سِرُّ الْإِدْلَالِ
وَدَعْ كُلَّ صَوْتٍ دُونَ صَوْتِي فَإِنَّنِي أَنَا الطَّائِرُ الْمَحْكِيُّ وَالْآخَرُ الصَّدَى
قاتل الله المتنبي؛ يُدِلُّ علينا بشعره إدلالَ الصوت على صداه، بأصالته دونه -فهو خارج من صاحبه وما سواه خارج منه هو- وتفرُّده -فهو واحد وما سواه كثير- وقوته؛ فهو جهير وما سواه خافت!
لقد شهدت على عشرات الأعوام كذا وكذا مَحفِلًا من محافل الشعراء؛ فما وجدت أكثر إدلالا من شاعر يصعد إلى منصة الإنشاد التي لا يريد من يصعد إليها أن يهبط منها، فيكتفي بقطعة (قصيدة قصيرة)، قائلا بلسان الحال: دَعُوا عَنْكُمُ الصَّخَبَ، وَالْزَمُوا مَا تَسْتَوْعِبُونَ، تَظْفَرُوا بِرِسَالَةِ الشِّعْرِ! وتأملت الشاعرَ المُطِيل -فوجدته عَجولًا، يُلبس على الناس فيُسخطهم، وربما تَعَثَّرَ فأضحكهم- والشاعرَ المُقْصِر، فوجدته رَزينًا، يُعلِّق الناس فيُشوِّقهم، وربما حَرَمَهُمْ فأَغْرَمَهُمْ!
وفي الإدلال فَرَح، ثم جُرأة، ثم سَيْطرة: يفرح المُدِل بما يملكه، مُتَمَلِّئًا بما شغل خلاياه فلم يدع لفراغ مُتنفَّسًا، مطمئنا إلى ما اتصل بينه وبين الملأ الأعلى! ثم يجترئ بما يملكه على من لا يملكه، مُتبسِّطًا تَبسُّط المُجري في الخَلاء، مُتفضِّلًا تفضل المتصدق على الفقراء! ثم يسيطر برأيه على رأي غيره، مُتوثِّقًا بالإحاطة بآفاقه، مُتطوِّعًا بالاستئثار باختياره!
وسوم: العدد 866