الخاطرة ٢٩٠ : علم الجمال في نقد مسلسل - الطاووس -
خواطر من الكون المجاور
مسلسل الطاووس يُعتبر من مسلسلات رمضان المظلومة ، فرغم أنه قد لاقى نجاحا في نسبة عدد المشاهدات في الوطن العربي رغم قلة تكلفة انتاجه بمقارنته بالتكاليف الضخمة للمسلسلات الأخرى (نسل الأغراب ، موسى ، كوفيد ٢٥... وغيرها ) ، ولكن رغم ذلك لم يأخذ حقه ومساحته التي يستحقها في آراء النقاد ووسائل الإعلام أو مواقع التواصل الإجتماعي. فمثلا في البرنامج التلفزيوني الذي يقدمه الإعلامي أحمد سالم - في الحلقة ٣- من دراما رمضان ، فبدلا من أن يأخذ المسلسل الناجح فترة زمنية أطول للحديث عنه نجد حدوث عكس ذلك . فالمدة الزمنية التي تم تخصيصها للحديث عن مسلسل الطاووس كانت أقل من /٧/ دقائق ، في حين أن المسلسلات التي أكد عليها النقاد بأنها فشلت رغم تكاليف إنتاجها الضخمة ، كانت المدة الزمنية لها تعادل نصف ساعة تقريبا . فرغم أن المدة الزمنية كانت قصيرة جدا للحديث عن سبب نجاح مسلسل الطاووس ، ولكن أيضا تم تضييع الوقت في أشياء تافهة جدا لا علاقة لها بموضوع النقد الفني لا من قريب ولا من بعيد . فكانت الملاحظات التي تطرق إليها النقاد في نقد المسلسل تنحصر في نقطتين ، الأولى هي هل من مسموح عرض مسلسل موضوعه يتناول قضية لا تزال تحت التحقيق ، وقصدهم قضية فندق فيرمونت . والسؤال هنا ما علاقة هذا الموضوع في نقد عمل فني ؟ فهذا الموضوع من اختصاص رجال القانون وليس من اختصاص نقاد الفن . فالمسلسل يتحدث عن مشكلة هامة من مشاكل المجتمع وقد تم انتاجه لتشاهده جميع شعوب الوطن العربي التي لا تعلم شيئا عن قضيه فندق فيرمونت التي حدثت في مصر ، فكما ذكرنا قبل قليل هذا الموضوع هو موضوع قضائي بحت ، فطالما أن لجنة المجلس الأعلى للإعلام في مصر كانت قد منحت الموافقة على عرض المسلسل ، فأين المشكلة ؟ أما النقطة الثانية التي اهتم بها النقاد فهي مشكلة الممثل جمال سليمان مع اللهجة المصرية ، أيضا هذا الموضوع هو خارج مجال النقد الفني لنفس الأسباب التي ذكرناها عن النقطة الأولى . فالمسلسل موجه لجميع شعوب الوطن العربي وليس للشعب المصري فقط ، ومعظم مشاهدي الوطن العربي لن ينتبهوا للأخطاء في اللهجة المصرية التي يقع بها الممثل ، فهذه النوعية من الأخطاء لا تُفسد العمل الدرامي ويمكن غض النظر عنها فنحن هنا نتكلم عن أخطاء في لهجة عربية وليس في أخطاء اللغة العربية الفصحى التي من الممكن لها أن تشوه هوية اللغة العربية .
للأسف كل ما قيل من نقد في هذا البرنامج عن مسلسل الطاووس لم يقدم أي معلومة نافعة تسمح لمشاهد البرنامج تنمية ثقافته الفنية كي يستطيع أن يحكم ويقّيم مستوى الأعمال الفنية ليساهم بدوره كمشاهد في دعم الأعمال الفنية الجيدة وإهمال الأعمال الرديئة ، وكذلك لم تفيد الفنانيين أيضا في تصحيح أخطائهم . وما أزعجني بشدة في هذا البرنامج هي آراء الدكتور محمد هاني استشاري الطب النفسي . فبدلا من أن تساهم آرائه في تصحيح النقص الذي حصل في آراء النقاد كونه متخصص بالطب النفسي وذو خبرة في فهم نوعية وطريقة تأثير المعلومات السمعية والبصرية على نفوس المشاهدين وعلى سلوكهم اليومي ، نجده يقول عن مشهد الإغتصاب في المسلسل : ( المشهد كان مؤلم في المسلسل ، وانا كنت بتفرج وكان ابني جنبي عمره /١٠/ سنين سألني هم بيعملوا أيه . أنا طفيت التلفزيون وما عرفتش أرد عليه . فقلتلو أنه هم بيزعجوها .... ) . عندما سمعت هذا الكلام من دكتور متخصص في الطب النفسي تفاجئت وشعرت عندها وكأن جميع المشاركين في البرنامج كان هدفهم الحقيقي هو الإساءة للمسلسل لكي يمنعوا الذين لم يشاهدوا المسلسل من مشاهدته . فما قاله الطبيب النفسي - حسب إستنتاجاتي - إما أنه يكذب وأن هذه الحادثة التي ذكرها هي من محض خياله ولم تحدث في الواقع ، أو أنه طبيب نفسي فاشل وأيضا أب فاشل . فهو كاذب - كإحتمال أول - لأن مخرج المسلسل قد أنهى الحلقة قبل أن تبدأ عملية الإغتصاب ، أما الحلقة التي بعدها فتبدأ في اليوم التالي من ليلة الإغتصاب ، بمعنى آخر أنه لا يوجد أي مشهد إغتصاب في المسلسل في جميع حلقاته ، فأين ذلك المشهد المؤلم الذي شاهده ابن الدكتور والذي دفعه فضوله في أن يسأل والده ذلك السؤال المحرج . أما الإحتمال الثاني فإذا كان حقا الطفل بجانب والده الدكتور يشاهد معه المسلسل ، فالمخرج قام بعمله على أفضل ما يكون فقد وضع الأحداث بطريقة يفهمها الكبار فقط بأن الشباب الأربعة يخططون لإغتصاب الفتاة قبل حدوث عملية الإغتصاب بحوالي خمسة دقائق . طوال هذه الدقائق الخمسة لماذا لم يكلف الدكتور نفسه بإطفاء التلفزيون مثلا! فالأمور واضحة جدا ولا تحتاج لأي ذكاء ليفهم الكبار ما سيحصل بعد خديعة دس المخدر في الشراب التي قام بها هؤلاء الشباب . وهذا الطبيب النفسي أيضا هو أب فاشل لأن سلوك ابنه ليس طبيعيا ، فالطفل الطبيعي نفسيا بعمر /١٠/ سنوات لن يستطيع متابعة مشاهد من نوعية مشاهد مسلسل الطاووس ، والسبب هي براعة المخرج في أسلوب عرض مشاهد ولقطات المسلسل . فهو قد اختار أسلوب ممل جدا للأطفال وغير مفهوم لهم في جميع مشاهد المسلسل ، وأي طفل طبيعي نفسيا سينفر من متابعة مشاهدة الحلقة بعد مرور أقل من خمس دقائق من بداية الحلقة لأن أحداثه خالية تماما من أي متعة تجذب الأطفال لمتابعته . فـ بمثل هذا السن كنا أنا وأصدقائي الأطفال نشعر بأن أفلام فاتن حمامة -مثلا- مملة جدا وكنا نتوقف من مشاهدتها من الدقائق الأولى لكونها دراما إجتماعية من عالم الكبار الذي لا نفهمه ولا يقدم لنا أي متعة . هكذا سيتصرف كل طفل طبيعي نفسيا . فالمشكلة هنا أن الطبيب النفسي بدلا من أن يمدح براعة المخرج في أسلوب اخراجه للمسلسل الذي موضوعه يخص الكبار فقط ، لكي يتبع أسلوبه أيضا بقية المخرجين ، نجده قد شوه حقيقة المسلسل وأساء إلى المخرج أيضا .
الناقد الفني يجب أن يكون فيلسوفا يملك رؤية شاملة يستطيع بها فهم إيجابيات وسلبيات العمل الفني ليشرحها وليبين للفنانين وللمشاهدين نتيجة هذه الأعمال وتأثيرها على سلوك أفراد المجتمع اليومي والذي سيدفع المجتمع بأكمله نحو الأرقى أو نحو الأنهيار . ولكن جميع النقاد الذين تحدثوا عن المسلسلات في برنامج المواجهة مع النفس ، ورغم أنهم من أشهر نقاد مصر ، للأسف كانوا جميعهم يجهلون تماما الأسس العامة للنقد الفني . فبسبب أمثال هؤلاء النقاد وكذلك بسبب هذه النوعية الرديئة في النقد الفني أصبح اليوم فن البلطجة هو الأعلى في نسبة عدد المشاهدات والأكثر ربحا في سوق الأعمال الفنية .
إذا تمعنا جيدا في موضوع المسلسل سنجد أن إختيار كلمة (الطاووس) لتكون عنوان المسلسل يُعبر عن إحساس فني راقي . فشخص آخر لا يفقه في الفن كان سيختار كلمة (إغتصاب) كونها مثيرة وتجذب الرجال ، فاختيار كلمة (إغتصاب) كعنوان هو بحد ذاته يُعتبر عملية ترويج لظاهرة الإغتصاب . ولكن المؤلف (كريم الدليل) اختار أنسب كلمة أخلاقيا وثقافيا يمكن لها وصف موضوع المسلسل . فالطاووس ككائن حيواني بمفهوم فلسفي يُعبر عن رمز الشهوة الجنسية عند الذكور في أخبث أشكالها كون ذكر الطاووس يستخدم اسلوب ابهار الأناث كخديعة بهدف تحقيق رغبات شهواته الجنسية . فالطاووس ينتمي إلى فصيلة التدرجية ، وذكور أنواع هذه الفصيلة تتميز بخلوها من عاطفة الإخلاص في الحياة الزوجية وكذلك بعدم وجود العاطفة الأبوية فيها . فهي تستخدم الالوان الزاهية في ريش القسم السفلي من جسدها (كرمز للشهوة الجنسية ) لتجذب الأناث لها من أجل التزاوج . ولكن بعد التزاوج يترك الذكر الأنثى لتهتم هي بمفردها في صنع العش وحضانة البيض ورعاية الصغار ، فالتزاوج عند ذكر الطاووس هدفه تحقيق متعته الجنسية فقط . ولهذا جعل الله جميع أنواع فصيلة التدرجية غير قادرة على الطيران رغم أنها من طائفة الطيور . فعدم القدرة على الطيران في أفراد هذه الفصيلة هي حكمة إلهية لها معنى أن المجتمع الذي تكون فيه العلاقة بين الذكر والأنثى هدفها فقط المتعة الجنسية فإن أرواح أفراد هذا المجتمع لن تصعد إلى السماء إي أنها لن تدخلوا الجنة . ولذلك الحكمة الإلهية في الخلق استثنت نوع واحد فقط من هذه الفصيلة وهو طائر الحجل ، حيث ذكر طائر الحجل يختلف عن بقية أنواع فصيلته فهو لا يملك ذنب بريش طويل وجميل كالطاووس ، ولكنه يملك عاطفة الإخلاص في الحياة الزوجية ، فهو يتزاوج مع أنثى واحدة ويبقى معها طوال حياته ويساعدها في رعاية صغاره حتى يكتمل نموهم . ولهذا اعطاه الله صفة المقدرة على الطيران ليوضح لنا الفرق بينه وبين الطاووس في العلاقة بين الذكر والأنثى . فهذه العلاقة هي أساس تكوين كل شيء في الكون فالآية القرآنية تقول { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) الذاريات } . فنوعية العلاقة بين الذكر والأنثى هي التي تحدد هوية المجتمع وجهة تطوره ومصيره .
حتى نستطيع توضيح نقاط الجمال في مسلسل الطاووس كعمل فني ، لا بد لنا في البداية من ذكر ملخص سريع عن قصته :
" أمنية (سهر الصايغ) فتاة من الأحياء الفقيرة في القاهرة ، بعد نجاحها في الإمتحانات وحصولها على الشهادة الجامعية ، تذهب مع صديقتها إلى الإسكندرية لتعمل لمدة شهر في أحد فنادق الساحل الشمالي لتوفير مصاريفها وعلاج والدها . في أول يوم عملها يُقام حفل زفاف أحد أبناء الأثرياء في الفندق ، وكشعور فطري عند كل الفتيات عندما يشاهدن حفلات الزفاف ، تقترب أمنية مع صديقتها لتلتقط بعض صور السلفي لها بخلفية تعرض مراسيم الزواج . فيراها أحد المدعوين ، وهو شاب من أبناء أصحاب النفوذ الأثرياء فيعجب بقوامها ، فيتقدم منها ويأخذ هاتفها المحمول بحجة أنها تتعدى على خصوصيات الآخرين ، فتتوسل له أن يعطيها هاتفها لتترك المكان ، ولكن الشاب مع أصدقائه الثلاثة يبدأ في ممازحتها فيرمي كل واحد منهم الهاتف إلى الآخر فتحاول هي استرجاع هاتفها منهم ، وأثناء ذلك يضع الشاب مخدر في كأس الشراب ، ويَعد أمنية بأنها إذا شربت شراب الفرح سيعطيها الهاتف ، فتشرب أمنية الشراب وتفقد وعيها ، فيأخذها الشباب الأربعة إلى أحد غرف الفندق ويتم اغتصابها . وبسبب استهتار هؤلاء الشباب بكل القيم الإجتماعية كونهم من أبناء أصحاب النفوذ ، يذهب أحدهم ويعرض مشاهد الحادثة في وسائل التواصل الإجتماعي ، فينفضح أمر أمنية ويصاب والدها بسكتة قلبية ويموت على أثرها ، فتحاول أمنية رفع دعوة قضائية ضدهم . فيبدأ الصراع القضائي بين المحامي كمال (جمال سليمان) الذي يطالب بحقوق أمنية ومعاقبة المتهمين ، وبين المحامي ضياء شاهين (أحمد فؤاد سليم) الذي يحاول إثبات براءة ابنه وأصدقائه .
هناك مسلسل آخر (ضل راجل) يعالج نفس الموضوع ولكن في هذا المسلسل الأب (ياسر جلال) يحاول بيده أخذ حق ابنته ، لهذا تحولت مشاهد مسلسل (ضل راجل) إلى مشاهد أكشن وإثارة وتشويق . أما مسلسل (الطاووس) فلم يعطي أهمية لهذا النوع من المتعة ، ولكنه حاول أن يهتم أكثر في موضوع الحالة النفسية والإجتماعية التي تعيشها فتاة تم إغتصابها ، وكذلك حاول عرض مشكلة تدهور العلاقة بين الرجل والمراة والتي تحولت في أيامنا هذه إلى علاقة مادية خالية من أي إحساس عاطفي مشابهة تماما لمجتمع الطاووس . حيث الشباب الذكور - وخاصة الأغنياء منهم - يستخدمون جميع تلك المزايا التي تُبهر أعين النساء لخداعهن من أجل تحقيق رغبات شهواتهم الدنيئة . ومن ضمن وسائل الخداع هي تلك الأنواع من المخدرات التي تجعل الفتيات بلا ردود فعل فيقعن بسهولة دون إرادتهن تحت السيطرة المطلقة للرجال . فمشكلة استخدام المخدرات في إغتصاب الفتيات أصبحت كابوس مرعب في الكثير من الشعوب الأوربية ، وبدأت تنتقل الآن أيضا إلى شباب الشعوب العربية .
إذا نظرنا إلى موضوع مسلسل (الطاووس) كنظرة سطحية سنعتقد أنه غير مناسب نهائيا لعرضه في شهر رمضان ، ولكن إذا تمعنا جيدا في تفاصيل الأحداث وشخصيات المسلسل ، سنجد أنه مناسب جدا ليكون مسلسل رمضاني يشاهده الكبار فقط كونه ممل جدا للصغار . فأمنية (سهر الصايغ) عندما تجد نفسها ضعيفة جدا في مواجهة المتهمين أبناء اصحاب الثروة والنفوذ لإظهار حقيقة ما حصل معها ، تلجأ إلى الله عز وجل فتصلي وتقرأ القرآن وتشتكي له أمرها . فأجمل نصيحة يمكن تقديمها للأشخاص المظلومين مثل أمنية مثلا ، هي اللجوء إلى الله ، وليس إلى رغبات النفس الدنيئة التي ستدفعه إلى الإنتقام أو إلى القتل أحيانا ، أو إلى الإنتحار ، أو تعاطي الكحول والمخدرات . فاللجوء إلى الله يبعث نوع من راحة النفس التي تمنح العقل الصفاء ليفكر بطريقة سليمة تسمح له بالتعامل مع الأمور بحكمة ، هذه الحالة النفسية الهادئة ستسخر لصاحبها الأشخاص المناسبين في المساعدة لحل المشكلة وكذلك لتأخذ العدالة مجراها الصحيح . وهذا ما حصل مع أمنية في المسلسل . حيث يأتي إليها المحامي كمال ليساعدها ، فتذهب إلى مدينة اسكندرية وهناك تلتقي بالسيدة ماتيلدا (سميحة أيوب) جارة المحامي كمال .
إن استخدام المؤلف (كريم الدليل) شخصية ماتيلدا لتكون عنصر هام في المسلسل ، يُعتبر من أهم نقاط جمال العمل الفني في بناء القصة . ففي هذا المجتمع الذكوري القاسي الذي تعيشه أمنية ، حيث سلوك الشباب الأثرياء قد دمر حياتها ، وكذلك زوج أختها الذي بسبب أنانيته وحبه لمصالحه الشخصية قام بطردها من بيت والدها بعد وفاته ، تأتي السيدة ماتيلدا لتعطي المُشاهد الوجه الآخر الجميل في التكوين الروحي الإنساني ولتجعله يعيش في عالم روحي آخر أرقى بكثير من تلك الماديات التي تفرق أفراد المجتمع ، عالم مليء بالعواطف الدافئة من محبة وحنان والشعور بآلام الآخرين . فرغم أن السيدة ماتيلدا إمرأة مسيحية ولكن نجدها تساعد أمنية الفتاة المسلمة فتفتح لها بيتها لتقيم معها وتعاملها وكأنها ابنتها . فنشاهد بينهما تلك العلاقة الإنسانية في أجمل صورها ، أمنية كمسلمة تصلي وتقرأ القرآن ليساعدها الله في مشكلتها ، وفي الغرفة المجاورة ماتيلدا كمسيحية أيضا تصلي وتقرأ الإنجيل تطلب من الله مساعدة أمنية ، فتجعلنا كمشاهدين نشعر أن الإنسان كما خلقه الله هو أرقى من أن تفرقه الانتماءات بمختلف أشكالها سواء كان الإنتماء ديني أو عرقي أو طبقي أو غيرها من الإنتماءات . شباب الجيل الحديث بحاجة إلى أن يشاهدوا ويعيشوا للحظات في مثل هذا العالم الروحي الذي يجهلونه تماما، فهذا ما تحتاجه اليوم المجتمعات الإنسانية وخاصة العربية في حل الكثير من المشاكل التي تعاني منها ، وواجب على كل شخص يدعي أنه فنان أن يساهم في اعماله الفنية من أفلام أو المسلسلات في تنمية هذا الإحساس في المشاهدين ، بدلا من تلك الأعمال التي تعتمد على البلطجة والأكشن التي دمرت سلوك الشباب وحولتهم إلى طواويس تهمهم فقط مصالحهم الشخصية .
الممثلة سهر الصايغ قامت بتجسيد دور أمنية بجميع أبعاده على أفضل ما يرام ، ولها فضل كبير في نجاح المسلسل . فرغم أن أحداث المسلسل شبه خالية من مشاهد الأكشن أو عناصر التشويق المبالغ فيها ، ولكن إبداع سهر الصايغ في تجسيد مشاعر وأحاسيس فتاة فقدت أعز ما تملك (شرفها - ووالدها) كان له دور كبير في جذب المشاهدين للتعاطف معها ودفعهم إلى متابعة أحداث المسلسل بشوق حتى نهاية المسلسل . ويجب هنا أن ننوه أنه رغم أن سحر الصايغ هي طبيبة أسنان وليست خريجة معهد الفنون المسرحية ، ولكنها اليوم هي من أفضل ممثلات الدراما العربية ، فدراستها العلمية عن التكوين المادي للإنسان بالإضافة إلى موهبتها الفطرية في التمثيل خلق لديها نوع مميز في الإداء وتجسيد الشخصيات مختلف كثير عن أداء بقية الممثلين والممثلات ، هذا النوع من التمثيل نجده في كبار الفنانين كسعاد حسني ويحيى الفخراني . حيث نجد في أدائها إنسجام رائع بين نبرة الصوت وملامح الوجه ولغة الجسد في التعبير عن الأحاسيس البشرية والذي كثير من خريجي المعهد الفني للمسرح يرتكبون أخطاء كثيرة من هذه الناحية . فهذا الإنسجام الطبيعي بين أنواع التعبير الثلاثة يشكلون معا وحدة متكاملة لها المقدرة في نقل الإحساس الروحي بشكله النقي وبشكله الفني الجميل من الممثل إلى المشاهد ليجعله يشعر تماما بما تشعر به الشخصية الحقيقية التي يقوم الممثل بتجسيدها ليتعاطف معها وبطريقة إيجابية فبدلا من أن تسبب له إنزعاج نفسي - كما حدث في مسلسل لعبة نيوتن - تجعله يشعر بمتعة روحية كإحساس ناتج عن الشعور بنصرة المظلوم . فكثير من الممثلين يظنون أنهم يستطيعون تمثيل لحظات الحزن والإضطراب النفسي والفرح ، ولكنهم لا يعلمون أن نوعية هذه العواطف تختلف من شخصية إلى أخرى ومن حالة أيضا إلى حالة أخرى حسب نوع المسبب لها ، فسعاد حسني كممثلة كانت متفوقة على جميع الممثلات بسبب مقدرتها في تكوين وحدة متكاملة في هذه الأنواع الثلاثة من التعابير .
المخرج رؤوف عبد العزيز الذي قام بنفسه بتصوير مشاهد مسلسل الطاووس ، استطاع أن يدمج إحساسه كفنان في التصوير واحساسه كفنان في الإخراج ليختار الأسلوب المناسب لعرض المشاهد واللقطات . ورغم أنه لم يستخدم المؤثرات البصرية وكانت تكلفة الديكورات بسيطة جدا ولكنه صنع لوحات بصرية فنية عديدة في المشاهد استطاعت أن تضع المشاهدين في عالم روحي يتوافق تماما مع الموضوع الرئيسي للقصة . فنجده قد اعتمد اللقطات التفصيلة القريبة فقط في اللقطات الحساسة التي تمثل جوهر موضوع المسلسل والتي تجعل المشاهد يشاهد تفاصيل ملامح الوجه بدقة ليجعل المشاهد يعيش في أعماق الإحساس الروحي للشخصيات . أما في اللقطات البعيدة فحاول استخدام عناصر محتويات المكان بأشكالها وألوانها بطريقة تحافظ على نفس المعنى الروحي الذي تحمله تعابير ملامح شخصية أمنية . لهذا حاول أن يُقلل من تلك المشاهد التي تعرض المزايا المادية التي يتمتع بها الأثرياء وأصحاب النفوذ من أماكن سكن أشبه بالقصور وما تحويها من مفروشات فاخرة والتي قد تُبهر أعين المُشاهد وتجعله يحلم أن يكون له مثلها. بينما نجده يعرض تفاصيل دقيقة من بيوت الطبقة المتوسطة كبيت المحامي كمال وبيت ماتيلدا . وكأن المخرج بهذا الأسلوب يحاول أن يقنع المشاهدين بفكرة أن الحياة السعيدة تأتي من الأشياء البسيطة وليس من تلك الأشياء غالية الثمن .
شيء آخر مهم أيضا وهو رغم أن تمثيل جمال سليمان كان باردا أو ربما أيضا شبه خالي من التعابير ومع ذلك المخرج لم يتدخل في تصحيح أداء الممثل . وربما البعض من النقاد اعتبروا هذه البرودة في إداء جمال سليمان نقطة ضعف في المسلسل ، ولكن ما فعله المخرج كان صحيحا من الناحية الجمالية للعمل الفني . فالمخرج أراد أن يجعل اهتمام المشاهد ينصب كليا على التعبير الروحي في الملامح الإنثوية لأن عنوان المسلسل هو كلمة (الطاووس) ، لهذا حاول المخرج - بشكل مقصود أو عفوي - إلغاء الوجود الذكوري في العالم الروحي لقصة المسلسل ليمنع العقل الباطني للمشاهد من الإحساس بوجود نوع من الفوضى بين العالم الذكوري والعالم الإنثوي . فبهذا الأسلوب الذي اتبعه المخرج استطاع أن ينقل إلى المشاهدين (الذكور) معاناة الجنس الإنثوي من سوء سلوك الجنس الذكوري ولكن بطريقة خالية تماما من الإحساس بأي شعور حقد أو كراهية في الجنس الإنثوي نحو الجنس الذكوري ، فوجود شخصية السيدة ماتيلدا في القصة كان لها هذا الدور أيضا وهو منع تفاقم شعور حب الإنتقام والكراهية في نفوس المشاهدين . والممثلة القديرة سميحة أيوب قامت بتأدية هذه الدور على أفضل ما يرام .
من ناحية عيوب المسلسل فمعظمها عيوب بسيطة لا تؤثر كثيرا على الناحية الجمالية للمسلسل ، ولكن هناك عيب واحد من الناحية الجمالية في نهاية المسلسل يجب أن نذكره . وهو قرار المحكمة بإعدام الشابين زين ضياء الدين (عابد عناني) وحماد (مهند حسني) ، فبالنسبة لإعدام زين ضياء الدين لاخلاف عليه ، أما بالنسبة لإعدام الشاب حماد فواقعيا ربما يكون قرار قضائي عادل كونه شارك في عملية الإغتصاب وجريمة القتل . ولكن العمل الفني لا يجب أن يكون نسخة حقيقية عن الواقع ، فدور العمل الفني هو تجميل الواقع ليرتقي المجتمع إلى الأفضل . وسلوك الشاب حماد بشكل عام - كما ظهر في عدة مشاهد - كان يؤكد على أنه أقل سوء من بقية أصدقائه ، فهو لم يكن المحرض على أعمال السوء ولكنه كان تابعا لأصدقائه يفعل ما يفعلونه . فطالما أنه ندم وتاب على مافعله ، وفي السجن وبفضل المنشد الديني (علي الهلباوي) تحول إلى شاب صالح يصلي ويقرأ القرأن ويطلب المغفرة من الله ، و هو أيضا أخبر صديقته أنه سيعترف بإبنه الذي أنجبته منه وأنه بدأ يشعر بحبه لها . فوجب على المحامي كمال (جمال سليمان) أن يكون هو المحامي الذي سيدافع عنه كما وعده كونه قد أصبح شاهدا في كشف حقيقة الإغتصاب وجريمة القتل التي ارتكبها زين وأحمد . لهذا كان من الناحية الجمالية للمسلسل أن يتم الحكم عليه بالسجن لمدة بضع سنوات بدلا من إعدامه ، فالموضوع هنا لا يتعلق بحقه شخصيا بقدر ما يتعلق بحق الطفل المولود الذي سيعيش يتيم الأب مع وصمة عار سيحملها معه طوال حياته كونه ابن مجرم تم إعدامه. فهذا الطفل في المسلسل يمثل رمز للأجيال القادمة ، فوجب أن يكون رمزه له معنى أن الجيل القادم هم أبناء الجيل التائب عن أعمال السوء ، وليس جيل أبناء مجرمين تم إعدامهم . فحماد كشاب كان ضحية سوء تربية أبويه له وكذلك كان ضحية فساد البيئة التي عاش بها ، لهذا وجب إضافة مشهد قصير في نهاية المسلسل يكون فيه قرار القاضي على الشكل التالي : إعدام الشاب زين ضياء شاهين كونه كان المحرض ومرتكب أعمال السوء وسجن حماد بضع سنوات فقط ، ثم يعرض المشهد فرحة زوجته وهي تقترب منه لتريه ابنه ولتخبره بأنها هي وابنها سينتظارانه حتى خروجه من السجن ، وفرحته هو أيضا بأن الله غفر له وأعطاه فرصة ثانية في الحياة ليربي طفله تربية جيدة بعكس ما فعل به أبويه معه . هذا المشهد سيكون بمثابة رمز له معنى بأن هذا الشاب تربى بطريق سيئة ليكون طاووسا عندما يكبر ، ولكن بفضل توبته وإيمانه بالله تحول إلى طائر الحجل الذي يتصف بالعاطفة الأبوية والإخلاص للحياة الزوجية . فالطاووس كونه كائن حيواني لن يستطيع تغيير سلوكه ولكن الإنسان هو كائن مخير وليس مسير ويمتلك المقدرة على التغيير . فوجود مثل هذا المشهد سينمي في نفوس المشاهدين -وخاصة جيل الشباب- الشعور بمعنى الإيمان ومعنى الإرادة ومعنى الشعور بالتسامح والمغفرة .
الفن قبل أن يكون متعة هو مدرسة يتعلم منها الأطفال والشباب لصنع مجتمع راقي ، وهو سلاح حضاري يمكن به تصحيح أخطاء سلوك أفراد المجتمع . ولكن للأسف اليوم وبسبب عدم وجود نقاد فن حقيقيين تحول الفن إلى بلطجة فتحول المجتمع إلى مجتمع روحي طاووسي . ومسلسل الطاووس يجب أن يكون بمثابة عمل فني نموذجي يتعلم منه كتاب الرواية في كيفية اختيار المواضيع لتحويلها إلى أفلام أو مسلسلات ، وليتعلم منه المخرجون أيضا في كيفية اختيار الأسلوب المناسب في إخراج المشاهد واللقطات . فالأفلام الأمريكية التي يحاولون تقليدها لم تعد أعمالا فنية ولكنها أصبحت أشبه بمشاهد سيرك هدفها فقط الإثارة والتشويق .
وسوم: العدد 934