تاريخ الآداب الإنسانية (4) "بدايات ومؤثرات"
(٥) علم الوحي يعلمنا الواقعية والتوحيد
من هذه الأرض بدأ التاريخ البشري، وهذه حقيقة الواقع الأرضي، كما عرَفها آدم عليه السلام وزوجه يوم نزولهم من عالم الغيب (من الجنة)، ويوم غادرها وهو يحمل وعد الله سبحانه بإرسال الأنبياء والرسل الهداة لذريته على الأرض من بعد، وكذلك عرفها الأنبياء والرسل وأتباعهم من بعدهم، حتى انتهى ميراث النبوة وعلمها إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، والى أمته من بعده، لأن رسالته خاتمه لكافة للناس ولكل الأجيال إلى يوم الدين، ولذلك ولد العقل المسلم منذ اليوم الأول لنزول آدم إلى الأرض، عقلا راشد مميزا متصلا بالله، ينظر إلى المخلوقات من حوله نظره تقدير، ويأنس بها، لأنه يعتبرها من نعم الله التي سخرها له لخدمته، وتيسير خلافته على الأرض، وهو يرى أن هذه المخلوقات تشاركه العبودية والطاعة لله سبحانه وتعالى، ولذلك لم يقع يوما في عبادتها، ولم يخف منها، ولم تختلط عليه الأمور لوضوح عقيدته في توحيد الله وعبادته وطاعته، ولأن العقل المسلم ولد موحدا، لم يقع في الحالة المرضية التي تقدس قوى الطبيعة، وتعبدها وتصنع لها الآلهة، لأنها تجهل هذه الأشياء وتخاف منها.
ومن عهد آدم عليه السلام إلى آخر موحد على هذه الأرض يعيش عقل المؤمنين بالله مدركا لحقائق الواقع، بكل موضوعية ووضوح، ودون لبس، وهو يدرك أن هذه المخلوقات تعبد الله وتشاركه العبادة، ولم يتوهم يوما ما أنها قوى خارقه يحتاج إلى أن يتقرب إليها، أو أن يخاف منها، لأنه يعرف خالقها ويعبده، ويحتمي به من شرها، ومن شر ما خلق، لأنه يدرك حقائق الحياة على هذه الأرض ويحترمها، وهذه الأرض مركز خلافته ومختبر نوايا ومزرعته للآخرة.
هذه الواقعية تَعلمها المسلم من كتاب الله، ليطل منها وبها على (عالم الغيب)، ويتأمل الكون والمخلوقات من خلال (علم الوحي) و(علم العقل)، عن حقائق الحياة المادية، هذه الواقعية التي تستند إلى قاعدة راسخة في العلم والمعرفة تقول:
أن الكون وما فيه من خلق الله، والوحي وعلومه وكلام الله وكتابه، والعقل هو ميزان الله في هذه الأرض، ولن تتصادم (حقائق الكون) مع (حقائق الوحي) داخل هذا الميزان (العقل)، لأنهما من مصدر واحد هو الله سبحانه وتعالى، إلا إذا وقع هذا (الميزان) تحت تأثير الهوى والمصالح ونقص العلم الدقيق بحقائق (علم الوحي)، أو بحقائق (علم الكون)، والعقل هو القوه المدركة (لعلم الوحي ولعلم الكون والحياة)، و(علم الوحي) هو دليل هذا العقل ومنهاجه في توظيف طاقات هذه القوة المدركة، واستثمارها فيما يفيد، وهو أي (الوحي) الذي يحمي قوه (العقل) من التبدد والتخبط فيما لا ينفع، وذلك حين يضع لهذا العقل (محاور الهداية) التي يسير عليها، فيحميه من الضلال، ويضيء له طريق التفكير السليم والسلوك القويم، هذا هو (العقل المتصل) عقل الإنسان المسلم، وذلك هو العقل الذي أنس بالمخلوقات، وأدرك أنها من نعم الله الكثيرة التي سخرها لخدمته، وتيسير عيشه على هذه الأرض، وهو يدرك أن هذه المخلوقات تشاركه الطاعة والعبادة لله سبحانه وتعالى، لذلك لم يخف منها ولم يصنع معها علاقة الصراع والعداوة، ولا عبدها ولا خضع لها، بل استثمرها واستفاد منها في حدود ما سمحت له خبرته، ولم يقع فيما وقع فيه (العقل المنفصل) عن طاعة الله حين نَظر إلى الأشياء من حوله فخاف منها وتقرب إليها وعبدها أو هرب منها أو صنع معها علاقة الصراع واعتبرها عدوة له لأنه يجهلها، ولا يملك العلم عنها بينما كان العقل المسلم يقول للكائنات من حوله ربي وربك الله.
إما (الشرط الموضوعي الثاني): لهذه الواقعية فهو التأكيد على القطب الثاني للواقعية الإسلامية، ألا وهو (عالم الغيب)، الذي يشكل البعد الثاني الحقيقي العميق لهذه الواقعية، حتى تكتمل صوره الواقعية الإسلامية بشقيها وقطبيها (الشهادة والغيب)، لأننا نخالف الواقعية المادية العوراء التي لا تعترف بعالم الغيب وتتجاهله بل واشتطت في إنكاره، حتى أوصلها عماها المنهجي إلى فرضية تعريفها للعلم على منظمة دولية (كاليونيسكو)، التي يفترض أنها تمثل بحياد الثقافة الإنسانية بكامل أطيافها، ولكنها بذلك تثبت انحيازها لثقافة (العقل المنفصل)، بل وتكشف خضوعها لثقافة هذا العقل وسيطرته عليها، حين تبنت هذا التعريف للعلم ونص التعريف يقول: (العلم كل معلوم تم علمه عن طريق الحس أو التجربة)(16)، وهذا يتناقض مع تعريف العلم في المفهوم الإسلامي الذي يقول نصه: (هو كل علم تم أخذه عن طريق الوحي أو الحس أو التجربة)(17). لأن علم الإنسان مرتبط بقدرة الحواس الخمس التي لا تدرك إلا من خلال (درجات محدودة)، ولذلك فليس من العلم ولا من الحق إنكار العوالم الغائبة عن قدره الحواس، سواء كانت فوق درجات هذه القدرة أو تحت درجات هذه القدرة.
ونلاحظ أن القرآن الكريم يشبه علم الحواس عند الإنسان ومحدوديته بغطاء الغواص، إذا رفع عنه تكشف له ما كان غائبا عنه، قال تعالى عن منكر الغيب عندما يموت ويرى ما حجب عنه من عالم الغيب في دنياه: (لقد كُنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)(18). فغطاء الغواص يمنحه القدرة على الرؤية في الماء وكذلك الحواس الخمس تمنح الإنسان رؤيته للدنيا فقط، وهي أيضا مصممة لذلك فقط من خلال درجات قدرتها، ولكنها محجوبة عن عالم الغيب وحقائقه بتلك الدرجات التي خلقت عليها، فهي لا تستطيع أن تدرك (ما تحت هذه الدرجة ولا ما فوقها) لأنها مرهونة بهذه القدرة.
ولذلك فالواقعية الإسلامية تعتبر عالم الشهادة بوابة وعتبة ندخل منها إلى علم عالم الغيب، وبذلك نجمع من علم الله ما عُلمنا عن طريق (الوحي والأنبياء) صلوات الله وسلامه عليهم، وما يعلمنا الله من مخلوقاته مما أودع فيها من سن وقوانين عن طريق فقه (عقولنا)، أو عن طريق اكتشافها للكون والحياة عبر تراكم تجاربنا فيها.
هذه هي الواقعية الإسلامية، إنها واقعية مبصرة حقيقية متوازنة، ليست عمياء ولا عوراء، لأنها تؤمن (بالواقع القريب) المكشوف الذي يقع في متناول الحواس، وتؤمن (بالغيب الممكن) الذي يمكن أن يتحول إلى واقع إذا تقدم عقل الإنسان وحواسه في صناعه الأدوات المساعدة التي تمكنه من اكتشاف الظواهر المحيطة به، لأنها تزيد من قدرة الحواس وتُيسر لها متابعة هذه الظواهر، وتؤمن هذه الواقعية (بالغيب المغلق) الذي لا علم لنا عنه إلا ما علمنا الله إياه عن طريق (الوحي والأنبياء)، قال تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) (19).
*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )
وسوم: العدد 884