياة، لكسر طوق الجمود والتخلف ولمواجهة الانحراف، وحتى يعود العمل بالإسلام من خلال العلم به والاجتهاد له والتجديد لأمره.
إنه دين يجمع بين المحاور الثابتة - بالنص الشرعي ـ وبين الأمور المتغيرة في الحياة؛ حتى يحمي الإنسان من الضلال، فيندفع إلى العلم والتطبيق حيث يكلف العقل البشري بالاجتهاد لها.
وهو دين يعلم ضعف العقل البشري فيعطيه (الثوابت) التي حميه من الانزلاق وراء الأهواء، ويعلم عظمة هذا العقل، فيكلفه (بالاجتهاد والتجديد والإحياء واكتشاف سنن الله) في الكون والحياة؛ من أجل تسخيرها لخدمة خلافته في الأرض، وهذا هو الجمع الدائم بين الثابت والمتغير، في موازنة حكيمة؛ لضبط النشاط الحضاري للإنسان، وحمايته من الضدين (الانفلات والجمود).
وسوم: العدد 864