أزمة الفرد من خلال الرواية المعاصرة، رواية" مدن الحلم والدم" للروائية المغربية راضية العمري نموذجا
توطئة:
تسرد لنا رواية "مدن الحلم والدم" للروائية المغربية راضية العمري معاناة الإنسان في الحياة المعاصرة من خلال الساردة زهرة صابر، التي تكشف لنا معاناتها ومعاناة والديها مع الفقر والمرض. فوالدتها تشتغل كخادمة في البيوت ووالدها يعاني من مرض نفسي تحول مع الوقت إلى جنون .كما سوف تعمل الروائية راضية عبر الساردة زهرة على إضاءة ما ستخلفه هذه المعاناة من أثر نفسي على نفسية الساردة على الخصوص. فكيف تناولت رواية "مدن الحلم والدم " للروائية راضية العمري كرواية معاصرة إبداعيا أزمة المرأة العربية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة؟ وهل نجحت في ذلك؟ .تبنت رواية "مدن الحلم والدم "التوجه الواقعي في الكتابة الروائية الذي عمل على القطع مع الرواية الكلاسيكية التي اهتمت بالبطل الأسطوري الخارق ومجدته وكانت أقرب إلى الملحمة منها للرواية بالتعبير الحديث .كما عمل هذا التوجه على الثورة على الرواية التاريخية التي كانت تحتفل بالرموز والأبطال التاريخيين والأحداث التي ارتبطت بهم سواء من أجل تخليدهم أو من أجل التعريف بهم كما كان معروفا في روايات جرجي زيدان، هذا التوجه الواقعي هو الذي نقل الرواية من الاحتفال بالبطل الأسطوري الذي لايقهر إلى الاحتفال بالبطل الانسان العادي بهمومه ومعاناته وأحلامه .فصارت الرواية بهذا المعنى مرآة تجوب الشوارع تعكس هموم الناس وآمالهم وطموحاتهم. والكاتبة الروائية راضية العمري اختارت الكتابة من منطلق هذا الفهم ويمكن القبض على ذلك بدءا بالغلاف وانتهاء بنهاية الرواية . وقد قسمت الروائية المغربية راضية العمري ابنة مدينة القصر الكبير روايتها "مدن الحلم والدم" الصادرة عن دار السليكي أخوين بطنجة إلى أربعة فصول معنونة كالتالي :الضفة الأخرى - النور - بسمة ماكرة – الرحيل. وهي فصول مترابطة يجمع بينها زمن تعاقبي وأحداث وأمكنة وشخصيات واقعية ساهمت في ابراز أزمة ومعاناة الشخصية الرئيسة زهرة صابر.
- أزمة الفرد من خلال غلاف وعنوان رواية "مدن الحلم والدم ":
إن أي قارئ لروايات منيف وهو يقرأ عنوان رواية راضية العمري سوف يستحضر مباشرة خماسية مدن الملح وسوف يذهب بتأويله إلى الإعجاب الشديد للروائية بهذا الكاتب ويمكن القبض على ذلك من اعتراف الساردة التي تنوب عن الروائية في سرد أحداث الرواية، فمدن الحلم والدم ومن خلال قراء تنا للرواية تحيلنا مباشرة على مدن اسبانية لأن اسبانيا كانت تمثل للساردة زهرة صابر حلم التخلص من معاناتها وفقرها.وقد كتب العنوان باللون الأحمر في دلالة على أن هذه المدن التي هي أمكنة لتحقيق أحلام الساردة لطخت بالدماء .فيما اختارت الروائية أن تدون اسمها باللون الأسود دلالة على الحزن والمعاناة . وتضمنت لوحة الغلاف صورة لفتاة في مقتبل العمل تتوسط أفقا أزرقا مشرعا على البحر والأمل وهي تودع من على ظهر مركب السفينة مدينتها متوجهة لمدن الحلم مدن اسبانيا . وهي الصورة التي تختزل أحداث الرواية بشكل مكثف تحيل على البحث عن الخلاص من مدن متعبة قاسية لمدن رحبة حالمة تصون كرامة الإنسان وتخلصه من معاناته .فهل تحققت أحلام الساردة زهرة بعد هجرتها إلى مدن الحلم أم العكس هو الذي حصل؟ هذا ماسوف تجيب عنه الفصول الأربعة للرواية .
- الضفة الأخرى وشغف تحقيق حلم الخلاص من الفقر:
استهلت الكاتبة راضية العامري الفصل الأول المعنون (بالضفة الأخرى )بعبارة شاعرية تكشف عن شغف الساردة بالهجرة إلى ضفة اسبانيا وهو الشغف الذي جاء نتيجة معاناة الساردة وأسرتها مع الفقر وجنون الأب . فالروائية من خلال الساردة ومن خلال هذا الفصل ركزت على معاناة الفرد وأزمته في وطنه وفي أسرته نتيجة الفقر والمرض والحرمان من أبسط ظروف العيش التي تحقق له كرامته فعناق الساردة للأحلام ومنها حلم الرحيل والهجرة إلى أروبا هو راجع لمعاناتها. وهكذا يجسد لنا هذا الفصل من الرواية صراع حلم الساردة في الهجرة ضد واقع الفقر الذي تعاني منه أم الساردة التي تشتغل كخادمة في البيوت من أجل اطعام أطفالها وعلاج زوجها المريض نفسيا بالدهان والذي تحول مع الوقت إلى جنون. تقول الساردة زهرة في هذا الفصل "كانت الأحلام ملاذي وترياقي الذي أرد به سموم الحياة"1. وهكذا سوف يكون خلاصها من هذا الفقر وما ينتج عنه من ألم ومعاناة هو سلوكها طريق الهجرة السرية بمساعدة صديقتها مريم عبر مركب متوجه من مدينة سبتة إلى مدينة برشلونة وانطلاقا من بداية رحلتها على المركب ومع اعتماد أسلوب الاسترجاع سوف تكتشف الساردة مدى الفرق ما بين حياتها التي كانت تعيشها في ظل الفقر بالمغرب وحياة الناس فعبر عملية الاستذكار والاسترجاع نكتشف حجم معاناة الساردة فهي كانت تسكن في غرفة حقيرة وتبيع الأعشاب على الرصيف وهي طفلة. وبالتالي فهجرتها إلى أروبا كانت بداية تحول حياة الساردة من المعاناة إلى السعادة وذلك بمساعدة صديقتها عزيزة خاصة بعد أن وجدت لها عملا كخادمة عند العجوز الإسبانية ايزابيل التي من خلالها ومن خلال عزيزة سوف تتحول من فتاة لا تجيد القراءة والكتابة إلا فتاة شغوفة بالأدب العربي والإسباني وهذا ما سيبدو جليا في الفصل الثاني المعنون بالنور لكن سعادتها لم تدم طويلا فكيف حصل ذلك؟
- معاناة الساردة مابين الأمل واليأس:
يكشف حسن اختيار الروائية راضية العامري لعناوين فصولها ولأسماء شخصيات روايتها عن معرفتها النظرية بكيفية اشتغال الرواية، وطريقة بنائها، وبوظيفة الأسماء كعلامات بتعبير فليب هامون في بناء دلالة النص وجماليته .فالأسماء تعرف بهوية شخصياتها، وصفاتهم .فاسم الشخصية الرئيسة زهرة في هذه الرواية يرمز لزهرة الحياة وأريجها لأمها وأسرتها، ويرمز كذلك لرومانسية الساردة وإنسانيتها ولتحولهاعبر أحداث الرواية لزهرة لكل من كمال والمتقي . فلم يكن اختيار الكاتبة لأسماء شخصياتها اختيارا اعتباطيا وإنما كان اختيارا مقصودا. فالبناء الفني لرواية مدن "الحلم والدم " يعبر عن براعة التخييل عند الروائية، ويعبر أكثر عن فهمها العميق لمكونات الرواية المعاصرة . فعند قراءتنا للفصل الموسوم( بالنور ) نرصد استثمارها لمجموعة من تقنيات السرد وأساليبه من وصف واسترجاع وحذف وتكثيف وحوار وهي أساليب وتقنيات حديثة ساهمت في إبراز معاناة الساردة وأزمتها النفسية . وقد اختارت الروائية راضية لهذا الفصل اسم النور كعنوان لهذا الفصل لما يختزله من تحول الساردة زهرة من ظلمات الجهل والمعاناة والفقر والحرمان إلى أنوار العلم والحرية والاستقرار والأمل . وكل ذلك بفضل صديقتها عزيزة والعجوز ايزابيل تقول الساردة :"كنت عندما أنتهي من عملي وتنام ايزابيل أظل أقرأ وأقرأ إلى أن أنام"2 فقد أعجبت الساردة بايزابيل، وأطالت الوصف في مدحها لأنها ساهمت في تشكيل الوعي عندها بنفسها وبالآخر وبالعالم وقضاياه الإنسانية والسياسية خاصة القضية الفلسطينية . فهل استمرت سعادة الساردة بالديارالإسبانية ؟ هذا ما سوف يكشف عنه الفصل الثالث من الرواية المعنون ببسمة ماكرة.
- انكسار أمل الساردة وتجدد معاناتها:
في هذا الفصل المعنون( ببسمة ماكرة) سوف تتجدد معاناة الساردة بموت العجوز إيزابيل وهي المعاناة التي لم تستمر طويلا بفضل مساعدة صديقتها أمل التي وجدت لها عملا بمتجر ابن عمها كمال ببرشلونة وهو رجل في الخمسينيات من عمره شغوف بالأدب والشعر الصوفي تقول الساردة مادحة خصال كمال :"مع كمال تعرفت على جلال الدين الرومي وكان عالما مدهشا ادخله أول مرة عالم الشعر الصوفي "3 لكن هذه السعادة التي غمرتها رفقة كمال سرعان ماتلاشت كالضباب تحت شمس المعاناة، حيث قتل حبيبها كمال في عملية ارهابية غادرة بمدينة مدريد مما أدى إلى انهيار الساردة ودخولها إلى المستشفى ، وتفكيرها في العودة من جديد إلى وطنها هروبا من كل ما يذكرها بكمال وهذا ما نكتشفه في الفصل الرابع المعنون بالرحيل.
- علاقة الموت بأزمة الساردة وقرار الرحيل:
تستهل الروائية راضية العمري فصلها الأخير من الرواية والمعنون (بالرحيل) بقول الساردة في جملة تلخص كل شيء "كان قرار عودتي إلى المغرب محاولة أخيرة لترميم مالايرمم" 4 وهوالقرار الذي شجعتها عليه صديقتها عزيزة بعد انهيارها بسبب مقتل كمال في الحادث الإرهابي. وأثناء عودتها سوف تبتسم لها الحياة مرة أخرى وتعطيها فرصة مؤقتة للنسيان بتعرفها في الطائرة أثناء عودتها على الأستاذ الجامعي سعيد المتقي .ورغم الود الذي جمعها به وإعجابها بطريقة تفكيره إلا أن العلاقة بينهما ظلت باردة، وربما كانت فقط محاولة لنسيان جراح الماضي .وفي هذا الفصل سوف تتحول زهرة من قارئة شغوفة إلى كاتبة مبدعة بحيث ستجعل من الكتابة وسيلة للنسيان خاصة بعدما تعمقت أزمتها بمقتل حبيبها الثاني سعيد المتقي الذي كانت تستعد للزواج منه بسبب صراع ما بين طلبة اليسار والطلبة الأصوليين تقول الساردة زهرة واصفة هذه اللحظة المدمرة التي أتت على ما تبقى من آمالها :"تسمرت عيناي عند قراءة العنوان الكبير بجريدتي المعتادة مقتل الدكتور سعيد متقي أستاذ السوسيولوجيا على إثر معركة دامية بين طلبة اليسار والطلبة الاصوليين"5 وبعد أن استنفدت كل الوسائل بما فيها علاقات الصداقة والحب اختارت الساردة زهرة الكتابة الإبداعية طريقا للتعبير والتخفيف عن معاناتها.
خاتمة:
وختاما استطاعت الروائية راضية العمري من خلال روايتها "مدن الحلم والدم "أن تكشف لنا عن الأزمة النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للفرد في المجتمع المعاصر وهي أزمة جسدتها بكل صدق الساردة زهرة صابر التي ماهي إلا نموذجا للمرأة التي تعيش صراعا مريرا ضد الفقر والحرمان والتهميش، والتي كلما ظنت أنها نجت منهم ظهروا لها من جديد على خشبة مسرح حياتها بشكل أمر من الأول .
الهوامش
- راضية العمري رواية "مدن الحلم والدم" دار سليكي اخوان طنجة الطبعة الأولى ص 7
- نفس المصدر ص46
- نفس المصدر ص67
4- نفس المصدر ص81
5 -نفس المصدر صص95
وسوم: العدد 1030