دولة شين، صدى الآم الذات
بهذه العبارة أفتتحت الكاتبة وفاء عبدالرزاق روايتها " دولة شين " :( كن نفسك وأزح عن عينيك غشاوة الفراغ .. كن ينبوعا ًوأبعد عني العدم كي أرتاح ) .
كن صوتا ًولا تكون صدى ً لذاتك دائما ً, كن صامدا ًوكن لنفسك أبدا ً, ومعبرا ً عن أعماقك في دروب الحياة , وأعكس خواطرك على مرايا الواقع , وأجعلها أكثر قوة حتى وأن جعلها لك الزمان أكثر ألما ً .
تنقل لنا الكاتبة وفاء عبدالرزاق في روايتها " دولة شين " الحدث الصرف من الزمن المُعاش المتعمد والمتراكب من خلال السرد ضمن الأطر المكانية والزمانية والذي يدخل القاريء في عوالم مختلفة ,عندما تتوغل الكاتبة في بواطن الشخصيات وتحليل مغزى أفكارهم وتطلعاتهم , تحاول من خلالهم اعتماد تقنية تعدد الأصوات لسلوكيات وظواهر إجتماعية مازالت تعيش فسادا ً في الروح الإنسانية .
تحتل الشخصيات موقعا ً هاما ً في بنية الرواية " دولة شين " من حيث تعدد الشخصيات وتماسكها وكثرت الأحداث , ولعل نظرية المحاكاة لأرسطو تشكل مدخلا ً ملائما ً للحديث عن مفهوم الشخصية , حيث يدفع بالشخصية الى أن تكون تابعة للحدث أو ظلا ً لها , شخصيات رواية " دولة شين " للكاتبة وفاء عبدالرزاق متنوعة في جنسها وهي على ثلاث أنماط ( الشخصيات الدينية , والشخصيات المنحرفة , والشخصيات الشاذة ) .
في قمة الجبل بنوا مملكتهم الكبيرة , يسود اجواءهم الهدوء والطمأنينة , ويعيشون في سلام وآمان , " كريم " لم ينس عظمته وعلى جميع جلاسّه تلبية أمره بإشارة منه , يدير مملكته الجبلية بحركة أصبع , أفضل ما يريده من الآخرين الإيمان به سيدا ً , ومنحه الطاعة ليجزل العطاء عليهم , (ودا ً كان أم ثوابا ً ), ونادرا ً ما يحدث شجار هنا أوهناك , ولو حصل يكون سطحيا ً ولا قيمة له , ثم ينتهي بالصلح والاحتضان , ذات أمسية بينما هم ساهرون على تحليل التوقعات , في منتصف الليل نهض " كريم " عن كرسيه وخاطب الجميع واقفا ً : ( لقد نصبت " نديما " رئيس وزراء المملكة , وعلى الجميع تنفيذ أوامره وطاعته ) صعقتهم المفاجأة , لكن " شين "خرج هائجا ً وغاضبا ً مما سمع , لحق به رضوان وأعاده الى المجلس , حتى وقف مخاطبا ً " كريم " بصوت مرتفع " لن أخضع لمن هو أدنى مني مرتبة ًوشرفا, غضب كريم منه ثم ترك الجلسة آمرا ً شين بالرحيل
قضى " شين " في سيره أسابيع هابطا ً من أعلى الجبل الى الوادي , " نديم " لم يكن بمستوى مسؤولية الوعد الذي قطعه , وقادته غريزته الجسدية وأهواؤه الى خرق الوعد , غضب " كريم " وأقسم أن يصب عليه الزيت ويجعله كتلة من طين , لكنه استحلفه الغفران والرحمة , إنه الضعف أمام الشهوات , قبل " كريم " توسله وصفح عنه , لكنه نفاه خارج سور المملكة وأنزله أرضا ً في أعماق الوادي قبل أن يصل " شين " اليه , نفاه هو وزوجته .
وقف " شين " وقفة الحائر في صحراء مترامية الأطراف , استفزه شكل غريب , الا هو وجود ثلاثة عشر بابا ً صُفت الى بعضها وكّونت سورا ً في صحراء دون حوائط وجدران وأسوار ثم يبدأ بسؤال نفسه : " أما من معلم ٍ للأخلاق خلف هذه الأبواب ؟" آدميتهم تحولت الى ذئاب , وأصابعهم الى مخالب , ألسنتهم مليئة بالآقاويل , مليئة بالكفر وعفونة النميمة .
الرواية كما يؤكد الدكتور ( ناصر الأسدي ) تستحضر الموروث الديني كله , وتقوم بتسليط الضوء على كل جزئية من الجزئيات التكوينية , لينبعث منها قبس ممكن لنا نحن أن نتلمسه من خلال القدرة على تقصي الأجزاء الآخرى . تطفل " شين " ونظر من ثقب أحد الأبواب , استغرب من معاشرة القرود للحمير تزاوج جديد وذرية مشوّهة .. لكن لماذا يشعرون بعذوبة المخاض والوليد المدنّس ماهذا العالم الملىء بالتناقض ! انتقل الى ثقوب أكبر حجما ً , فاتسعت لديه مساحة الزرائب , يتعين عليه ألا يطرق الأبواب , بل يدخلها ليلا ً مثل فأر ليتعرف على حقيقتها , وتحسبا ً من أن يعرفه أحد الساكنين غير ّ ملابسه وارتدى ملابس فقير .
الشخصية الدينية فرضت نفسها في الرواية العربية , ويرى الكاتب " سعد المطوع" أسباب التحولات التي تطرأ على شخصية المتدين في الرواية العربية راجع الى سببين : الأول : ان الشخصية الدينية في النص الروائي أرتبطت بالواقعية لذا جاءت انعكاسا ً للواقع بحسب ما يبنيه الروائي , أما السبب الثاني : فهو طبيعة العمل الروائي , إذ هناك ما يعرف بالشخصية النامية , الكاتبة وفاء عبدالرزاق لا تقدم شخصية التدين دفعة واحدة بل تجعلها تنمو من خلال النص ووفق منظومة زمان ومكان وتاريخ .
المتتبع لدورة الحياة يرى الأضواء مسلطة على جوانب محددة من حياة الناس دون الجوانب الأخرى , أهم الجوانب التي تم ابراز سلبياتها دون الإيجابيات شخصية المتدين , فقد شوهت صورته بشكل كبير , حتى خيل للمشاهد أن عامة المتدينين يتصفون بتلك الصفات السلبية , أن النفوس تتفاوت , هناك النفوس الطيبة التي لا تعمل إلا طيبا ً وخيرا ً , والنفس اللوامة وهي التي يقع صاحبها في المعصية ولكنها تلومه عليها , والنفس الأمارة بالسوء , وهي التي اعتاد صاحبها السوء , فلم يعد يثير فيه أي شعور بالندم والاستنكار , بل هو يعيش مع السوء , ويأمر بالسوء وقد اعتاده , بحيث أصبح لا يفعل إلا سيئا ً , ويستمتع بذلك السوء .
فتى ملتحي يعتمر عمامة , لم يظلمه أحد , كان كل الوعاظ مجتمعون فيه , يضع رأسه بين ركبتيه نادما ً على فعلته لائما الشيطان وغوايته , حدث " أمير" نفسه باحثا ً عن جواب , تحكمه غرائزه متحديا ً بتأثيرها عليه لحيته الطويلة وسجادته المهيأة للصلاة , لو لم يكن عاملا بسيطا في مصنع الجلود لاستطاع استكمال نصف دينه , لكن دينه يأبى أن يكتمل .. ظل " أنور " مختلفا عن ظل " أمير " بينما ظل " أمير " واضحا ً للباقين , ووجهه اكثر سوادا ً من وجه ظل " أنور " , الإ ان " أنور " كان رافضا ًلما يقوم به " أمير " لكنه في النهاية يستسلم لرغباته واكتشاف أسرار جسم جارتهم المومس ومفاتنها التي أثارت رجولتهم وسيطر عليهم شيطانهم. هذه النفوس أمّارة بالسوء , ظاهرها لا يشبه باطنها , فأية رحمة تاتي من نفوس مريضة ! فعملهما الحيواني خضع لنظام الغاب , كان الليل غابة وشيطانهما ذئبا غابة وخلوة حيوانية , تردد " شين " كيف يواجه الحياة الجديدة لهؤلاء ! هي فرصته في التعرف على هذا العالم الغريب , جاء من اجله , وها هو يقف موقف المتفرج , ربما هي أزمة ضمير أو ازمة موقف ! بل هي أزمات في حال اخترقت كل الأبواب .
تناولت الكاتبة وفاء عبدالرزاق العنف الجسدي واختراق حرمة جسد المرأة بالتحرش والإغتصاب حتى تصل في بعض الاحيان الى القتل وأزهاق الروح تتساءل الكاتبة وفاء عبدالرزاق , أليست الخطيئة كونية ؟ أبونا الأول وأمنا كانا صوت الحرية والتعبير عن الذات دون قيود , لذا أثمرت شجرة التفاح خطايا بعدد الحقول وبائعي التفاح وشاريها , أباح الرب لأدم وحواء الجنة , وقد تمكن الشيطان من إخراجهما من جو الحشمة والعفـّه والسمو الروحي , وبدأ الشيطان مشواره معهم , فرأى البشر في عريهم وفسادهم وعدم احتشامهم , وأنتقالهم الى جو الشهوة الفاضحة .
" بشرى " أو المرأة الشيطان والذي اطلق عليها هذا الأسم أغلب الجيران , لأنها تظهر فجأة ثم تختفي ولا يعرف أحد عن اختفائها , لانها تعيش وحدها , كانوا يرون شابة تشبهها تماما تدخل خلفها وترافقها أينما ذهبت , ذات يوم حين التقى الشيطان " أنور " بشيطان " أمير " اتفقا على الاقتراب من شيطانة " بشرى " والتعرف عليها , " بشرى " تكره كل رجل ملتح , وتحاول الإيقاع به وتقتله , سأل الشياطين الثلاثة " أنور , اسراء , أمير " الشيطانة بشرى عن سرها : ( دفء الحياة لم يعطها فرصة للبقاء معها حتى تكبر وتتربى بعز أسرتها , التي ابتلعتها حادثة سيارة مفخخة , مما جعل أصحاب المحلة يشفقون عليها وهي لمّا تزل في الخامسة من العمر , قرر إمام المسجد احتواءها وتربيتها مع أسرته في دارهم ) , لم تتركها الحياة تمتلك نفسها , منذ اللحظة الأولى لوعيها شعرت بشيء غريب يخترقها , يد الأب تغوص في احشائها بأصابعه في المرة الأولى , ثم استفحل الأمر حتى تعرفت على ما لا تعرفه بالضبط , إلا ان زوجته اكتشفت ذات يوم مداعبته الغريبة للطفلة " بشرى " فأقسمت ان تبلغ الشرطة عنه , توفى وهو ينازع مرضا عضالا ً.
" برهان " .. يعجن الألوان ويرسم وشما جميلا على الأيدي والاكتاف والصدور , يرسم ورودا وأشكالا هندسية غاية في الجمال , جاره " بشير " باكستاني الجنسية يعتبر الوشم حراما , ملأ محله بصور شيطانية , أحب هذا المحل الشياطين الأربعة ( أنور , أمير , اسراء , بشرى ) , اصبح برهان يرى الشذوذ منطقيا , تعرف على أحد المخرجين الكبار من صنّاع الأفلام , الكوكب لم يعد يحتمل الشياطين البشرية وبحاجة الى اللجوء لكواكب اخرى , ركز عمله على صناعة سينما التشويق والوجوه المشوهة والشيطانية , رفع " شين " بصره متفقدا وجه السماء لعله يجد بصفائه منقذا مما يرى , لم ير َ الصورة التي رسمها " الله " للبشر , كثرت الثقوب وعظمت , واكثرها قبحا اكل قلوب المذبوحين نيئة , أطفال القصور يرمون الحجارة على أطفال الفقراء , أرض تحرث بالكرباج , وتسقى بماء الكذب .
وقف " شين " , مد يده لدفع الباب ثم سحبها وكأنه يقبض على جمرة وليس مقبض باب , شيطان " توفيق " مربوط بقوة بحبل شيطانة حين صادق جارته " تغريد " , كلمات الغزل تنبثق من فمه كشعلة نار تحرقها وتحرق حياتها الهادئة الهانئة مع امرأة متزوجة ولها سبع بنات , يتحدث شيطان " أنور " بهمس ( صرنا تسعة وهذا عدد لا بأس به كي نكوّن مدينتنا الكبرى ) انه عالم مزيف , ومتى لا تستحي من الزيف افعل ما تشاء , مسرحا ًعاهرا ًوخائنا ً, وجوه مدربة على تغيير شكلها كما الحرباء , لم يتحمل " شين " منظر طفلين يغُتصبان من معتوهين تبرأت الضمائر منهما واستفحلت شياطينهما, في هذا الثقب بالذات , احتار ما سيكون عقاب الأخرة! وهل موت الطفلين حرية لهما من شرور البشر ! الأرواح لم تغط وجوهها خوفا من الشياطين , إنها تخلق فجوات جديدة ليس لها أثر وتتحصن بها , وإلا ما تفسير حادثة المرأة التي سرقوا بيتها وأرضها وبقيت متشبثة بشجرة زرعتها وهي طفلة أمام الدار .. هل الشجرة أعز ّ من الدار , أم كل هذا ما تبقى لها من حياة مسلوبة ؟
الغش ليس في الميزان وحده , بل الغش وصل لهيئة البشر , " ثريّة" ترغب باللعب مع إخوتها الثلاثة ولم تشته اللعب مع أختيها بالدمى , أغوتها كرة القدم بدل لعبة النط على الحبل , استهوتها لعبة خنق الضفادع قرب النهر , كان العنف الأول أسّريا ً ثم توسع فصار مجتمعيا ً , " ثورة " صديقتها منذ الأبتدائية وحتى التخرج من الجامعة , قررت تأجير شقة تحتويهما معا , لتمارسا كل طقوس الإنسانية المحقة لهما , شيطانتاهما سحاقيتان ايضا , الشبه بمن تشبّه به قرين .
العلاقة المثلية بين ( ثريّة وثورة ) تفتح لنا عوالم مغلقة وممنوعة الإشهار لانها تمس اكثر مكامن الوجع في روح الإنسان , السحاق وتعني اشتهاء المماثل بين الجنس الأنثوي , هناك من يذكر بأن الأسم مشتق من الجزيرة الإغريقية ( لسبوس اليونانية ) والتي كانت تعيش فيها الشاعرة ( سافوا ) في القرن السادس قبل الميلاد وقد كانت تمارس علاقات الحب مع مثيلاتها من النساء اليونانيات .
وقف " شين " في الصحراء يحدّث نفسه كمجنون أخرق بعد خروجه من الباب كممسوس مصاب بالهوس , سمع هرج ومرج وصراخ وعويل , الباب يهتز بقوة , لم ينظر من ثقبه إنما دفعه ليعرف ويختلط مع الآخرين في الداخل .
عملت الكاتبة وفاء عبدالرزاق على تقريب المسافة بين النص والواقع وتقديم صورا ً لسلوكيات وظواهر إجتماعية مازالت تمعن في قتل الروح وكما برز ذلك في موقف رجل الدين " جاسم " الذي يتذرع بالدين ليحقق مآربه المادية والجسدية ,
كيف يتجاوز الإنسان آدميته ويصبح شرسا ً؟ الطاعن والسكين أصدقاء , والضحية فتاة سقطت في وكر الجنس , " جاسم " كان يشتري الأفلام الممنوعة التي تباع سرا ً في محلات الفيديو , وبيعها بأثمان عالية لمن هم على شاكليه , أوقع صبية في فخ غرامه وعشقه لها , حتى تبادل العشق سعيا وراء تحقيق ساعته المجنونة , لقد تجاوز الإنسان حدود " شين " , تناقل الحي قصة " جميلة " المحرومة من النزهة والخروج من الدار حتى وصل الخبر الى " جاسم " , أصابه الفضول لمعرفتها ورؤية وجهها الممنوع من الجميع , سمع أن أخيها الصغير مصاب " بالصرع " ولم يفده الطب في استخراج الجنيّ منه , التحى " جاسم " بلحية صناعية , واشترى مسبحة وبعض كتب السحر والتنجيم وذهب الى عائلتها , لما احضروه , وجده في الخامسة من العمر , فهذا الصغير لا يدرك ما سيدور حوله , عندما يقرأ واضعا كفه على جبين الطفل ومرددا بعض الأسماء الغريبة , يصرخ الطفل فجأة خوفا من صوت الشيخ " جاسم " ويصرخ عاليا : أُ ُريد " جميلة " , متعلق بها لأنها تحبه حبا ً كبيرا ً أكثر حتى من امه , تحضر " جميلة " ويرى جمال وجهها على الرغم من تلحفها بالسواد الكامل , تكررت الخلوات والسهرات بحجة البقاء على الشغل , وبعد شهر اختفت " جميلة " ولم يبق غير شيطانتها وشيطان " جاسم " في المكان , من الطبيعي ان يفرح الشيطان " شين " انه مجّبر الآن على الانخراط باللعبة حتى نهايتها , الاعتداء الجنسي على الأطفال أمر منبوذ لا ينبغي التسامح معه, بعض الباحثين من المانيا يرون أن ( البيدوفيليا ) لها علاقة بالدماغ ويعانون من إزدواجية اضطراب السايكوباثية وأحيانا ً أضطراب الجنس , ويتصفون بالتمرد على القواعد الإجتماعية ويفتقدون لتأنيب الضمير وبأي احساس للتعاطف مع الآخر , كما يتصفون بالاندفاع واللامبالاة وعدم تقدير عواقب الاعتداء الجنسي على الأطفال .
هكذا إذا ً يا " شين " أنظر الى الأمور وأقترب منها , مجّد نفسك إنقاذا ً للأبدية , هذا هو العالم المتحضر الآن , العنف , والتنكر للأخلاق والبربرية المطلقة في كل السلوك , أنت لست في مملكة الوحوش , هنا التوحش النبيل , والحروب تغير وجهة نظر الإنسان للحياة .
أهمية جسد المرأة من منظور ذكوري , لتفريغ شهواتهم ونزواتهم وإرضاء ذواتهم المريضة دون مراعاة لمشاعر المرأة ورغباتها بلعبة الكلمات .
هاجرت من بلادها الى بلد آخر بحجة البحث عن الرزق , تبحث عن نفسها بين المدرّسات , بين شوارع وضفاف الأنهار , بين أضلع المغرّبين في ارضهم , وفي مراياها , اصيبت بدهشة حين عرفت أسم مديرة المدرسة " خاتون " ومعلمة اللغة العربية التي ستتقاسم واياها حصص اللغة " خلود " , " خليل " مالك البناية التي تسكن فيها " خولة " , قرر التقرب اليها وشهامته اقتضت التواصل معها , تكررت محاولات التوصيل للمدرسة , وتكررت معها الهدايا بمناسبة ودون مناسبة , تم كل شيء بسرعة , لم يترك لها مجالا للتفكير , وبلحظات صارت زوجة له , عرفت من باب الصدفة , له أسرة مكونة من ثلاث زوجات وأبناء بعدد زيجاته المتكررة , كلما وصلن الى الأربعة , طلّق واحدة , ليحق له الأستمرار في شرَه الزواج , وتحريف الدين على هواه وهوى جيبه المقتدر , يذهب للقرى يتزوج بنات الفقراء وهن لما يتجاوزن الحادية عشرة ويطلقهن بعد شهور , يرجعهن الى ذويهن خاليات من كل شيء , حصل مع " خولة " الحال ذاته , انتابها الشعور بالضياع , كل الآمال خائبة , وتتجاوز حدود حلمها , وكأن أيامها كانت على اتفاق مع اليأس .
مساكين هؤلاء البشر , محكومون بالقهر , يكدون ويتعبون , يغوصون في قعر أيامهم كما البحار الهائجة , ولا يملكون مفاتيح أبواب المستقبل , وهم مجرد وهم بهيئة إنسان , تأمل " شين " وجوه الجميع رآها ممسوحة , سرعان ما تبخرت فيها الملامح , وصارت مسطحة , تنزف حزن السنين , وتمشق سيوفها لتطعن نفسها , سمع صوت ذئبة عابرة , بدأ يراقبها وهي تدخل الباب الثامن يتبعها ذئب أسود اللون , ذئب آخر يتربص في كل الأشياء حوله ويدخل .
" دلال " شابة تزوجها مدير مدرسة , قبلت الزواج منه من أجل العيش الرغيد والحياة , هي بئر تفيض ماؤها , اما زوجها بئر نضبت ماؤها وصارت قاحلا , كان يعيش معهم ابن اخت المدير , شاب في مقتبل العمر , كلما غط ّ الزوج في نوم عميق , تتسلل " دلال " الى فراش ابن اخته , ويفعلا الفاحشة معا , ندم على فعلته ولم ينظر بعين خاله ولا بعين جدته , استأجر غرفة مع صديق له , بقى يومين وغادر البلاد , توفى الخال في حادث سيارة , عثروا في حقيبته على قلادة ذهبية واساور واوصلوها لزوجته الذئبة .
" دريد " متزوج بأمرة متزوجة قبله ولها ابنة صغيرة " دريّة " تعيش معها , رزق بثلاث بنات منها أيضا , فصار أسمه " ابو البنات " , كان يعاني من ألم في الركبة , فطلب من ابنة زوجته بدعكها بالدهان , شعر باناملها تخترق وجدانه وجسده , وهي في ريعان فورتها الأنثوية , ذات مرة وبعد اطمئنانه من خروج زوجته , تسلل الى غرفة " دريّة " وجامعها ثم خرج , بقى على وضعه هذا لسنة كاملة , والابنة تخاف إخبار والدتها , إنه القتل , قتل الطفولة والبراءة , " دريّة " زهقت براءتها بكل سهولة من مجرم ترك في اعماقها لقيطا ومنفى ً مظلما ً , لذا اقتادوه الى السجن , الشياطين جميعهم فرحين خلف الباب , لانه اضاف لهم شياطين آخرين , شيطان " دينا " واخوها الأصغر التي كانت تداعبه في الحمام , وحين بلغ الثالثة عشرة اخذت تتقرب اكثر منه وتجبره على الممارسة معها , وحين رفض هددته بأمه , لقد هزم الطفل بداخله وصار شيطانا , من الملام هنا ؟ , الأم بقسوتها وعقابها غير المنصف جعلت منه هاربا لفراش الأخت , التي استثمرت رجولته المبكرة , الكل هنا مجرم ..
يشير الدكتور ( جمال فرويز ) الى ان جرائم اغتصاب الآباء لابناءهم مرض نفسي ناجم بسبب التربية الخاطئة للأسرة منذ البداية وخلل في التنشئة الإجتماعية , وأن ظهور مثل تلك القضايا نابع من انحراف سلوكي ومرض نفسي وشخصية غير سوية ومضطربة , وأن المخدرات تعد ّ سببا ً رئيسيا ً وراء انتشار تلك الظاهرة المشينة , تتوالى الجرائم الإنسانية وتتضاعف حدتها وقسوتها , وباتت الأبوة عند البعض بلا معنى يُذكر , حيث التجرد من كل الأحاسيس والمشاعر الفطرية .
" ذياب " يهان من أبيه في اليوم عشرات المرات, هذا ما شاهده " شين" وأستغرب الحدث , " ذو النون " خمار ومرتش , وبائع حشيش, يمارس الطريق الأسهل للخنزير الذي يقطن روحه , أو لشيطانه الخنزير , كان يعتدي على ابنه جسديا ً بالضرب والمعاشرة , أي ذنب هذا ؟ كيف سمح له ضميره بمعاشرة ابنه ؟ لم تثنه الأبوة من بيع شرف ابنه وقبض من " ذاكر " سمسار الحشيش , من أجل المال يفعل المعجزات , ما الذي يجعل الإنسان أصلا ً ميالا للقتل والأنتقام ! لم يعد ذوالنون بائعا , فقد تحول الى مدمن بالأبر , حوّله ذاكر الى مدمن مستعد دفع ثمن إبرة الحشيش بأي طريقة ,(العرض يباع من أجل نشوة ) غرز الإبرة في وريده وسلم طفلته الى " ذاكر " فما كان من " ذياب " الا أن يصب ّ النفط على ابيه وعلى " ذاكر " ويتركهما يحترقان , " شين " الظامن الدائم , يرى نفسه فارسا ً , بينما يراه الآخرون موسوسا ً للنفوس , يوسوس للشر ذاته ليصبح ابنه الشرعي , مشى بطيئا ً ودخل بكل هدوء ولطف .
" شين " يكتشف عدة أماكن في مكان واحد , " رسول " أحد الهاربين من ذواتهم تأخذه الأمنيات لأكثر من أمنية , عندما حلم وتمنى مضاجعة أمه الجميلة , أمه الخائنة لأبيه , وعلى مرآى منه كانت تستقبل عشيقها في غياب الأب , جبان يحمل داخله جبانا , يقوده من يده ويذكره بما قام به في المقبرة , حين استدرج مراهقا مجنونا وهناك مارس معه التجربة الأولى له , ثم استدرج طفلة في السابعة ولحظة صراخها قتلها خنقا , واكمل دوره معها وهي ميتة , بصدره العاري خرج منه الشيطان الوقح المتسول باسم الثقافة , المتضرع للمسؤولين ليكرموه بجائزة مالية , يمسح بكرامته الأرض , " ثرية " لا تعرف ما الكتابة , يكتب لها سيرة إبداعية وينشر لها في الجريدة التي يعمل فيها مسؤولا للصفحة الثقافية , ينتظر مبلغا يكفيه للخمر والسجائر , طبع لها كتابا كتب اشعاره هو , واستلم الثمن سيارة فارهة , الشيطان المتسول فيه تستهويه اللعبة , ثلاثة شياطين بصدر " رسول " يتوالدون ويتكاثرون أبشع ما يتمناه لنفسه أن يصبح رئيسا للجريدة , دائما يقف " شين " محموما حيال مايراه , تصيبه رعدة قوية فيختض بدنه , أهي الجذور الأولى للجرم! جرب عدة مرات امتحان نفسه , وخرج بحصيلة الوهم .
ينتهي الرابط الجسدي بين الأم وابنها بقطع الحبل السري , ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة في العلاقة تعتمد على العاطفة والنفسيّة , لكن ماذا لو أستمر هذا التعلق بعد مرحلة البلوغ , يمكن للحب أن يكون تجربة قوية ومفقدة للإتزان , وتزيد الرغبة الجنسية في حالة نوبات الهوس , مما يؤدي الى فرط الجنس وهو ما يسمى ( الهوس الجنسي ) , يتملك منها شيطانها فتدفن مشاعر امومتها أسفل التراب , ولم تكتف بخيانة زوجها بل تسول لها نفسها أجبار ابنها على ممارسة الرذيلة معها .
المحقق يقرأ ملف " زهير " ويعرف تفاصيل القضية , لكن " زهير " من أجل سمعته ونفسه قرر البقاء صامتا , المحقق يعرف بأن الجثة المذبوحة في الشقة هي جثة أم " زهير " والسكين عليه بصمات اصابعه , اخذ المحقق يحقق في قضية آخرى أمام " زهير " ليعطيه الفرصة لكسر قيد الصمت , " زين العابدين " خبير حسابي في المحكمة , اغواه الشيطان حين راى المدُعّى عليه ثريا ً , فطلب من مبلغا كي يكتب التقرير لصالحه , كان يرغب بزيارة " بيت الله الحرام " لكن وضعه المادي لا يسمح بذلك , كان المدُعّى عليه سارق من الشركة مبالغ كبيرة وشريكه المشتكي كل الحق معه , اذا ً هي رشوة واعتراف بجريمة الزور , هل تظن ان النبي سيقبل حجتك بالزور والرشوة , قال له المحقق أنت ليس " زين العابدين " بل اسوأ العابدين .
رصدت الكاتبة وفاء عبدالرزاق التحولات النفسية للبشر وظهور عقدها , وبعض المتلازمات النفسية كعقدة أوديب , والمشاعر السادية , أو المازوشية معتمدة على أساليب التحليل النفسي .
نظر " زهير " بكل الجوانب كمن يبحث عن شيء مفقود , تحشرج صوته في بداية الأمر لكن الضابط شجعه على الكلام , همهم ثم صمت , كان أبوه مصابا بمرض السكر , وعاجزا جنسيا كليا , وأمه شابة بحاجة لمن يشبع جسدها , تعلقت بابنها تعويضا عما فقدته , ترضعه من ثدييها ويتلذذ لصوتها , تهدهد بأغان ٍ جميلة وتمسد جسده بأناملها الرقيقة , ويوما بعد يوم صارت تداعب عورته معها وتشجعه على ممارسة الفعل معها كل ليلة وتتأوه , لكن حين بلغ الثانية عشرة شعر بحاجته مثلها , تعلق بها ولم يستطع رد أي طلب لها , لكن ليلة الجريمة لم يقم برجولته , جذبته اليها بقوة , لكنه تردد كثيرا , وعى على وضعه الشاذ ورفض , لكنها أصرت بقوة واخذت تغريه , وبعد أن انتهى من فعلته ذهب الى المطبخ وسحب السكين وذبحها لا يدري كيف قام بذلك , كان في حالة انفصام تام عن ذاته .
كتب " شين " : ( اللذة الحيوانية هي التي اسقطت " نديم " من الجبل , يا لحيوانية الإنسان ! ) .
الهذا الحد يصير حقد الإنسان على أخيه الإنسان ؟ أبشع وجه للإنسانية , صورت الكاتبة وفاء عبدالرزاق الشيطان في روايتها " دولة شين " مهموما ً وحزينا ً فقد تفوق الإنسان عليه , وأصبح أقوى منه في الغواية وإبتداع المنكرات , شياطين البشر ( أنور , أمير , إسراء , بشرى , باسم , برهان , توفيق , ثرية , ثورة , ثابت , جاسم , جميلة , حنون , حازم , حاذق , حذام , حمزة , خولة , خليل , دلال , داود , درية , دينا , ذرى , ذياب , ذوالنون , ذاكر, رسول , زهير , زين العابدين , زهدي , سعيد , سمير ) .
رجع " شين " الى تيهه في الصحراء وجلس الى مرتفع رملي يعبىء يديه بالرمل وينثره في الهواء , مفكرا بحاله وما آل اليه من سوء واكتشاف حقائق لم يكن يعرفها , يهرب من التساؤلات , انه جبار أيضا , من يتحدى جبارا فهو جبار مثله .
دخل " شين " الباب ولم يعلم انه بيته , وجد فيه اثنين من أعوان " كريم " ضحكوا واكلوا بنهم بعض الأكل من اللحم والرز والفواكه والحلويات , إنها وجبة الأشرار , كما يقول المثل ( شعرة من جلد الخنزير حلال ) , تمدد الأثنان على الأرض , أخبرهم " شين " بأنه عازم على الرحيل الى الجبل , حيث القلعة , قضى ليلتين يطوف الجبل صعودا , لا يعرف لسيده قرار , ففي كل مرة له رأي , لذلك كلما استقر وهدأ راح يحدث نفسه , انهم ينتظرون عودته , سيتصفح الحياة وقتها ويعلن انتصاره , كيف نزل الى الأسفل بكل تحد وغضب في لحظات المطر والعاصفة , وحين حط ّ في صحراء قاحلة , كانت الأبواب غير موصدة , ولم يعرف لماذا وجد الأبواب مواربة بعض الشيء , لذا قرر اقتحامها ليعرف اهلها , صار يفكر بملاقاة " كريم " وأحبته , وكيف سيواجهه وما عساه سيقول له , وهو العارف بكل شيء , لكنه فكر قليلا : لِم َ كل هذا الألم إن كان عارفا ً! أهي لذته في آلامنا ؟ أمنحه البهجة مضاعفة حين نتألم ؟ ..
هكذا تقدم لنا الكاتبة وفاء عبدالرزاق في روايتها ( دولة شين ) عن انتهاكات لحقوق الإنسان,وتعتبر النساء والأطفال الذين يتعرضون أكثر من غيرهم للإعتداءات على حقوق الإنسان , وهم الإشخاص الأكثر معاناة من العنف الجنسي والقتل والقائم على نوع الجنس والتي تعتبر مشكلة خطيرة والتي يجب التصدي لها , إن ما يقلقها هو الهم الإنساني الكوني , فأغلب أعمالها تصب ّ في حالات الظلم والقهر والإستبداد والتشرد .
- رواية / دولة شين / وفاء عبدالرزاق / دار أفاتار للطباعة والنشر / القاهرة .
وسوم: العدد 930