شعر المديح النبوي في الأدب العربي: ١

انتشر المديح النبوي الشريف منذ فجر الرسالة على ألسنة الصحابة حسان وكعب وابن رواحة وغيرهم.

ثم كتب الشعراء في هذا الغرض في العصر الأموي والعباسي؛ وازدهرت قصيدة المديح في العصر المملوكي على يد البوصيري؛ وصفي الدين الحلي ؛ وتابع شعراء العصر العثماني النظم في المديح وبرز الصيادي بكثرة قصائده.

ولقد جمع يوسف النبهاني العديد من قصائد المديح في الأنوار المحمدية.

وفي العصر الحديث كتب البارودي؛ وشوقي عدة قصائد .

وكان للشعراء الإسلاميين الكثير من قصائد المديح وقد برز منهم: شريف قاسم؛ ومصطفى عكرمة؛ .... وغيرهم.

1- مفهوم المديح النبوي:

المديح النبوي هو ذلك الشعر الذي ينصب على مدح النبي (صلعم) بتعداد صفاته الخلقية والخلقية وإظهار الشوق لرؤيته وزيارة قبره والأماكن المقدسة التي ترتبط بحياة الرسول (صلعم)، مع ذكر معجزاته المادية والمعنوية ونظم سيرته شعرا والإشادة بغزواته وصفاته المثلى والصلاة عليه تقديرا وتعظيما.

وۥيظهر الشاعر المادح في هذا النوع من الشعر الديني تقصيره في أداء واجباته الدينية والدنيوية، ويذكر عيوبه وزلاته المشينة وكثرة ذنوبه في الدنيا، مناجيا الله بصدق وخوف مستعطفا إياه طالبا منه التوبة والمغفرة. وينتقل بعد ذلك إلى الرسول (ص) طامعا في وساطته وشفاعته يوم القيامة. وغالبا ما يتداخل المديح النبوي مع قصائد التصوف وقصائد المولد النبوي التي تسمى بالمولديات.

وتعرف المدائح النبوية كما يقول الدكتور زكي مبارك بأنها فن:"من فنون الشعر التي أذاعها التصوف، فهي لون من التعبير عن العواطف الدينية، وباب من الأدب الرفيع؛ لأنها لا تصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص". [1]

ومن المعهود أن هذا المدح النبوي الخالص لا يشبه ذلك المدح الذي كان يسمى بالمدح التكسبي أو مدح التملق الموجه إلى السلاطين والأمراء والوزراء، وإنما هذا المدح خاص بأفضل خلق ألا وهو محمد (صلعم) ويتسم بالصدق والمحبة والوفاء والإخلاص والتضحية والانغماس في التجربة العرفانية والعشق الروحاني اللدني.

2- ظهــور المديح النبوي:

ظهر المديح النبوي في المشرق العربي مبكرا مع مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأذيع بعد ذلك مع انطلاق الدعوة الإسلامية وشعر الفتوحات الإسلامية إلى أن ارتبط بالشعر الصوفي مع ابن الفارض والشريف الرضي. ولكن هذا المديح النبوي لم ينتعش ويزدهر ويترك بصماته إلا مع الشعراء المتأخرين وخاصة مع الشاعر البوصيري في القرن السابع الهجري الذي عارضه كثير من الشعراء الذين جايلوه أو جاؤا بعده. ولاننسى في هذا المضمار الشعراء المغاربة والأندلسيين الذين كان لهم باع كبير في المديح النبوي منذ الدولة المرينية.

وهناك اختلاف بين الباحثين حول نشأة المديح النبوي، فهناك من يقول بأنه إبداع شعري قديم ظهر في المشرق العربي مع الدعوة النبوية والفتوحات الإسلامية مع حسان بن ثابت؛ وكعب بن مالك؛ وكعب بن زهير؛ وعبد الله بن رواحة.

وهناك من يذهب إلى أن هذا المديح فن مستحدث لم يظهر إلا في القرن السابع الهجري مع البوصيري؛ وابن دقيق العيد[2]

3- مرجعيات المديح النبوي:

قبل التغلغل في أعماق شعر المديح النبوي لابد أن نستقرىء المرجعيات التناصية المباشرة وغير المباشرة التي شكلت رؤية شعراء هذا الفن وخاصة في القديم والحديث، ولا بد من تحديد المتناص أو المصادر الشعرية القديمة والحديثة التي اعتمد عليها الشعراء في نظم قصائدهم النبوية.

فتبيان المعرفة الخلفية ضرورية لفهم النص الشعري قصد خلق انسجامه واتساقه، لأنه بمثابة آلية إستراتيجية في تحليل النص الأدبي وتفكيكه.

ويتضح بعد قراءة قصائد ودواوين المديح النبوي عبر تعاقبه التاريخي والفني أنه كان يستوحي مادته الإبداعية ورؤيته الإسلامية من القرآن الكريم أولا فالسنة النبوية الشريفة ثانيا.

كما أن هناك مصدرا مهما في نسج قصائد المديح النبوي يتمثل في كتب التفسير التي فصلت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تفصيلا كبيرا كما يظهر ذلك جليا في تفسير ابن كثير على سبيل التمثيل، بله عن كتب السيرة التي تتمثل في مجموعة من الوثائق والمصنفات التي كتبت حول سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام سواء أكانت قديمة أم حديثة وأذكر على سبيل المثال: "السيرة النبوية" لابن هشام، وسيرة ابن اسحق؛ و"الرحيق المختوم" لصفي الرحمن، و"السيرة النبوية"لأبي الحسن الندوي، و"السيرة النبوية" لابن حبان، و"الوفاء بأحوال المصطفى" لأبي الفرج عبد الرحمن الجوزي، و"الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض، و"فقه السيرة" لسعيد البوطي، و"فقه السيرة" لمحمد الغزالي، و"السيرة النبوية" لمحمد متولي الشعراوي، و"المنهج الحركي للسيرة النبوية" لمنير محمد الغضبان، و"السيرة النبوية: دروس وعبر" للدكتور مصطفى السباعي، و"نور اليقين" للخضري بك، و"في السيرة النبوية: قراءة لجوانب الحذر والحماية" للدكتور إبراهيم علي محمد أحمد، و"ملخص السيرة النبوية" لعبد السلام هارون...

4- تطور المديح النبوي في الشعر العربي القديم:

أول ما ظهر من شعر المديح النبوي ما قاله العباس بن عبد المطلب إبان ولادة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ شبه ولادته بالنور والإشراق الوهاج الذي أنار الكون سعادة وحبورا، يقول العباس بن عبد المطلب:

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفـــي النور وسبل الرشاد نختــرق [3]

وتعود أشعار المديح النبوي إلى بداية الدعوة الإسلامية مع قصيدة "طلع البدر علينا"، وقصائد شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم كحسان بن ثابت؛ وكعب بن مالك؛ وعبد الله بن رواحة؛ وكعب بن زهير صاحب اللامية المشهورة:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبـول متيم إثرها لم يفـــد مكبـول

وقد استحقت هذه القصيدة المدحية المباركة أن تسمى بالبردة النبوية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كسا صاحبها ببردة مطهرة تكريما لكعب بن زهير وتشجيعا للشعر الإسلامي الملتزم الذي ينافح عن الحق وينصر الإسلام وينشر الدين الرباني.

ونستحضر قصائد شعرية أخرى في هذا الباب كقصيدة الدالية للأعشى التي مطلعها:

ألم تغتمض عيناك ليلـــة أرمدا وعاداك ماعاد السليم المسهدا

ومن أهم قصائد حسان بن ثابت في مدح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عينيته المشهورة في الرد على خطيب قريش عطارد بن حاجب:

إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنة للنـــاس تـــــتبع

ولا ننسى همزيته المشهورة في تصوير بسالة المسلمين ومدح الرسول (صلعم) والإشادة بالمهاجرين والأنصار والتي مطلعها:

عفت ذات الأصابــــع فالجــواء إلى عذراء منـــزلها خــــلاء

ومن أهم شعراء المديح النبوي في العصر الأموي الفرزدق ولاسيما في قصيدته الرائعة الميمية التي نوه فيها بآل البيت واستعرض سمو أخلاق النبي الكريم وفضائله الرائعة، ويقول في مطلع القصيدة:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيـت يعرفه والحل والحـرم

وقد ارتبط مدح النبي صلى الله عليه وسلم بمدح أهل البيت؛ والصحابة وتعداد مناقب بني هاشم وأبناء فاطمة كما وجدنا ذلك عند الفرزدق والشاعر الشيعي الكميت الذي قال في بائيته:

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا مني وذو الشوق يلعب

ويندرج ضمن هذا النوع من المدح تائية الشاعر الشيعي دعبل التي مدح فيها أهل البيت قائلا في مطلعها:

مدارس آيات خلـت من تلاوة ومنزل حي مقفــر العرصات

ويذهب الشريف الرضي مذهب التصوف في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر مناقب أهل البيت وخاصة أبناء فاطمة الذين رفعهم الشاعر إلى مرتبة كبيرة من التقوى والمجد والسؤدد كما في داليته:

شغل الدموع عن الديار بكاؤنا لبكاء فاطمـة على أولادها

ويقول أيضا في لاميته الزهدية المشهورة التي مطلعها:

راجل أنــت والليالي نزول ومضر بك البقــاء الطويـــل

وللشاعر العباسي مهيار الديلمي عشرات من القصائد الشعرية في مدح أهل البيت والإشادة بخلال الرسول صلى الله عليه وسلم؛وصفاته الحميدة التي لاتضاهى ولا تحاكى.

ولكن يبقى البوصيري الذي عاش في القرن السابع الهجري من أهم شعراء المديح النبوي ومن المؤسسين الفعليين للقصيدة المدحية النبوية والقصيدة المولدية كما في قصيدته الميمية الرائعة التي مطلعها:

أمن تذكر جيــــــران بذي سلم

مزجت دمعا جرى من مقلــــة بـــدم

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة

وأومض البرق في الظلماء من إضم

وقد عورضت هذه القصيدة من قبل الكثير من الشعراء القدامى والمحدثين والمعاصرين، ومن أهم هؤلاء الشعراء ابن جابر الأندلس في ميميته البديعية التي استعمل فيها المحسنات البديعية بكثرة في معارضته الشعرية التي مطلعها:

بطيبة انزل ويمم سيـــد الأمم

وانشر له المدح وانثر أطيب الكلــــم

ومن شعراء المديح النبوي المتأخرين الذين عارضوا ميمية البوصيري عبد الله الحموي الذي عاش في القرن التاسع؛ وكان مشهورا بميميته:

شدت بكم العشاق لما ترنموا

فغنوا وقد طاب المقام وزمزم

ومن الشعراء الذين طرقوا غرض المديح النبوي الشاعر ابن نباتة المصري، فقد ترك لنا خمس قصائد في المديح النبوي كهمزيته التي مطلعها:

شجون نحوها العشاق فاءوا

وصب مالـــــه في الصبر راء

ورائيته التي مطلعها:

صحا القلب لولا نسمة تتخطر

ولمعة برق بالغــــــضا تتسعر

وعينيته التي مطلعها:

يا دار جيرتنا بسفح الأجــــرع

ذكرتك أفواه الغيوث الهــــمع

ولاميته التي مطلعها:

ما الطرف بعدكم بالنوم مكحول

هذا وكم بيننا من ربعكم ميــل

والميمية التي مطلعها:

أوجز مديحك فالمقـــــام عظيم

من دونـــه المنثور والمنظوم

5- شعر المديح النبوي في الأدب المغربي والأندلسي:

إذا انتقلنا إلى الأدب المغربي لرصد ظاهرة المديح النبوي، فقد كان الشعراء المغاربة سباقين إلى الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ونظم الكثير من القصائد في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وتعداد مناقبه الفاضلة وذكر صفاته الحميدة وذكر سيرته النبوية الشريفة وذكر الأمكنة المقدسة التي وطئها نبينا المحبوب. و كان الشعراء يستفتحون القصيدة النبوية بمقدمة غزلية صوفية يتشوقون فيها إلى رؤية الشفيع وزيارة الأمكنة المقدسة ومزارات الحرم النبوي الشريف، وبعد ذلك يصف الشعراء المطية ورحال المواكب الذاهبة لزيارة مقام النبي الزكي، وينتقل الشعراء بعد ذلك إلى وصف الأماكن المقدسة ومدح النبي (صلعم) مع عرضهم لذنوبهم الكثيرة وسيئاتهم العديدة طالبين من الحبيب الكريم الشفاعة يوم القيامة لتنتهي القصيدة النبوية بالدعاء والتصلية.

ومن أهم الشعراء المغاربة الذين اشتهروا بالمديح النبوي نستحضر مالك بن المرحل كما في ميميته المشهورة التي يعارض فيها قصيدة البوصيري الميمية [4]:

شوق كما رفعت نار على علم

تشب بين فروع الضال والسلـــم

ويقول في قصيدته الهمزية مادحا النبي عليه الصلاة والسلام [5]:

إلى المصطفى أهديت غر ثنائي

فيا طيب إهدائي وحسن هدائي

أزاهير روض تجتنى لعطـــارة

وأسلاك در تصـــــطفى لصفاء

ونذكر إلى جانب عبد المالك بن المرحل الشاعر السعدي عبد العزيز الفشتالي الذي يقول في إحدى قصائده الشعرية [6]:

محمد خير العالميــن بأســرها

وسيد أهل الأرض م الإنس والجان

أما القاضي عياض فقد خلف مؤلفات عديدة وقصائد أغلبها في مدح الرسول والتشوق إلى الديار المقدسة كما في قصيدته الرائية [7]:

قف بالركاب فهذا الربع والدار

لاحـــت علينــــــا من الأحباب أنوار

ومن شعراء الأندلس الذين اهتموا بالمديح النبوي وذكر الأماكن المقدسة لسان الدين بن الخطيب الذي يقول في قصيدته الدالية [8]:

تألق "نجديا" فاذكرني "نجدا"

وهاج لي الشوق المبرح والوجدا

وميض رأى برد الغمامة مغفلا

فمد يدا بالتبــــــــر أعلمت البردا

6- المديح النبوي في العصر الحديث:

من يتأمل دواوين شعراء خطاب البعث والإحياء أو ما يسمى بشعراء التيار الكلاسيكي أو الاتجاه التراثي فإنه سيلفي مجموعة من القصائد في مدح الرسول تستند إلى المعارضة تارة أو إلى الإبداع والتجديد تارة أخرى. ومن الشعراء الذين برعوا في المديح النبوي نذكر: محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد الحلوي وآخرين كثيرين...

فمن قصائد محمود سامي البارودي قصيدته الجيمية التي يقول فيها:

يا صارم اللحظ من أغراك بالمهج

حتى فتكت بها ظلما بلا حـرج

مازال يخدع نفسي وهي لاهية

حتى أصاب سواد القلب بالدعج

طرف لو أن الظبا كانت كلحظته

يوم الكريهة ما أبقت على الودج

وهذه القصيدة هي في الحقيقة معارضة لقصيدة الشاعر العباسي الصوفي ابن الفارض التي مطلعها:

ما بين معترك الأحداق والمهـــج

أنا القتيل بلا إثم ولا حــــــــرج

ومن قصائد محمود سامي البارودي في المديح النبوي قصيدته "كشف الغمة في مدح سيد الأمة" وعدد أبيات هذه القصيدة 447 ، ومطلع القصيدة هو:

يا رائد البرق يمم دارة العلــــــم

واحد الغمام على حي بذي سلم

ومن الشعراء الآخرين الذين نظموا على منوال البردة الشيخ أحمد الحملاوي في قصيدته التي سماها كذلك بـــ "منهاج البردة" ومطلعها:

يا غافر الذنب من جود ومن كرم

وقابل التوب من جان ومجترم

ويحذو أحمد شوقي حذو البارودي في معارضة الشعراء القدامى في إبداع القصائد المدحية التي تتعلق بذكر مناقب النبي وتعداد معجزاته وصفاته المثلى كما في همزيته الرائعة التي مطلعها:

ولد الهدى فالكائنات ضيــــــاء

وفي فم الزمــان تبسم وثناء

ويقول في مولديته البائية:

سلوا قلبي غداة سلا وتـــــابا

لعل على الجبــــال له عتابـــا

ومن أحسن قصائد أحمد شوقي في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم قصيدته الميمية التي عارض فيها قصيدة البردة للبوصيري ومطلع قصيدة شوقي هو:

ريم على القاع بين البان والعلـــم

أحل سفك دمي في الأشهر الحرم

ومن الشعراء المغاربة المعاصرين الذين مدحوا النبي صلى الله عليه وسلم نذكر الشاعر المراكشي إسماعيل زويريق الذي خصص كتابين لسيرة الرسول تحت عنوان: "على النهج" [9] يعارض فيهما شعراء المديح النبوي. ومن القصائد التي نظمها في المدح نذكر القصائد التالية:

1- قصيدة "بانت سعاد" التي يعارض فيها قصيدة كعب بن زهير:

بانت سعاد فما للحزن تمهيــل

الدمع منسجل والجسم مهزول

2- قصيدة "البردة يا شاكي البان" يعارض فيها قصيدة البوصيري:

يا شاكي البان كم في البين من سقم؟

شكواك تنساب لحنا دافــق الألم

3- قصيدة "المرتجية" كما في مطلع قصيدته الجيمية التي يعارض فيها القصيدة "المنفرجة" لابن النحوي:

إن ضـــاق الأمـــــر فلا تهج

فغدا قد يأتــي بالفـــــــرج

4- قصيدة "في رحاب المدينة" التي عارض فيها قصيدة الهمزية للبوصيري :

هاتها، ما للنفس عنها غناء

جابني الشوق حين عز الدواء

5- قصيدة "السينية في مدح خير البرية"، التي عارض فيها الشاعر سينية البحتري، ومطلع القصيدة هو:

يجهر البين ما تخفى بنفسي

فسقاني كأس الشجا بعد كأس

6- قصيدة "كل مديح فيه مختصر" وهي رائية الروي ومطلعها:

رأيت كل مديح فيه مختصرا

فما تعد سجاياه وتختصر

7- قصيدة "الدالية في الرد على من أساء إلى الرسول برسوماته الكاريكاتورية" عارض فيها دالية أبي العلاء المعري ومطلعها:

أما أعنى الذي رسموا الفؤادا

فما للصمت يلزمني الحيادا.

7- خصائص المديح النبوي مضمونا:

من أهم مميزات المديح النبوي أنه شعر ديني ينطلق من رؤية إسلامية، ويهدف إلى تغيير العالم المعاش وتجاوز الوعي السائد نحو وعي ممكن يقوم على المرجعية السلفية بالمفهوم الإيجابي. كما أن هذا الشعر تطبعه الروحانية الصوفية من خلال التركيز على الحقيقة المحمدية التي تتجلى في السيادة والأفضلية والنورانية. ويعني هذا أن المديح النبوي يشيد بالرسول باعتباره سيد الكون والمخلوقات، وأنه أفضل البشر خلقة وخلقا، وهو كذلك كائن نوراني في عصمته ودماثة أخلاقه. لذلك يستحق الممدوح كل تعظيم وتشريف، وهو أحق بالتمثل واحتذاء منهجه في الحياة، كما أن عشق الرسول في القصيدة النبوية يتخذ أبعادا روحانية وجدانية وصوفية.

ويلاحظ على الغزل الموجود في كثير من القصائد النبوية أو المولدية أنه غزل يتجاوز النطاق الحسي الملموس إلى ماهو مجازي وإيحائي. أي ينتقل هذا الغزل من النطاق البشري إلى نطاق الحضرة الربانية.

ويسافر شعر المديح النبوي في ركاب الدعوة المحمدية وشعر الفتوحات الإسلامية ليعانق التيارات السياسية والحزبية فيتأثر بالتشيع تارة والتصوف تارة أخرى. ولن يجد هذا الشعر استقراره إلا مع شعراء القرن التاسع الهجري مع البوصيري وابن دقيق العيد. بيد أن شعر المديح النبوي سيرتبط في المغرب بعيد المولد النبوي وشعر الملحون والطرب الأندلسي ليصبح في العصر الحديث شعرا مقترنا بالمعارضة في غالب الأحيان.

وعلى أي حال، يتميز المديح النبوي بصدق المشاعر ونبل الأحاسيس ورقة الوجدان وحب الرسول طمعا في شفاعته ووساطته يوم الحساب. وما حب الرسول في القصيدة المدحية إلا مسلك للتعبير عن حب الأماكن المقدسة والشوق العارم إلى زيارة قبر الرسول والوقوف على جبل عرفات والانتشاء بكل الأفضية التي زارها الحبيب أثناء مواسم العمرة والحج.

8- خصائص المديح النبوي شكلا:

تستند أغلب قصائد المديح النبوي إلى القصيدة العمودية القائمة على نظام الشطرين ووحدة الروي والقافية واعتماد التصريع والتقفية في المطلع الأول من القصيدة.

وتتسم القصائد النبوية والمولدية الحديثة ذات النمط الكلاسيكي أو التراثي بتعدد الأغراض والمواضيع على غرار الشعر العربي القديم، والسبب في هذا التعدد هو معارضة القصائد الأصلية كقصائد البوصيري وقصائد ابن الفارض وقصيدة كعب بن زهير وغيرها. وهذه المعارضة تدفع الشاعر إلى انتهاج نفس البناء والسير على نفس الإيقاع والروي والقافية واستخدام نفس الألفاظ والأغراض الشعرية. ومن ثم، فالقصيدة النبوية تتكون على مستوى البناء من المقدمة الغزلية ووصف المطية ومدح الرسول والتصلية والدعاء والاستغفار والتوبة. وهذا ما أفقد المديح النبوي الوحدة الموضوعية والعضوية على الرغم من وجود الاتساق اللغوي على مستوى السطح الظاهري والانسجام على مستوى العمق الدلالي.

وفيما يخص الإيقاع الخارجي، تعتمد قصائد المديح النبوي على البحور الطويلة الجادة التي تتناسب مع الأغراض الجليلة الهامة كالمديح النبوي والتصوف الروحاني والتشيع لآل البيت، لذلك يستعمل شعراء المديح النبوي البحر الطويل والبحر البسيط والبحر الكامل والبحر الوافر والبحر الخفيف. وبعد البحر البسيط من أهم البحور المفضلة لدى شعراء المديح النبوي ولدى شعراء المعارضة. ومن المعلوم أن البردة التي نظمها الشاعر البوصيري كانت على البحر البسيط، لذلك أصبحت هذه القصيدة نموذجا يقتدى به في الشعر العربي الحديث من قبل شعراء المديح النبوي موضوعا وإيقاعا وصياغة.

ومن أهم القوافي التي استعملت كثيرا في الشعر النبوي الميم والسين واللام والتاء والهمزة والجيم. وهي قوافي صالحة وطيعة لرصد التجربة الشعرية المولدية أو النبوية أو الصوفية الروحانية ماعدا قافية الجيم التي تثير جرسا خشنا ونشازا شاعريا.

وعلى مستوى الإيقاع الداخلي، فشاعر المديح النبوي يستعمل بكثرة ظاهرة التصريع والتوازي الصوتي والتكرار الإيقاعي والجمع بين الأصوات المهموسة والأصوات المجهورة. وينسجم هذا الإيقاع الشعري بكامله مع الجو الموسيقي والنفسي والدلالي للقصائد المدحية.

وتمتح اللغة الشعرية ألفاظها المعجمية في قصيدة المديح النبوي من حقل الدين وحقل الذات وحقل العاطفة وحقل الطبيعة وحقل المكان وحقل التصوف. كما يمتاز المعجم الشعري بالجزالة وفخامة الكلمات وقوة السبك ورصانة الصياغة وهيمنة المعجم التراثي وغلبة الألفاظ الغريبة غير المألوفة. لذلك يغلب الجانب التراثي والبيان السلفي على هذا الشعر الديني كتابة وتعبيرا وصياغة.

ويستخدم هذا الشاعر المادح لرسول الله الجمل الفعلية الدالة على التوتر والحركية والجمل الاسمية الدالة على الإثبات والتأكيد، ونجد كذلك المزاوجة بين الأساليب الخبرية والإنشائية قصد خلق الوظيفة الشعرية بمكوناتها الإيحائية والمجازية. وغالبا ما يستوجب مكون السيرة وسرد المعجزات الأسلوب الخبري، بينما يفترض تدخل الذات وإظهار المشاعر والانطباعات الانتقال من أسلوب إنشائي إلى آخر حسب السياقات المقصدية والوظيفية.

ويشغل شعر المديح النبوي الصور الشعرية الحسية القائمة على المشابهة من خلال استخدام التشبيه والاستعارة، والاستعانة بالصورة المجاورة عبر المزج بين المجاز المرسل والكناية الإحالية في التصوير والبيان. ويمكن أن تتخذ الصور البلاغية ذات النطاق الحسي طابعا رمزيا خاصة في المقاطع الصوفية العرفانية. ويتراوح البديع في المديح النبوي بين العفوية المطبوعة والتصنع الزخرفي في القصائد المدحية البديعية التي نظمت في العصور المتأخرة كما عند ابن جابر الأندلسي في ميميته البديعية.

وينتقل الشاعر تداوليا في قصائده المدحية من ضمير المتكلم الدال على انفعالية الذات والانسياق وراء المناجاة الربانية والاستعطاف الذاتي إلى ضمير المخاطب أو الغياب للتركيز على الممدوح وصفا وإشادة وتعظيما.

خاتمــــة:

ويتضح لنا - مما سبق ذكره - أن شعر المديح النبوي شعر صادق بعيد عن التزلف والتكسب، يجمع بين الدلالة الحرفية الحسية والدلالة الصوفية الروحانية. كما يندرج هذا الشعر ضمن الرؤية الدينية الإسلامية، ويمتح لغته وبيانه وإيقاعه وصوره وأساليبه من التراث الشعري القديم. مما أسقط هذا الشعر في كثير من الأحيان في التكرار والابتذال والاجترار بسبب المعارضة والتأثر بالشعر القديم صياغة ودلالة ومقصدية.

وعلى الرغم من ذلك، فقد استطاع بعض الشعراء أن يتفوقوا في شعر المديح النبوي كمحمود سامي البارودي وأحمد شوقي و الشاعر المغربي إسماعيل زويريق في مجموعته الشعرية الطويلة المتسلسلة" على النهج...".

وعليه، فالمديح النبوي شعر ديني يركز على سيرة النبي وفضائله النيرة، وقد رافق هذا الشعر مولده وهجرته ودعوته، كما واكب فتوحاته وحب آل البيت فانصهر في شعر التصوف ليصبح فنا مستقلا مع البوصيري وابن دقيق العيد. وفي العصر الحديث، ارتبط هذا الشعر بالمناسبات الدينية وعيد المولد النبوي، وفي نفس الوقت خضع لمنطق المعارضة المباشرة وغير المباشرة.

بيد أن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا: إلى أي مدى يمكن الحديث عن المديح النبوي في الشعر المعاصر، أي في قصيدة التفعيلة والقصيدة النثرية؟ وهل ثمة حضور لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالصورة التي وجدناها في الشعر التراثي القديم أو الشعر البياني الحديث أم بصورة أخرى مخالفة؟ هذا ما سنعرفه في مقالات لاحقة إن شاء الله.

مصادر البحث:

[1] انظر الدكتور زكي مبارك: المدائح النبوية في الأدب العربي، منشورات المكتبة العصرية، صيدا بيروت، الطبعة الأولى 1935، ص:17؛

[2] الدكتور عباس الجراري:الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط2، 1982م،ص:141؛

[3] نفس المرجع السابق، ص:142؛

[4] لسان الدين بن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق: محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 1975م، ج3، ص:314-315؛

[5] محمد بن تاويت: الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى، ج1، دار الثقافة، البيضاء، الطبعة 1، 1982، ص:339-340؛

[6] عبد العزيز الفشتالي: شعر عبد العزيز الفشتالي، جمع ودراسة وتحقيق : نجاة المريني، ص:420-428؛

[7] القصيدة من مخطوطة بالخزانة العامة بالرباط في مجموع من ورقة 166-168، رقم:744؛

[8] لسان الدين بن الخطيب: ديوان لسان الدين بن الخطيب، تحقيق: الدكتور محمد مفتاح، المجلد1، دار الثقافة، البيضاء، ط1، 1989، ص:346-350؛

[9] انظر إسماعيل زويريق: على النهج، الجزء 1، ط1،2004م، مطبعة وليلي، مراكش ؛ وانظر كذلك: على النهج، الجزء2، مطبعة وليلي، مراكش، الطبعة1 سنة 2006م؛

وسوم: العدد 1034