قراءة في قصيدة (فراشتان) للشاعر حماد صبح
قرأتها الشاعرة ثريا نبوي
_ _ _
1 : تتهمع : تسيل
أوجزَ شاعرُنا القديرُ فأعجز؛ آنَ وضع على الجُرحِ البَنان، مُضمِّدًا بالتفاتةِ الإنسان، وسلاسةِ البيان؛
فهزَّ الوِجدان، وأرسى قواعدَ البنيانْ.
شاعرُنا المُرهفُ يختزِنُ وجعًا إنسانيًّا تخِرُّ منه الجبال؛ يئنُّ إحساسُهُ بالمرارةِ تحت نِيرِ الظلمِ والعدوانِ على الأبرياءِ؛ بلا ذنبٍ ولا جريرةٍ سوى أنهم قُدِّرَ لهم أن يعيشوا في عالمِ الغاب ليحكمَهم قانونُه المُستَأسِدُ الشرس؛ لِتغدوَ الفصولُ كلُّها خريفًا يفترسُ ضعفَ أشجارٍ خريفيةِ المنهاج؛ حيث الذُّبولُ والسُّقوطُ لا يفترقانْ.
وهل كانت غِرناطةُ الأندلسِ الذاهبةُ إلا واحدةً من هذه الأشجار؟ وهل كانت القدسُ غِرناطةُ العصرِ، وبغدادُ الحضارةُ المُدَمَّرةُ باليورانيوم الحاقدِ الرهيب؛ وقبلها كابُل مُلتقى الأطماعِ الذي صيَّرته الحربُ المزعومةُ على الإرهاب رُكامًا من حياةٍ أسكرتها عناقيدِ القنابلِ ، ودمشقُ بُسْنةُ الشرقِ التي ما زالت تُذبَحُ منذ أكثر من ثلاث سنواتٍ بسكينٍ علويّةٍ صفويَّةِ عالميةِ النِّصال، وبيروتُ صخرةُ المجدِ التي علَّقَها خيالُ شاعرٍ بالنجم لتهويَ في بحارِ الخديعةِ والخيانةِ، والسقوطُ المُدوي لصنعاءَ قلعةِ المجدِ في بِئرِ الحُوثيينَ المذهبيّ البغيض... هل كان كل ذلك إلا تحت مظلةِ قانون الغابةِ اللئيمة الحمقاء، وبمؤازرةٍ من علقمِ العلقميينَ يُزَنِّرُهُ الدَّهاء؟؟؟
ينتقلُ بنا الشاعرُ بسرعةِ التدفُّقِ الشعريّ ومهارةِ التكثيفِ للمشهدِ؛ في محاولةٍ شديدةِ الرُّقي للعزفِ على أوتارِ وِجدانِنا كقُرَّاء؛ ليُسمِعنا ما دار بينه وبين هذه الطفلةِ الفراشةِ؛ ولا يتمهلُ ليلتقِطَ أنفاسَهُ بين السطور؛ فهو مدفوعٌ بمردود الظلمِ الساكنِ بين جوانحه، تضغطُ اللهفةُ قبل أناملِهِ على أوتارِ القيثار!!!
فقد رأى ووصف .. ولم يفُتْهُ الثناءُ على إبداعِ الخالقِ في خِضَمِّ أمواجِ مشاعرِه؛ ونصحَ ولم يُغرِهِ دورُ الكبارِ وحكمتُهم بالتخلّي عن الرفقِ الذي ما كان في شيءٍ إلا زانَه، والترفُّقِ: كدرسٍ آخر يستوجِبُ التلقين للكبارِ آنَ يتقمَّصون أدوارَ المُعلِّمين! ولم ينسَ أن يُعطي المثَلَ في احترامِ عقولِ الصغارِ وشخصيّاتِهم حين يسلُكُ سبيلَ الإقناعِ المنطقيِّ الرَّخيم:
وما أجملَ الصورةَ التي بَدَت عليها الصغيرةُ بعد مُخاطبةِ عقلها وقد بدا كبيرًا، ووِجدانِها الذي مَسَّتْهُ نفحةٌ قُدسيَّةُ التأثيرِ والصفاء؛ فتجاوبَتْ وأفصحت عن نيتِها البريئةِ التي لم تُضمِرِ الأذى، وعلَّلَت ذلك بكراهيتِها للموتِ الذي (رأتهُ يغتالُ وينزِعُ) ؛ وما أقساها من تجربةٍ للفقدِ وما أدقَّهُ من تعبيرٍ عن الفجيعة.
غير أني على استحياءٍ من شاعرنا الكبيرِ القدير أقفُ عند تعبير: منذ شهرٍ واحدٍ... لأقول:
كنتُ أتمنى لو جاء الوصفُ منذ شهرٍ قد مضى أو منذ شهرٍ بائسٍ أو فائتٍ... لماذا؟
لأننا عندما نحددُ الوقتَ بهذه الصرامة نبتغي التقليلَ من مساحةِ الزمن لغرضٍ ما فنقولُ: إنه شهرٌ واحدٌ فقط؛ لم يزِد عن ذلك وفي هذا إما تدقيقٌ أو تقليلٌ من شأنه؛ وهو ما لا يجوزُ مع الإحساسِ بأحزانِ الفقدِ التي تُشعِرُنا بأنه زمنٌ تضاعفَ وانفرطَ عِقْدُهُ لنشعُرَ بأن فقيدَنا رحل منذ شهور لا شهرٍ (واحدٍ)
وهو مجردُ إحساسٍ ساورني أثناء التلَقِّي ولم أستطع الهروب من نقلِه هنا؛ وللشاعرِ وللقراءِ الأعزاءِ ما يرَون، ولا يسعُني إلا احترام وجهاتِ نظرِكم.
وها هو الشاعرُ يجني ثمارَ غرسِهِ وقد آذَنَ العزفُ الجميلُ على الانتهاء؛ ويستكمِلُ لوحتَه البديعةَ الشفيفة، ودرسَهُ العمليَّ الرائع؛ وملؤهُ الأملُ في أن تكونَ إسقاطاتُهُ المنطقيةُ في فلسفةِ السلام قد طرَّزت أفكارَنا ومشاعرَنا وأُخوَّتَنا الإنسانية.
وأبقى أنحني احترامًا لفيضِ إنسانيةٍ وارفةِ الظلالِ في عالمٍ من الأمانيِ الحِسانِ يرسُمُهُ هذانِ البيتان:
شاعرَنا الشاعر: تحيةً بعبقِ الرَّيحانِ لواحدٍ من رياحينِ اللهِ في أرضِه؛ تُعطي ولا تنتظِرُ الثناءْ!
وسوم: العدد 905