بعد مرور 48 عاما على اغتيال غسان كنفاني الرجال ما زالوا في الشمس
تحيل رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" إلى مأساة شعب بكامله، بدأت عام 1948، ولم تنته إلى اليوم، وإلى غدٍ، وعلى المدى المنظور يبدو أنها لن تنتهي. ثمة تطورات خطيرة بالفعل أصابت القضية الفلسطينية، فبعد أن كانت مشكلة الشعب الفلسطيني السياسية في النكبة المشؤومة، صارت أيضا في النكسة، وفي الخلاف العربي الفلسطيني، ثم الخلاف الفلسطيني الفلسطيني، ثم مأساة التفاوض والاعتراف بالعدو، ثم عيش وهم الدولة والاستقلال والتطبيل والتزمير للزيف السياسي الفلسطيني، ثم الانقسام وما جره من ويلات، ثم الحروب على غزة، وصولا إلى التضييق على القطاع المحاصر، وعلى الفلسطينيين قاطبة في كل أماكن وجودهم داخلا وخارجا، ثم بدأ الشعب الفلسطيني يجني الثمار المرة لعملية السلام، فتم إغراقه في الديون، فتراجع اقتصاديا، وأصبح شيئا فشيئا شعبا خاملا، كسولا، يركن إلى الوظائف التي علّمته الجبن، ويعتمد على المساعدات التي تقدمها الدول المانحة، وكسر البارودة، فهدمت بيوته، وأسر شبابه، وضاعت حقوقه، وأصبح ينتظر راتبا من سلطة هزيلة بائسة، تلاعبت بالمواطن تلاعب الاحتلال به، فأكلوه لحما طريا، واستغلوه أبشع استغلال، ومن ثَمّ رموه للجوع في العراء حيث لا مأوى ولا ماء ولا لقمة من طعام. ثم يقولون له أيها الشعب المرابط البطل، الصابر المجاهد. وهو في الحقيقة لا يحلم بأكثر من أن يقبض راتبه آخر الشهر، وقد حولوا كل الشعب إلى مواطنين برواتب هزيلة على قاعدة "قوت ولا تموت"، سواء في ذلك الموظفون أو الأحزاب، ليستطيعوا دفع فواتير الماء والكهرباء والاتصالات وأقساط البنوك، وهم يناضلون من أجل أن يظلوا على أمل أن تتغير أحوالهم.
لقد أحكموا الخناق على الشعب، وكل محاولة للخلاص هي عبث محض، لأنه لا أفق، فاليسار مشلول ولا قامة له لتنتصب في وجه الظالمين؛ الوطنيين الزائفين الأشد خطرا على الشعب، والاحتلاليين الإحلاليين، واليمين الإسلامي المأجور لأجندات إقليمية مشبوهة، وأحزاب سلطوية يعتاش أفرادها على الفساد ونهب كل ما يحاول سد رمق الفلسطيني. فمارسوا شهوة الجاه على سراب سلطة لا تعدو أن تكون سلطة قمع ذاتي وجباية ضرائب.
في ظل هذا الوضع سيظل "الرجال في الشمس"، ولن يستطيعوا أن يدقوا جدران الخزان، فهم مقيدون مشلولون مكممون لا حول لهم ولا قوة. لقد تجاوز الوضع الفلسطيني الحالي ما طرحه غسان كنفاني في روايته "رجال في الشمس"، وأصبح الوضع كارثيا، مع أن غسان لم يكن بعيدا عن هذا التوقع السياسي، فمن يموت طريدا وهو يصارع من أجل لقمة عيشه وخلاصه الذاتي في صحاري العرب، هو نفسه الذي يحاول أن يبحث عن خلاصه الشخصي، ولكن داخل حدود وطن متاهيّ، مفكك، ومضلل، ومستلب، فكلنا لم نعد قادرين على دق جدران الخزان.
وعلى الرغم من أن رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" رواية سياسية وواقعية وتاريخية، لأنها تؤشر إلى أحداث تاريخ النكبة إلا أنها أيضا رواية ذات رؤى، يستشرف فيها غسان كنفاني منذ البداية المستقبل الذي أصبح غامضا وكارثيا وبلا ملامح أو مخارج حلّ، حتى أن الحل الفردي في الخلاص قد تلاشى.
لقد دخل غسان إلى المستقبل من خلال التاريخ، ودخل إلى السياسة من خلال بوابة الوطن، فأرّخ للأحداث الفلسطينية بكل تفاصيلها، وأبعادها المحلية والعربية، وربما وصل إلى البعد العالمي بمشروعه الروائي، ولذلك فالرواية مفتوحة الأفق على السياسة الحاضرة، فمقولاتها السياسية والفكرية ما زالت مطروحة وبقوة، ليس عند السياسيين الفلسطينيين فهي لا تعنيهم، وإنما في المراجعات الذاتية والثقافية للمثقف الفلسطيني والعربي، أو عند من بقي فيه روح من جذوة تفكير حيّ لمحاسبة الذات المتردية إلى أسفل سافلين.
يقول الدكتور إحسان عباس في مقدمته للرواية المنشورة ضمن مجلد الأعمال الكاملة (المجلد الأول- الروايات): "ورغم بلوغ غسان في التزام الواقعية إلى درجة تعذر فيها الفصل أحيانا بين الواقع الحضاري والواقع الفني، فإننا لا نستطيع أن نعده وثائقيّا في فنه، لأنه لم يكن يكتفي بترتيب عناصر الواقع الحضاري على نحو تاريخي متصاعد أو متكامل، بل كان يعيد ترتيب تلك العناصر، ويمنحها التكثيف والتوجيه، ويستغل فيها الصور والمقارنات والمفارقات، بحيث تجيء خلقا جديدا في الواقع، وليس به- هو الواقع الي يراه أو يريد أن يراه قاصّ متفنن ملتزم، وليس هو الواقع الحرفي- طبيعيا كان أو حضاريا-".
لعل ما قاله إحسان عباس يمس صنعة الرواية وتقنياتها أكثر مما يمس موضوع الرواية ومآلاته على أرض الواقع، بحكم أن الوضع الفلسطيني كان أفضل حالا من اليوم، ولو قُدّر لإحسان عباس أن يقول اليوم في الرواية رأيه لرأى أن ذلك كله؛ الواقعين الطبيعي والفني قد تغيرا تغيرا كبيرا جدا. ولذلك من المنطقي جدا في استشراف الناقد البصير أن يرى في الرواية "أنها قصة آسرة متوحشة تنشب أظافرها في القارئ بحيث لا تدع له منها فكاكا، ويخرج منها في النهاية وسؤال خائف مفزع يعتصر وجدانه كله "لماذا تم ذلك كله"! هذا ما يقوله الفلسطيني اليوم، وإن لم يقرأ رواية غسان كنفاني، لقد جعلته الأحداث على الأرض في "الواقع الطبيعي" إحدى شخصيات الرواية، وتتحقق فيه يوميا رؤيا "المصير التراجيدي" للفلسطيني. فقد توزعت الرواية وشخصياتها على الشعب الفلسطيني لتتلبّس كل فرد فيه ليغدو شخصية من شخصيات غسان في هذه الرواية التي لا تكفّ عن أن تكشف عن جديدها المذهل مع كل قراءة جديدة. وأن يلاقي كل فرد من الفلسطينيين المصير التراجيدي نفسه الذي لاقته شخصيات الرواية، فاكتسبت تلك الشخصيات بذلك بعدها الرمزي، كما أشار أيضا الدكتور إحسان عباس. فالرواية بهذا المنطق يمكن أن تُدرج ضمن الروايات التي تعالج موضوعا كبيرا، وتبحث عنه، متضمنة نوعا من البطولة الجماعية.
إن هذه الرواية وهي تتحول إلى فيلم حمل عنوان "المخدوعون" يومئ إلى تلك الرمزية التي حملتها تلك الشخصيات التي انطلت عليهم خديعة الخلاص بالسفر والبحث عن الرزق، وابتعدوا عن بؤرة الصراع ليلاقوا مصيرا محتوما مرميين على مزبلة منسية، كما كتب يوما الشاعر أحمد دحبور.
لم ينقطع سؤال الرواية الأساسي (لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟) عن أن يظل مطروحا في حياة الفلسطينيين السياسية، ومن بعدُ سيتسلل السؤال إلى الناحية الاجتماعية، ومع أنه كذلك إلا أن القضية الفلسطينية وصلت إلى مرحلة لا يجدي فيها طرح هذا السؤال، فقد تعبنا ونحن ندق ونطرق بعنف جدران الخزان، لكننا لم نجنِ سوى الخذلان، خذلان في عمّان، حيث أحداث أيلول الأسود، وخذلان في لبنان عام 1982، حيث المجازر التي قامت بها أطراف عربية متعاونة مع الاحتلال، وخذلان في بقية البقعة العربية حيث ينظر إلى كل فلسطيني على أنه متشرد صعلوك، جائع، لا تاريخ له، لذلك في أحسن الأحول، يقول أمثلهم طريقة من العرب، استوصوا بهؤلاء الجوعى خيرا. لقد خذلَنا القرارُ السياسي عربيا وإسلاميا ودوليا، وأصبح الشعب بمجموعه شخصية تراجيدية غاية في البؤس والشقاء. وكأن هذا السؤال غدا نكتة تافهة لا تثير السامع، حيث لا سامع يسمع، فلمن تسأل؟ ولأجل من تدق تلك الجدران في خزان لا يردده إلا صدى الفراغ المشبع بالمأسوية الطاحنة؟ لقد خذل الشعب نفسه وغدا مطبلا ومزمرا لمئات من الشخصيات التي حملت وبأمانة كل جينات أبي الخيزران العفنة. مع أن الرواية تؤكد حقيقتها الكبرى "وهي أن كل طريق بعيدة عن الوطن مرصّدة بموت مجاني". لتنقلب الحقيقة إلى مأساة ساخرة أخرى وهي: أن كل طريق في الوطن صارت معبدة بموت مجاني آخر.
وبهذا يكون التجسيد الرمزي لهذا الوضع، ببعديه الفلسطيني والعربي، بذلك الخزان المقفل. وربما دق الثلاثة الخزان فعلا على أرض الواقع، من يدري؟ ولكن من سمعهم أو من كان مستعدا أن يسمعهم قبل ذلك أو بعده، كما فعل الفلسطينيون بعد ذلك. لقد غدا الفلسطينيون "فائضا" بشريا ليس أكثر، وشكّلوا عبئا سياسيا واقتصاديا على نظام عربي متهالك تعيس، لم يستفد يوما من حكمة الثور عندما قال بحسرة "أكلت يوم أكل الثور الأبيض". لقد أُكِل العرب أيضا لما أن أُكل الفلسطيني وتشرد واستولت العصابات الصهيونية على أرضه ومقدراته عام 1948، لتنهش دويلة هزيلة لم يتعد عمرها التسعة عشر خازوقا لحم الجغرافيا العربية في سوريا ومصر ولبنان والأردن عام 1967. بالفعل لقد أكل العرب يوم أكلت فلسطين العربية.
إن أهم مشهد في الرواية هو مشهد انتزاع أبي الخيزران لساعة مروان، وما تحمله هذه الإشارة من معنى الاستلاب، استلاب التاريخ القادم (المستقبل) بعد أن تم تأطير الماضي في مأساة لا حد لها. إن استلاب المستقبل يعني بقاء الفلسطينيين بلا رؤيا خاصة توجههم، فقرارهم محكوم عليه بالاستيلاء من الآخرين من أحفاد أبي الخيزران الذين لم يكونوا فلسطينيين فقط بل كانوا عربا، واستعمارا ودولا كبرى، تحرم الفلسطينيين أبسط حقوقهم في أن يكون لهم وطن يمارسون على ترابه أعمالهم، ويحلمون كما يحلم البشر بحياة هادئة مطمئنة، لا تشرد فيها ولا لجوء.
ربما أصبحت رواية "رجال في الشمس" رواية مركزية في الأدب الفلسطيني من خلال استحضار مقولاتها وسؤالها المر، واتكأ عليها أدباء آخرون كتبوا الرواية والشعر، فقد أشار الدكتور عادل الأسطة في مقال له عن رواية الكاتبة الفلسطينية ليلى الأطرش "صهيل المسافات"، إذ تقاطعت الرواية مع الفكرة الأساسية لرواية غسان كنفاني في البحث عن الخلاص الفردي. بل لقد غدت ثيمة "البحث عن الخلاص الفردي" حاضرة في كثير من الروايات، هذه الثيمة التي أشارت إليها الرواية وبلورتها كتابات النقاد حولها، وارتبطت برواية "رجال في الشمس".
لم يقتصر أثر الرواية على الجانب السياسي، واستشراف المستقبل عبر بوابة الفعل الفلسطيني السياسي المتسم بعقم الفعل المفضي للخلاص، أو تحسين الشروط السياسية على الأرض، بل تعدى حضورها العمل الروائي إلى الشعر. فامتد أثرها لتتمدد شاملة الناحية الاجتماعية؛ إذ تبين الباحثة مي عمر محمد نايف في بحث لها بعنوان (شعر المرأة الفلسطينية من عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين حتى نهاية القرن العشرين- بحث في نماذج مختارة) أن هذه الرواية قد وظفتها بعض الشاعرات لتنقل دلالتها من الدلالة السياسية إلى الدلالة الاجتماعية، ومن الأمثلة التي تسوقها الباحثة على ذلك قصيدة للشاعرة صباح القلازين فقد تناصت مع ما ورد في الرواية رغبة في الثورة، ونقلت المأساة الجماعية السياسية إلى مأساة شخصية اجتماعية. ربما يؤشر هذا النقل إلى أنه مجرد تناص مع جملة شائعة من الرواية وهي ذلك السؤال المحوري "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟". تقول الشاعرة:
أنا ليلى
أدق جدران حزني
فتنكسر السنين على السنين
أنا ليلى
ويملأني اشتياق
ويكبر فيّ ورد من حنين
وكذلك فعلت شاعرة أخرى تدعى عطاف جانم في قصيدة بعنوان طيور الرجاء:
وأنا من يومها يقضمني الخزان
يا غسان
والأيام تنساب انسرابا
وآه كم دقت يدي الجدران
كم عابثت بابا.
هذه إشارة فقط لحضور مقولات الرواية في غير السياسة مع أنها لا تشير إلى عمق متجذر في الرؤيا لدى الشاعرتين كلتيهما، فقد تناصت الشاعرتان مع مقولة الرواية بتناص شكلي لا يؤشّر نحو رؤيا شعرية مدهشة.
وعلى الرغم من كل ذلك، سيظل تأثير روايات غسان كنفاني، وخاصة رواية "رجال في الشمس" لفترة طويلة متمددا في الثقافة الفلسطينية، في الرواية والشعر، وسيظل غسان كنفاني بوصفه روائيا ومناضلا وشهيدا ذا حضور مركزي، تناقش أفكاره وتستعاد، رغما عن أن رجاله ما زالوا في الشمس، وعلى ما يبدو أنهم سيقضون فترة طويلة تحت الشمس اللاهبة التي لا ترحم.
وسوم: العدد 885