الخاطرة ٢٨٧ : علم الجمال في نقد مسلسل كوفيد ٢٥
خواطر من الكون المجاور
عبر كثير من النقاد عن رأيهم في البرامج والمقالات عن مسلسل (كوفيد ٢٥) من بعض هذه الآراء أوافق عليها و بعضها أرفضها ، ولكن هنا سأحاول ذكر ما لم يذكره أي ناقد حتى الآن والذي يتعلق بعلم الجمال كونه هو القاعدة الأساسية في تقييم أي عمل فني .
تدور أحداث مسلسل كوفيد ٢٥ في عام ٢٠٢٥ ، ويحكي عن قصة الدكتور ياسين المصري (يوسف الشريف) طبيب جراح كان يترأس مجموعة طبية لتصنيع لقاحات للفيروسات الخطيرة، ولكنه هجر زوجته وأولاده وعمله كونه كان سببا في وفاة ابنه الذي أصيب بفيروس كورونا عن طريقه ،فأصبح يعمل كـ يوتيبر يوضح في مقاطع الفيديو التي ينشرها لجمهوره عن وجود فيروس منتشر يتلاعب بأعصاب المرضى ويجعلهم غير قادرين على استيعاب المؤثرات الخارجية . ولكن مع الأيام تتفاقم أعراض الوباء ويتحول المرضى إلى زومبي (الأموات الأحياء الذين يأكلون لحوم البشر ) فتنتشر الفوضى في المدن وفي جميع بلدان العالم. فيحاول الدكتور ياسين إنقاذ أفراد عائلته ومجموعة من الناس كانت معه في المستشفى ، و أثناء ذلك يحاول إيجاد علاج لهذا الوباء الخطير .
إذا نظرنا نظرة مشاهد عادي إلى حلقات المسلسل ، سنجد أن أحداثه مشوقة ومترابطة مع بعضها البعض بحيث تجعل المشاهدين يتابعون الأحداث دون أي شعور بالملل كونه لا يحوي على أي حدث ثانوي (حشوة) مثل تلك الأحداث التي تملأ المسلسلات الاخرى والتي هدفها فقط تطويل زمن وعدد الحلقات . فكل حدث في مسلسل (كوفيد ٢٥) له مكانه الحقيقي في تسلسل الأحداث ، والمُشاهد يشعر وكأنه يتابع فيلم أمريكي وليس حلقة من مسلسل مصري ، حيث تقنية برامج المؤثرات البصرية تم استخدامها بشكل متقن لتجعل مشاهد الأحداث تبدو وكأنها أحداث حقيقية كسقوط الطائرة -مثلا- في نهاية الحلقة (٣) . وبشكل عام -كنظرة مشاهد عادي- نستطيع أن نقول أن جميع طاقم المسلسل قد قدموا أفضل ما لديهم ليظهر المسلسل بمستوى جيد .
ولكن الموضوع ليس بهذه البساطة التي نتكلم عنها ، فنحن هنا نتكلم عن عمل فني وليس عن سيرك حتى نقيمه بهذه النظرة السطحية ، فهذا المسلسل هو من النوع (عمل فني) ومعظم الذين ساهموا في تنفيذ هذا المسلسل يمارسون مهنة أسمها (الفن) ، من مخرج وممثلين وكاتب القصة والسيناريو والمصور وغيرهم ... وأي عمل فني مهما كان سيؤثر في نفوس المشاهدين وسيكون له تأثير إيجابي أو سلبي على سلوك أفراد المجتمع . فحتى يكون العمل عمل فني يجب أن يحمل رسالة في مضمونه بحيث تدخل في نفوس المشاهدين وتساهم في تقدم وإزدهار المجتمع ، وحتى وإن كان هدف العمل هو التسلية والمتعة فقط فأيضا يجب عليه أن يعرض الأحداث بطريقة صحيحة يحافظ فيها على الذوق الإنساني كي لا يؤثر سلبيا على الصفات الإنسانية في المجتمع . وللأسف مسلسل (كوفيد ٢٥) ليس فقط أنه لم يقدم أي رسالة أو شيء إنساني نافع في شهر رمضان بل على العكس فهو تسبب في تشويه ذوق المشاهدين حيث أعطى صورة شريرة عن التكوين الإنساني ، كيف!؟
حتى يتم توضيح هذه الفكرة بشكل أفضل لابد أن نسهب ببعض التفصيل الذي يتعلق بهذا المسلسل :
هناك معلومة هامة يجب فهمها لنستطيع متابعة شرح موضوعنا، إذا ما تم التركيز في تلك الأعمال الفنية التاريخية التي ساهمت في إزدهار الحضارات عبر التاريخ سنجد أنه بالرغم من أن صانعيها كانوا رجالا ، ولكن الفكر الذي تم به صنع تلك التحف الفنية الجميلة كان يعتمد على فهم التعبير الروحي للأشياء والأحداث وهذا الفهم ينبع أصله من فكر أنثوي نقي ، لأن الفن بالأساس هو تعبير روحي والمرأة هي رمز الرؤية الروحية في المجتمع . فحتى يكون الإنسان فنانا يجب أن تكون لديه المقدرة على رؤية الأشياء والأحداث برؤية روحية ،فهذه الرؤية هي التي تقوم بتنقية ما تراه العين من جميع الشوائب لتظهر الأشياء والأحداث بشكلها النقي فيستطيع الإنسان فهم حقيقة هذه الأشياء وهذه الأحداث ونوعية تأثيرها في تطور التكوين الروحي للإنسانية . وأفضل مثال على أولئك الفنانيين هو الفنان (ليوناردو دافينشي) والذي يُعتبر من أكبر الفنانين في تاريخ البشرية ، وهو أيضا من أكبر مؤسسي حضارة عصر النهضة الأوروبية.
كما هو معروف عن مسلسل (كوفيد ٢٥) أن الممثل يوسف الشريف هو صاحب فكرة المسلسل ، وأن زوجته إنجي علاء هي التي قامت بتأليف قصة المسلسل بناء على هذه الفكرة . فيوسف الشريف (كفكر ذكوري) شعر بمدى تأثير ظهور وباء كورونا على تغيير سلوك المجتمعات الإنسانية ، فأراد أن يستغل موضوع الوباء كأسم ليُحَّوله إلى وباء آخر تجعل المصابين به يتحولون إلى زومبي ، ذلك المرض الخرافي الذي تم عليه صناعة العديد من الافلام ومسلسلات الرعب والتي لاقت إعجاب الجماهير حول العالم . مثل هذه النوعية من المواضيع هي غير مناسبة نهائيا لتكون مسلسل يعرض في شهر رمضان ، فكان من واجب انجي علاء (كفكر أنثوي) أن تجد حلا لهذا التناقض بحيث يُحدث نوع من التناغم في بناء أحداث القصة بشكل يساهم في تقوية الروابط الإنسانية بين أفراد المجتمع من خلال التركيز على العواطف الإنسانية والمبادئ السامية لتنمي في المُشاهد شعوره بإنسانيته ككائن روحي إجتماعي . ولكن الذي حصل في المسلسل أنه بدلا من تحقيق هذا الهدف تحول إلى مجرد محاولة في تنسيق أحداث المسلسل وشخصياتها لتسير بما يوافق منهج الفكر الذكوري وليس الفكر الأنثوي. حيث نجد أن الفكر الذكوري حاول التركيز على أحداث العنف والرعب ، أما الفكر الأنثوي فحاول التركيز على أحداث الدراما الإجتماعية . فرغم أن مؤلف القصة هي إمرأة وكانت مشاهد الدراما الإجتماعية تُشكل تقريبا ٧٠% من مشاهد المسلسل ، ومع ذلك ذلك نجد أن مشاهد الدراما الإجتماعية لم تتم صياغتها بفكر أنثوي نقي يلم شمل أفراد المجتمع ، ولكن تم صياغتها بفكر ذكوري ساهم في تطور الأحداث بنفس الجهة التي يسير عليها تطور الوباء وهو التدمير وخلق الفوضى ، ولهذا فشل المسلسل كمسلسل رمضاني وكذلك كعمل فني يساهم في تقديم رسالة حضارية للمشاهدين .
المشكلة في المسلسل أن المؤلفة أنجي علاء لم تبذل مجهود كبير في خلق أحداث جديدة لتبني عليها موضوع القصة الرئيسي ، فهي حاولت تقليد الأفلام الأمريكية والتي معظمها -وخاصة الأفلام الأخيرة- تقع تحت سيطرة الفكر الذكوري ولهذا نجد أن هذه الأفلام تعتمد بشكل كبير جدا على استخدام تقنية المؤثرات البصرية في جذب الجمهور ، ولهذا تعتبر هذه النوعية من الأفلام هي السبب الأول في الإنحطاط الروحي الذي تعاني منه الإنسانية اليوم لأنها خالية تماما من العواطف الإنسانية . ومؤلفة مسلسل (كوفيد ٢٥) أتبعت نفس الأسلوب الأمريكي في بناء الدراما الإجتماعية لأحداث المسلسل . لهذا نجد أن مشاهد الدراما الإجتماعية في المسلسل يعالج الأمور بشكل عقلاني مادي وليس بشكل فطري عاطفي . حيث نجد -مثلا- أن المشكلة التي فككت عائلة الدكتور ياسين وتسببت في طلاق ياسين وزوجته ، كان سببها غيرة الطبيب سيف (إدوارد) من ياسين . أيضا نجد أن شقيقة الطبيب سيف (رحاب عرفة) التي تخفي في داخلها حبها للدكتور ياسين وكان لديها أمل الارتباط به ، فعندما تراه يريد العودة إلى زوجته تحاول أن تقضي عليه وعلى عائلته ... و مشاهد آخرى كثيرة بنفس النوعية مثل : فتاة متزوجة (ميرنا نور الدين) تحاول القيام بعملية إجهاض كونها حامل من رجل آخر غير زوجها ، فيعلم الزوج بالأمر فيقوم بقتلها . و فتاة أخرى تعاني من مشاكل نفسية بسبب الكراهية بين أمها وأبيها والذي دفعها إلى الإدمان على المخدرات ، فنجد هذه الفتاة تقتل أمها في مشاجرة تحدث بينهما .... سامح (محمد عادل) زميل صديقة زوجة ياسين الذي يعمل معها في شركة صناعة اللقاحات يقتل زميلته ليمنعها من كشف علاقة شركته في نشر الفيروس ..... طفل بعمر /١٢/ عام تقريبا يصاب بالوباء ويتحول إلى زومبي فيقوم بقتل والده ...... موضوع المسلسل بأكمله يعتمد على نظرية المؤامرة في نشر الفيروس ، ونظرية المؤامرة تعني أن هناك بشر أشرار يريدون الإساءة للآخرين من أجل مصالحهم الشخصية .... أنجي علاء مؤلفة القصة جعلت معظم شخصيات المسلسل شخصيات شريرة فقط لتقول لنا في نهاية المسلسل بأن الناس في الواقع اصبحوا اليوم كائنات شريرة مثلهم مثل مرضى (كوفيد ٢٥) الذين يتحولون إلى كائنات متوحشة تأكل لحوم البشر . فللأسف فحتى المشاهد الدرامية كانت معظمها مشاهد أعمال الشر ، فرغم أن المسلسل يُعرض في شهر رمضان ويتكلم عن كارثة إنسانية (وباء) لكننا لا نجد أي مشهد مؤثر يُحرك العواطف الإنسانية في المشاهدين ، فرغم وجود بعض المشاهد من هذه النوعية في المسلسل ولكنها مرت على المشاهد دون أن يتفاعل معها عاطفيا ، فنجد الممثل يبكي وتسيل دموعه ولكن لا أحد من المشاهدين يتعاطف معه لأن المشهد مكتوب بفكر ذكوري مادي وليس فكر إنثوي روحي .
المؤلفة أنجي علاء للأسف لم تبذل مجهود كبير في تأليف قصة بأحداث جديدة ، ولكنها - بقصد أو دون قصد - أخذت بعض الأحداث من عدة أفلام شهيرة وأهمها فيلم حرب زومبي العالمية ( World War Z) وكذلك الفيلم الكوري قطار إلى بوسان (Train to Busan) . وجمعتها معا في قصة واحدة . فمثلا مشهد إنتقال العدوى في الطيارة وسقوطها (في الحلقة الثالثة) مشابهة تماما لمشهد الطيارة في فيلم حرب الزومبي العالمية ، وكذلك شخصية رامي (أحمد صلاح حسني) الذي يحاول مساعدة الدكتور ياسين في إنقاذ حياة أفراد المجموعة وكذلك تضحيته في حادثة القطار من أجل إنقاذهم مشابهة كثيرا لدور زوج المرأة الحامل في فيلم قطار إلى بوسان . وهناك مشاهد أخرى في المسلسل مأخوذة من الفيلمين ويمكن العوده إليهما للتأكد من هذا التشابه .
المشكلة الكبرى في مسلسل (كوفيد ٢٥) ليس أن المؤلفة أنجي علاء قد إقتبست من الفيلمين الأمريكي والكوري ، ولكن المشكلة أنها اتبعت أسلوب الفيلم الأمريكي في بناء الدراما الإجتماعية في المسلسل ، فالفيلم الأمريكي كان إنتاجه بتكلفة ضخمة جدا لهذا كانت معظم أحداثه فيها إثارة عالية لأعصاب المشاهدين ، ولكن رغم ذلك فهذا الفيلم لا يُعتبر عمل فني فنوعية الإبداع فيه مشابه للإبداع في عمل سيرك ولا علاقة له في الإبداع الفني ، فهو فيلم هدفه فقط التشويق والإثارة ولا يقدم أي رسالة حضارية. ولكن مسلسل (كوفيد ٢٥) تم عرضه في شهر رمضان لهذا وجب على المؤلفة أنجي علاء كونها إمرأة أن تتبع أسلوب فيلم (قطار إلى بوسان) . فرغم أني لا أنصح أحد برؤية أي فيلم من أفلام (زومبي) لأنها أفلام مضادة للفن وتساهم في تشويه الذوق الإنساني . ولكن الفيلم الكوري (قطار إلى بوسان) بالنسبة لي هو أفضل فيلم زومبي ظهر في تاريخ السينما العالمية. فحتى نفهم حقيقة معنى (عمل فني) ودوره في تقديم رسالة حضارية للمجتمع ، يجب مقارنة مسلسل (كوفيد٢٥) مع فيلم (قطار إلى بوسان) ، فرغم أن مؤلف قصة فيلم (قطار إلى بوسان) هو رجل ، ولكنه أثبت أن رؤيته لموضوع الفيلم كانت روحية (أنثوية) أقوى بكثير من رؤية أنجي علاء رغم كونها إمرأة .
فأول خطأ في مسلسل (كوفيد ٢٥) أنه استخدام أطفال في مشاهد الفيلم وعددهم سبعة ، وأحد هؤلاء يتحول إلى زومبي ويقوم بقتل أبيه بطريقة وحشية . إن استخدام أطفال في مثل هذا النوع من أفلام العنف والرعب هو جريمة في حق الفن وحق الأطفال . لأن هذا النوع من الأفلام يُعتبر من الأفلام الممنوع عرضها على الأطفال لأنها ستشوه الهوية الحقيقية للتكوين الإنساني في عقلهم الباطني ، وكذلك فإن تحويل طفل إلى وحش قاتل سيؤدي إلى تشويه الصورة البريئة للطفولة في نفوس المشاهدين . الأطفال في مسلسل كوفيد ٢٥ كان دورهم ثانوي في التأثير على مجرى الأحداث ، فكان وجودهم في المسلسل فقط لإحداث تنويع في الشخصيات والأحداث . ولكن الأطفال هم رمز لمستقبل الإنسانية فوجود مشهد طفل يتحول إلى وحش قاتل يعني أن الإنسانية تسير نحو مستقبل همجي وحشي وهذا النوع من التنبؤ هو رسالة مضادة لرسالة الفن ، لأن دور الفن هو تنمية المبادئ السامية والأخلاق الحميدة ليدفع الإنسانية في المستقبل نحو الكمال .
فيلم (قطار إلى بوسان) حاول تجنب جميع تلك الأخطاء ، ففي جميع مشاهد الفيلم لا نجد أي وجود لأي طفل ، سوى طفلة واحدة وهي التي تقوم بالبطولة الأولى للفيلم في الأحداث الدرامية ، وكأن الفيلم بأكمله قد تم كتابة أحداثه من أجل هذه الطفلة بالذات كونها ترمز إلى مستقبل الإنسانية . وهذه الطفلة أبدعت في تمثيل دورها بحيث جعلت الإحساس الإنساني في المشاهدين يستيقظ ليتعاطفوا معها ويشاركوا شعورها لتتغلب مشاهد الدراما في نفوس المشاهدين على مشاهد العنف الوحشية والتي من الممكن أن تجعلهم يشعرون بإحتقار للتكوين الإنساني . فرغم أني شاهدت هذا الفيلم قبل عامين تقريبا ولكنني لا أذكر منه سوى مشاهد هذه الطفلة . وهذا هو دور الفنان الحقيقي حيث استطاع كاتب القصة والمخرج وضع هذه الطفلة في المنطقة الذهبية للعمل الفني الذي صنعه كي تبقى هي فقط في العقل الباطني للمشاهد بعد نهاية الفيلم أما المشاهد الوحشية فهي ستختفي من الذاكرة بعد أيام قليلة . فنجاح هذا الفيلم كعمل فني جماعي أنه وضع في هذه الطفلة الرسالة الحضارية التي أراد أن تذهب من هذا الفيلم لتدخل نفوس المشاهدين .
أما مسلسل (كوفيد ٢٥) فقد فعل العكس تماما ، فأكثر صورة أذكرها من هذا المسلسل هو مشهد الطفل وهو يقتل والده بوحشية .
إذا تمعنا في مسلسل (كوفيد ٢٥) سنشعر أن علاقة بدايته مع أحداث حبكته ونهايته بأنها علاقة شبه عشوائية لا معنى لها في تحديد نوعية الرسالة التي يحملها . أما في فيلم (قطار إلى بوسان) فنجد أن العلاقة بين البداية والحبكة والنهاية كانت مترابطة ومنسجمة مع بعضها البعض بدقة عالية لتستطيع الرسالة الحضارية أن تدخل نفوس المشاهدين وبشكل لا إرادي. فالفيلم يبدأ بحادثة نرى فيها غزال صغير يتحول إلى حيوان مفترس بسبب الوباء . الغزال هو حيوان عاشب محب للسلام ، وهو رمز القسم الأنثوي في المجتمع الإنساني . الفيروس يظهر في مجتمع يعاني من سيطرة الفكر الذكوري حيث يُعطي الأولوية للنواحي المادية والمصلحة الشخصية ويهمل تماما العواطف الإنسانية والشعور بالآخرين ، فتكون نتيجة هذا الإنهيار الأخلاقي ظهور الفيروس الذي يُحَّول المصابين به إلى زومبي (الأحياء الأموات) الذي يأكلون لحوم البشر . والد الطفلة بسبب إهمال عائلته وإهتمامه الشديد بعمله كونه رجل أعمال ، دفع زوجته إلى الإنفصال عنه ، فعاشت الطفلة مع أبيها وليس مع أمها لأن أبيها يمثل رمز المجتمع الحديث الذي يعاني من إنحطاط روحي والذي يدفع الإنسان إلى الإهتمام بنفسه فقط . هذا الإنحطاط الروحي للمجتمع يجعل الطفلة تشعر وكأنها تعيش مأساة ، فتطلب الطفلة من أبيها أن يسمح لها بزيارة أمها في مدينة بوسان ، وبعد إلحاح شديد من الطفلة يضطر والدها في تنفيذ طلبها ، فيركب القطار معها وهنا تبدأ ظهور أعراض الفيروس على البشر حيث يتحول المرضى إلى كائنات زومبي المتوحشة ، الفيروس هنا هو رمز لجميع تلك القوى التي تسببت في الإنحطاط الروحي والتي تحاول أن تمنع قوى الخير في المجتمع في تغيير هذا الوضع الروحي . مدينة بوسان التي تعيش فيها أم الطفلة هي رمز المجتمع الأنثوي وهي المدينة الوحيدة الآمنة التي لم يدخلها الفيروس ، ولهذا نجد أن قسم كبير من شخصيات ركاب القطار يمثلون رمز قوى روح الخير حيث يتعاونون مع بعضهم البعض في الدفاع عن أنفسهم ضد هذا الفيروس ، فنجد أنواع عديدة من العلاقات الإنسانية : علاقة حب ، علاقة صداقة ، علاقة أخوة ، علاقة أبوية ، علاقة الإحساس بالناس المساكين .....إلخ . والد الطفلة في البداية كان همه فقط إنقاذ طفلته ، ولكنه عندما يرى هؤلاء كيف يدافعون عن بعضهم البعض بروح واحدة هدفها إنقاذ الجميع ، عندها يتخلى الأب عن أنانيته وينضم إليهم ويبدأ بالدفاع معهم بروح واحدة من أجل إنقاذ الجميع . الأحداث تستمر وفي كل حادثة نجد أحدهم يضحي بنفسه من أجل الآخرين ، حتى الأب الذي في البداية كان لا يهمه سوى نفسه وطفلته نجده في نهاية الفيلم هو أيضا يضحي بنفسه ليس فقط لإنقاذ طفلته ولكن لإنقاذ ما تبقى معه أيضا . وفي النهاية عندما يصل القطار إلى مدينة بوسان الآمنة ، نجد القطار يحمل من الناجين شخصين فقط ، الطفلة وإمرأة حامل . في هذه النهاية تكمن قمة الإبداع الفني في إظهار تلك الرسالة التي يحملها هذا الفيلم إلى المشاهدين ، والتي معناها بأن الفكر الذكوري البحت هو الذي شوه التكوين الإنساني وحَّول البشر إلى كائنات متوحشة ، لهذا كان الجنين في أحشاء المرأة الحامل ذكر ليكتمل معنى الرسالة ، فالقانون الكوني يقول بأن الإنسانية لن تسير إلى الأمام إلا عندما يكون الفكر المادي (ورمزه الجنين الذكر) تحت سيطرة الفكر الروحي (والذي رمزه الطفلة والمرأة الحامل) . هذا القانون الكوني مذكور في الحديث الشريف (الجنة تحت أقدام الأمهات ) . الفيلم يبدأ بتحول غزال صغير إلى حيوان مفترس ، ولكن نهايته تعرض إنتصار الطفلة والجنين ، بمعنى أن الحيوانات يمكن لروح السوء العالمية أن تفعل بها ما تشاء ولكن الإنسانية قد تواجه بعض الصعوبات في طريقها ولكنها ستبقى هي المنتصرة ومهما حاولت روح السوء العالمية ستتابع الإنسانية تطورها نحو الكمال .
المُشاهد عادة لا يستطيع عقليا فهم هذه الرسالة التي يقدمها فيلم (قطار إلى بوسان) ولكن كونه عمل فني ناجح فالتعبير الروحي في لقطات ومشاهد الفيلم ستجعل العقل الباطني للمُشاهد أن يفهمها ويتقبلها لتدفعه إلى تحسين سلوكه دون أن يدري ، فهناك الكثير من المشاهد المؤثرة التي تحرك مشاعر المشاهد وتجعله غصبا عنه بأن يتفاعل معها ، وخاصة أن الطفلة أدت دورها وكأنها ممثلة محترفة لها خبرة طويلة في التمثيل .
فيلم (قطار إلى بوسان) رغم أنه فيلم من إنتاج كوريا الجنوبية ، ومع ذلك حقق نجاحا عالميا كونه استطاع أن يدخل إلى النفس البشرية ويداعب ذلك الشيء المسمى (الضمير الإنساني) ، ولهذا تقبلته جميع شعوب العالم لأنها كانت محتاجه لمثل هذا النوع من المشاعر الإنسانية في عصر يعاني من إنحطاط روحي . أما مسلسل (كوفيد ٢٥) فلن تتقبله سوى الشعوب العربية لأنه مسلسل عربي ولا يحوي على أي شيء جديد يفرض على الشعوب الأخرى التعاطف معه فهو مجرد مسلسل زومبي بنوعية من الدرجة الثانية .
يجب أن تعلم شركات الإنتاج السينمائية والتلفزيونية العربية بأنها إذا أرادت أعمالها أن تنتشر عالميا يجب عليها إضافة الإحساس الروحي في أفلامها ومسلسلاتها ، فالأفلام الأمريكية أصبحت فقيرة بهذه الأحاسيس لهذا تلجأ إلى تطوير المؤثرات البصرية لتقدم شيء جديد يجذب المشاهدين . ولكن في عصر تعاني الإنسانية من إنحطاط روحي فإن جميع شعوب العالم اليوم بحاجة ماسة للأحاسيس الروحية التي تجعلها تشعر بإنسانيتها ، لهذا فإن محاولة تقليد الأفلام الأمريكية بشكل أعمى سيجعل من الأفلام والمسلسلات العربية وكأنها أعمال من الدرجة الثانية أو الثالثة ولن تتقبلها شعوب العالم . ولكن إضافة الأحاسيس الروحية بجانب إستخدام التقنية الحديثة سيفتح الطريق أمامها إلى شعوب العالم ، فمهما حاولت روح السوء العالمية تغيير ذوق المشاهدين سيبقى بداخل كل مُشاهد إنسان يحن إلى إنسانيته . فكما يقول الفيلسوف سقراط :
(لا يوجد إنسان يريد فعل السوء لو كان يعلم فعل الخير) .
وسوم: العدد 931