رواية علبة الحذاء تجسّد قضيّة وطن وشعب
لم تكن قراءتي لرواية علبة الحذاء لصونيا خضر اكتشافا لرواية ة\وحسب، بل اكتشافا لروائية فلسطينية تخطت برواياتها حدود المكان والى حد ما الزمان؛ لتدخل
حيز الرواية الإنسانية بالمطلق. أجد صعوبة في الكتابة عن علبة الحذاء
بقدر ما استمتعت بقرائتها. إنها المرة الأولى التي أقرأ فيها رواية
لمرتين خلال شهر واحد، وأشعر في قراءتي الثانية وكأنني أقرأ النص للمرة
الأولى.
تكتب صونيا خضر روايتها بنفس وجوديّ يمكنها من الإنتقال من الخاص الى
العام، بدل العكس اللذي اعتدناه في الرواية الفلسطينية. فتجسد قضية وطن
وفقر وعجز إنساني على كافة الأصعدة من خلال شخوص روايتها، وخاصة فادي
وجواد والخال منير الذي يأخذ حيزا أصغر. تبين الرواية الغربة والاغتراب
التي يشعر بها الثلاثة رغم اختلاف ظروفهم الاقتصدية والاجتماعية، وحتى
أماكن تواجدهم. ومن خلال الأماكن تلك تتعرض الكاتبة الى فلسطين اللجوء
والغربة والاحتلال. ففادي يعيش في مخيمات اللجوء في بقاع لبنان بكل ما
تحتويه هذه التجربة من فقر وحرمان، يتعامل معه فادي بقبول وجودي يدخله في
عزلة وهروب من الحياة بتفاصيلها الى النوم 14 ساعة في اليوم الواحد، في
غرفة واحدة تتناوب العائلة على النوم فيها. ويستمر في حالة الاغتراب تلك
حتى بعد حصولة على كنز هبط عليه من السماء . اذ لم يتغير إحساسه
بالاغتراب والفقر حتى بعد حصوله على الورثة من العجوز الذي تطوع للعناية
به. كما ترمز سلبية والد فادي لسلبية شعب بأكمله حتى تجاه قضيته
الوطنية" أبي الغارق بأحلامه بالعودة لفلسطين المستأنس لفكرة أن ثمة من
سيعيده إليها يومًا ما، وأن العالم برمته موظف لتأمين هذه العودة،
والعاجز عن الإتيان بأيّ فعل للعودة أو للإستسلام والذوبان في واقع
اللجوء. "
أمّا جواد والذي ينحدر من اسرة ميسورة الحال فهو أيضا يعش غربة واغترابا
فرضته عليه أسرته من الطبقة الوسطى بطموحها وتوقعاتها. إذ حرمته من
النضال وفرضت عليه تخصصا لم يرغب به في بلد لم يختر العيش فيه، ورضخ لكل ذلك بسبب سلبيته الوجودية، وعدم قدرته على الرفض والمواجهه خاصة بسبب ضعفه الواضح أمام ابتزاز أمّه العاطفي له، كونه الابن الوحيد للعائلة.
أمّا ذروة اغترابه فتتمثل في قمعه لموهبة الشعر التي يتمتع بها ولحبه
لفتاة إسبانية التي يتركها دون تفسير؛ ليرضخ لرغبة أمّه في تزويجه من
فتاة أحلامها ه!.
أمّا الخال منير خال سلمى حبيبة فادي فيترك عروسه وبلده وعائلته جريا وراء
حب وهمي، وعلاقة قام بعيشها بمخيلته دون وجود حقيقي لها، نتيجة وقوعه في حب فتاة إسبانية من طرف واحد. باختصار فالشخوص الثلاثة يعيشون اغترابا
نتيجة أحلام مرهصة، إمّا بسبب حالة وجودية أو ضغوط خارجية.
وللمراة في "علبة الحذاء" أيضا أدوار لا تقل أهمية، ولكنها أدوار أيضا
تتمثل بالواقعية، فمن جمال الرواية أنها لا تعظم المرأة ولا تعطيها أدوارا
بطولية كما في الأدب النسوي المنافق السائد. فوالدة فادي طحنها الفقر حد
النفاق، وتمثلها بزوجات إخواتها الأوفر منهم حظا. ووالدة جواد كمعظم
النساء تذعن للقواعد الاجتماعية، وتأخذ موقفا سلبيا حيال سفر ابنها الوحيد
الذي يفطر قلبها حزنا. وسلمى التي تحب فادي ولكنها لا تكف عن الضغط عليه
بضرورة التغيير، ولا تقل نفاقا عن الباقي عندما توافيه بعنوان خالها منير
فقط بعد حصوله على المال. الشخصية الوحيدة المتمردة والتي تأخذ قرارا
بالموت كي لا تستلم لضغوط الأهل هي لبنى خالة جواد.
من خلال هذه الشخصيات تتعرض خضر الى قضايا كثيرة وشائكه تعالجها بكل
سلاسة، وتدخلها في نسيج الرواية دون إقحام مصطنع. فمن الوطن فلسطين
المستباح من زمرة أوسلو والمقطعة أوصاله بالمستوطنات، الى الحالة
اللبنانية بتعقيداتها، الى وطن عربي يموت أبناؤؤه في طريق التهجير منه قسرا
أو خيارا. الى الفيروس اللعين اللذي جاء ليكثف إحساس أبطال الرواية
بعجزهم واغترابهم وندمهم على التقاعص عن أخذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح.
ورغم الحلاة الوجودية الثقيلة في الرواية إلا أن الكاتبة تخفف من هذا
الثقل بالعديد من المواقف التي لا تخلو من سخرية أو أحداث خفيفة،
كوجود فادي في المستشفى صدفة أثناء مساعدته للعم أنطون، وتعتقد المرأة
العجوز أنه طبيب وهو يحمل على صدره علبة حذاء يطلب بها المساعدة بالحصول
على عمل؛ لتصبح علبة الحذاء تلك عنوانا خلاقا لرواية مكتنزة. وموقف
الشحاذ الذي يظن أن فادي يود منافسته في العمل ويترك له قطعة نقود. من
اللافت أيضا تنقل الكاتبة بالقراء بالزمان إمّا برحلة الشخوص بالذاكرة، أو
بالأسلوب الأدبي الممتع والسلس دون أي ارباك للقارئ، وباستخدام صور شعرية
تستوقف القارئ، فتصف أمتعة ركاب الطائرة مثلا بالنفايات البشرية " تقلع
الطائرات محمّلة بالكثير من الحقائب والصور، وما أن تحط الى أن تسرع
لإفراغ حمولتها كما لو أنها تتخلص من نفايات بشرية، ليس بوسعها تحمّل ثقل
حكاياتها، ثم تعود لملء مقاعدها بصور أخرى وبطنها المتسع الكبير بحقائب
أخرى، لا تلبث أن تعيد التخلص منها في مكان آخر، لتحدث المفارقات القدرية
التي لا مناص منها"، ومن هذه المفارقات أن يفقد كل من فادي وجواد
حقائبهما، الأوّل لا تعني له حقيبته شيئا، ولا يكترث لضياعها، والثاني تحمل
حقيبته عمره كاملا. ويكون هذا الضياع شيئا من الأشياء التي تجمع بينهما
لتتسبب في تقاربهما القدري في مدينة برشلونة الإسبانية، حيث عقدت الآمال
ودفنت. أمالُ فادي بلقاء سلمى وجواد بالعودة الى فيدا ومنير بالزواج من
ماتيلدا. تبدع صونيا خضر من خلال تركيبة فنية بالتعامل بروايتها
بواقعية صادقة لقضايا وطن مهزوم وإنسان مهزوم ومجمتمع منافق وظالم ونهاية
لروايتها تتوج تلك الواقعية.
وسوم: العدد 968