الأصوات الأسلية في القصائد الظمأى، سياحة فكرية تأملية في أنهار ظمأى
هذا وقت الموت بحب البصرة.. هل نتركها للغرباء
البصرة تعرف ساكنها والبصرة تعشق شاعرها مثل النخل
والبصرة تكرم زائرها فهم الأهل
فكرت كثيرا ً كيف أحب البصرة لا جدوى
ابقى فيها أذوق الرطب الريان
واشو ِ السمك الحلو لكل الأحباب
واسمع بيتا ً من شعر السياب
وأنام الليلة مرتاحا ً من لغو الاجناب
الشاعر الدكتور صدام فهد الأسدي أحد شعراء البصرة , يوغل في رسم المعاناة ويجعل هموم وطنه نصب عينيه , لغته الشعرية تعبّر عن إحساسه ومشاعره لتصبح لغة معبّرة عن ذات الشاعرومنصهرة فيه وهذا ما أعطى للقصائد الظمأى الحركة واتساع الموضوع ليشمل الوقوف من العالم بكل سعته , قال عنه الكاتب ضياءالدين أحمد حسين " :
" أستطاع الأسدي أن يدجن هذيانه بالإبداع الشعري والنقدي , إنه لا يستطيع العيش بلا شعر أو كتابة نقدية يفرغ فيها عصير عقله ولوعة قلبه.
عن مؤسسة المثقف العربي في سيدني / استراليا ودار أمل الجديدة في دمشق / سوريا 2021 / صدر للدكتورة "خلود شهاب الشماع " كتاب الأصوات الأسلية في القصائد الظمأى للشاعر الدكتور صدام فهد الأسدي دراسة في التشكيل الصرفي في ديوان " أنهار ظمأى " , أشتمل البحث على دراسة مفصلة تأملية في " أنهار ظمأى " ومفاتيح البحث الأصوات الأسلية السين والصاد والزاي تكرارها, سكونها, حركاتها , تكشف الدراسة عدد مرات ورودها, إن كل محور من محاور هذا البحث درس ضمن ثلاثة أبعاد هي :
أولا ً : البعد الصرفي : وهو يحدد الرؤية الصرفية للبحث التشكيلية .
ثانيا ً : البعد الصوتي : وهو يحدد الرؤية الصوتية للبحث الحاسة والتنغيم. ثالثا ً : البعد التطبيقي : وهو الرؤية العامة التي تجمع البعدين الصرفي والصوتي بميدان التطبيق العملي الذي مثله ديوان" أنهار ظمأى" انموذجا ً تطبيقا ً للأستاذ الفاضل الدكتور صدام فهد الأسدي ,
شملت الدراسة المبحث الأول : تشكيل الفعل العربي :
يقسم الفعل في العربية على قسمين :
الأول : الفعل المجرد: وهو الفعل الذي يكون جميع حروفه أصلية لا يسقط حرف منه إلا لعلة صرفية , وعليه فإن الأصوات الأسلية يمكن أن تدرس بمحورين : 1- القديم ( الخاص ) : وهو دراسة الأصوات الأسلية دراسة أصلية أساسية منبعثة من التراث العربي الأصيل في تقسيم الأصوات اللغوية وبيان مخارجها معتمدة على رواية النضير عن الخليل : الصاد والسين والزاي أسلية , لأن مبدأها من أسلة اللسان وهو مستدق طرفه ، وهذا المجموع المنظم من الرموز داخل البنية اللغوية هو تعبير عن أفكار الشاعر وأحاسيسه الداخلية , فقد وصف الخليل السين بالتوسط الذي رآه في الدال فصارت حال السين بين مخرج الصاد والزاي , كذلك فالسين مهموسة ولكن الصاد تمتاز منها بالأطياف كما أمتازت الزاي في الصاد والسين بأنها : مجهورة وهما مهموستان : 2- الحديث ( العام ) : وهو دراسة الأصوات الأسلية دراسة حديثة عامة , ووجد البحث ان الخليل لا يتوقف في نسبة الصاد والسين والزاي إلى طرف اللسان بل ينسب الراء واللام والنون إلى ذلقه وهو وحده فقد ذكر ان الراء واللام والنون ذلقية , لأن مبدأها من ذلق اللسان وهو تحديد طرفي ذلق اللسان , وهذه الأصوات يطلق عليها حديثا ً الأصوات اللثوية لأنها تنتج باعتماد اللسان ضد اللثة .
وعليه فأن دراسة هذه الأصوات في ديوان" أنهار ظمأى" كشفت للدكتورة " خلود شهاب " ان حركية هذه الأصوات في البنية العربية وتشكلاتها الصرفية من حيث الكثرة والقلة في اللسان العربي قد أتسمت بالتوسط والأعتدال وهذه النتيجة موافقة كما اثبتته الدراسات الحاسوبية لجذور الصحاح ولسان العرب وتاج العروس , وهذا يثبت مدى التوفيق الذي احرزه الخليل في استنباط قوانين صوتية تشكيلية تثبت بما لا يدع مجالا ً للشك صوابها اعتمادا ً على الأجهزة الحديثة , وعليه فإن دراسة الأصوات الأسلية في الفعل الثلاثي المجرد في القصيدة الأولى" نفوس غزاها الصدأ" تكشف عن حقيقة أن اللغة تولد اللغة في الشعر العربي وهو جوهرة البحث اللغوي, فالكلمة لا وجود لها إلا بالسياق الذي تحيا فيه بصورة متجددة بين النص الشعري والمتلقي , وهذا ما يبرز قدرات الشاعر الأدبية في خلق توافق صوتي دلالي للمفردة العربية في الشعر ولذا تكون عملية الإبتكار عنده قد وازنت بين الخلق والإبداع من خلال الفهم والتحليل والتأويل , فدائرة البحث في القصيدة الثانية" ثياب غير قابلة للسلخ " تركز على الفعل المضارع المجرد لا غيره, فمخرج الأصوات الأسلية: يعني التحديد القديم لمخارج الحروف والحديث على السواء باعتماد الملاحظة والتجربة الخاصة ومدى الثقة العلمية في دقة تحديد مخرج الصوت العربي فهو : أسلة اللسان باقترابها أشد القرب من أطراف الثنايا الصاد والسين والزاي التي هي عماد البحث والتحليل .
تؤكد الدكتورة " خلود الشماع " أن الأسدي في قصائده الظمأى وَفق َ في خلق روح الإبداع داخل النص الشعري الذي كانت الأصوات الأسلية المفتاح للولوج فيه وسبر اغواره الفنية , أما دائرة البحث في القصيدة الثالثة" جلود هتكها الوسخ" ورد صوت السين وسط الفعل الثلاثي المجرد في قول الأسدي : نمسح تلك الجباه , فالمعنى مسح الشيء مسحا ً أجري عليه اليد , وورد صوت الزاي في وسطه لكلمة " تنزع " , وورد صوت الصاد في أوله بكلمة " نصيح " , وورد صوت الزاي في وسطه لكلمة " بزغت " كما في قوله :
ولكنها الشمس تبقى
كما بزغت لن تخاف الصهيل
والمتأمل للقصيدة الرابعة " أرغفة على قيد الأنتحار " يجد تلونا ً وتشكيلا ً صرفيا ً نادرا ً لمفردات العربية التي تشبع دلالة وإيحاء في النظم العربي ورد صوت السين في بداية الفعل في قوله " سقطت ْ على العفن " وفي قوله " سقط النصيف " وفي قوله " يسحق السنوات " وفي قوله " استر عريها " وفي قوله " تسرق راحتي " وفي قوله " من سرق السعادة " وورد صوت السين في وسط الفعل في قوله " ليس يكسر قلبها " وورد صوت الصاد في وسط الفعل الناقص في قوله " الحق أصبح واضحا ً " وورد صوت السين في نهاية الفعل في قوله " ولبست ثوب النخل " , وتتبع البحث الأصوات الأسلية في أفعال القصيدة الخامسة : معارضة فوجدها تخلو من الأفعال المجردة أو المزيدة التي يرد فيها الأصوات الأسلية التي هي محور البحث , وهكذا يتتبع البحث الأفعال المجردة في القصائد التالية : السادسة " نزهة فوق جثث الرذيلة " والسابعة " طلاسم فارغة من الأسرار" والثامنة" مشاكسة خارج الطابور"والتاسعة " اسطورة الجنة الوريفة " والعاشرة " نث العناقيد " والحادية عشر " أنهار ظمأى " والثانية عشر" خوارق خارجة عن العقل " والثالثة عشر" إتكاء على ظهر الغيمة " والرابعة عشر" تأملات في زوايا الفراغ " والخامسة عشر" بكاء رغيف على كف طفل " والسادسة عشر " نشيد السمكة الميتة " والسابعة عشر" هواجس على ضفة البكاء" والثامنة عشر" دوامة الصبر " والتاسعة عشر" بعد ترميم الذاكرة" والعشرون " نزيف الشعر" والواحدة والعشرون " مناجاة سيد النحل " .
تكشف الدكتورة " خلود الشماع " في هذه الدراسة عن ترابط الأصوات وتفاعلها في التركيب اللغوي والعلاقة الجدلية بين الأصوات عامة والأصوات الأسلية خاصة لأن القصيدة الشعرية هي نتاج تجربة الشاعر وتأثيره في المحيط الأدبي بدقة علمية وموضوعية وعلى وفق هذه الرؤية فأن القصيدة الشعرية هي نتاج العلاقات الداخلية في النص الشعري , وهذه العلاقة لا تكشف إلا بالتلقي, أي وجود الطرف الثاني في انتاج النص وهو المتلقي الباحث أو القارئ للنص الشعري , لأن النص الشعري لا يبوح بأسراره دفعة واحدة وانما بشكل تدريجي معتمد على الحساسية الجمالية في التفاعل بين طرفي الإبداع , النص الشعري , والمتلقي القارئ .
ثانيا ً : الفعل المزيد :
الدرس التطبيقي لمادة البحث في هذا المحور تتحدد في القصيدة الأولى : نفوس غزاها الصدأ بفعلين هما :
1- تسَاوا في قول الشاعر الأسدي: الحوذي والجلاد تسَاوا بالأهوال فالفعل المزيد تسَاوا على وزن: تفاعل: مزيد بحرفين التاء والألف ورد فيه صوت السين وهو صوت أسلي تتبعه البحث وقد يأتي هذا البناء لازما ً ومتعديا ً . وعليه فأن المتأمل للنص الشعري في قصيدة الأسدي يجد ان صوت التاء والسين حقق انسجاما ً صوتيا ً في الفعل المزيد مع الألف والواو والألف الأخيرة فقد توالفت الأحرف لأن فيها إيقاع منسجم ذو طبيعة جمالية تأثيرية توحي بالمشاركة في الأهوال بين الحوذي والجلاد .
2- كسّرَهُ : في قول الشاعر الأسدي :
لا توجد في الناس قلوب من لحم بل من خشب كسّرَهُ الغرباء
كسّرَ : فعل ثلاثي مزيد بالتضعيف ووزنه : ( فَعّلَ ) هو ادغام حرفين متماثلين معا ً أولهما ساكن والآخر : متحرك , من هنا تستشف الدكتورة ( خلود الشماع ) ولجميع القصائد ان الأفعال المزيدة التي ضمت أصواتا ً أسلية في تشكيلها الصرفي هي أفعال جديرة بالبحث والدراسة على الرغم من قلتها مقارنة بالأفعال المجردة التي كشف البحث كثرتها في قصائد الأسدي , إن اللغة الشعرية عند الشاعر الأسدي لم تكن تقليدية وانما كانت تعبر عن احساسه ومشاعره لتصبح لغة معبّرة عن ذات الشاعر ومنصهرة فيه وهذا أعطى للقصائد الظمأى الحركة واتساع الموضوع ليشمل الموقف من العالم بكل سعته من خلال النقد الشامل لحركة حياة الشاعر .
المبحث الثاني : تشكيل الأسم :
إن الأصوات الأسلية في الأسم تمتاز بعلاقات داخلية تؤثر على النص الشعري عامة وتتأثر فيما بينها فهي تحمل قوة وصفاء داخل التشكيل الصرفي , يبدأ القارئ باكتشاف العناصر الجمالية في القصيدة ويعتمد بشكل رئيسي على عنصر الإيقاع الداخلي الذي يمتاز بالتجدد فهي محل اجتهاد وبحث وتحليل والذي يجعل القارئ يستحضر طاقاته الذهنية والجمالية لاكتشاف رسالة القصائد الظمأى وما تحمله من معاني وعلاقات داخلية للأسم ضمن الوحدة العضوية لكل قصيدة .
لقد أمتاز الشاعر الأسدي بمقدرة خاصة على تضمين آيات الذكر الحكيم شعرا ً وإيجاد تناسبات صوتية في علاقات القصيدة مثلت عنصرا ً جماليا ً خاصا ً ومميزا ً , ومنح هذا التنوع الفكري والإطلاع الواسع للشاعر أن ينسجها شعرا ً من الإيقاع حتى المعنى العميق للقصيدة , تؤيد الدكتورة ( خلود الشماع ) أن الترابط والتلازم بين الأصوات الأسلية في الفعل والأسم نجده ملحوظا ً في القصائد الظمأى وكأنما تشعر بروح الشاعر وهي تربط مفردات النص الشعري بمفردات متقاربة وصفا ً ومخرجا ً لمناسبة الإيقاع داخل القصيدة , فقد عُرف الأسلوب : ( اختيار واع يسلطه المؤلف على ما توفره من سعة وطاقات ) فصوت الزاء يحمل مدلولا ً للهدوء والسكينة نجده يدل دلالة واضحة على ذات الشاعر وصوته الحاضر في النص الشعري , فلو تأملنا مفردة " الحُزن ْ " بالزاي الساكنة فعلى القارئ أن ينتبه إلى ضرورة تصحيح صوتها مجهورة إذا جاءت ساكنة وهذا ما شاهدناه في القصيدة السابعة عشر ( هواجس على ضفة البكاء ) التي تميز الأسم فيها بكثرة ورود الأصوات الأسلية فيه وصوت الزاي – على قلبه – التي تتبّعه البحث مقارنة بصوتي السين والصاد نجده مثلا ً في قول الأسدي :
وحُزْن ُدهرِي ووَضع ْ القيَد ْ يُثقلني هل يلبس ُ الصّبر ُ مثلي باكيا ً زَهقا فلغة النص واضحة وصورة التشبيهية دقيقة الوصف , فصوت الزاي ورد في: حُزْن ساكنا ً: وفي زهقا مفتوحا ً والسين في آخر الفعل الثلاثي المجرد المضارع يلبس صوت الصاد في الصّبر .
المبحث الثالث : الحرف :
إن دراسة القصائد الظمأى للشاعرالدكتور صدام الأسدي من قبل الدكتورة (خلود الشماع) هي فرصة كبيرة لإزالة الستار عن موهبة الشاعر الأسدي المتفجرة كالعيون الجارية العذبة وتسليط الضوء على الأصوات الأسلية كشف ان الحرف تميز بالسين حرفا ً مستقلا ً وإن الحرف يعد اللواصق التي تضاف للكلمة للقيام بوظيفية نحوية ودلالية عند التصاقها بالكلمة في السياق اللغوي وتعد في البحث من السوابق وهي لواصق مضارعة الذي تدخل في مادة البحث وهي على قسمين :
1- السين: وهي لاصقة تصريفية تسبق الأفعال المضارعة لتصرف الزمن من الحال إلى الاستقبال نقول : سأضرب ُ زيدا ً .
ب – سوف : وهي لاصقة تصريفية تسبق الفعل المضارع للدلالة على الاستقبال , وهي من اللواصق التي لا تشكل جزءا ً من بنية اللفظ العربي لأنها منفصلة , وقد ذكر الرماني أن سوف متصلة بالفعل صارت كأحد أجزائه بمنزلة لام المعرفة في الأسماء , وقد فصّل البحث في المواطن التي ورد فيها النوعين في القصائد الظمأى وما تنطوي عليه من الخفايا والأسرار والتغلغل في أسلوب الدكتور الأسدي الشعري, المكتظ بالغموض والرمز والإيحاء وتعدد الدلالات وتنوع الأبعاد والمضامين وتشعبها وهذه مسؤولية تقع على عاتق الباحثين والأدباء , فالشعر الحديث بحاجة إلى ما يسعى إلى تسليط الضوء عليه والوقوف على ما ينطوي عليه من أبعاد فكرية وفلسفية من أجل تعميق الوعي وتوسيع دائرة الفكر والأدب في توجيه الأنظار الى مواطن الجمال في الشعر العربي الحديث .
إن ديوان " أنهار ظمأى " ضم الواحد وعشرون قصيدة , حدد البحث الأصوات الأسلية مفتاحا ً للولوج فيها وتتبعها في تراكيب لغوية , ولكل قصيدة عنوان والعنوان الفني يشكل بنية صغرى للدلالة على الموضوع المراد بحثه , وعليه فإن الإحساس الفني الذي يمتلكه الشاعر وعمق تجربته حضورا ً فاعلا ً لدقة تناوله الواقع فهو يصغي إلى نبض عصره ومجتمعه وموقفه الجلي من واقعه الذي صوّره فأحسن تصويره كما يقول الدكتور " فاخر الياسري " في مقدمة ( أنهار ظمأى ) وجدة طرحه , فهي بحق قصائد مدروسة تعد ّ الأكثر دلالة وشمولية في تجربة الأسدي , فهي تمثل محاولة توليفية بين المستوى الصوتي والمستوى الدلاليوالمستوى الصرفي ومستوى الإيقاع داخل النص الشعري الذي يلزم القارئ التحليل الفني الذي يربط الدلالة ويحددها بالمدلول , فالقصيدة تمثل عالما ً خارجيا ً تمت إعادة صياغته عبر أدواته الفنية .
وسوم: العدد 936