جبينة والشاطر حسن: تراثٌ في حُلّة جديدة
جبينة والشاطر حسن رواية للفتيات والفتيان، للكاتب المقدسي الشيخ جميل السلحوت، إصدار مكتبة كلّ شيء حيفا(2023)،
تصميم شربل إلياس، عدد صفحاتها 117 صفحة من القطع المتوسّط.
يشير عنوان الرواية لحكايتين شعبيتين في تراثنا الفلسطينيّ: قصة جبينة وقصة الشاطر حسن.
أمّا قصّة جبينة في التراث فتحكي عن الفتاة جبينة التي ولدتها أمّها بعد صعوبات في الحمل ومعاناة وطول انتظار، كانت جبينة بيضاء كقرص الجبن وجميلة جدا، ذاع صيتها وجمالها في البلاد فخطبها ابن أمير من بلاد بعيدةـ وأثناء السفر على الخيول والدواب، تتغلّب الخادمة السوداء على جبينة، فتركب بدلا منها الفرس، وتأمر جبينة بالمشي على قدميها، وحين يصل الجميع الى مشحرة فحم تأمر الخادمة جبينة بتشحير وجهها بالفحم فغدت سوداء، أمّا الخادمة السوداء فبيّضت وجهها بالمبيضة، وهكذا يتزوج الأمير الخادمة ظانًّا أنها جبينة، في حين تعمل جبينة في رعي الماشية، وفي المرعى تغني:
" يا طيور طايرة ويا وحوش سايرة
قولوا لامي وأبوي جبينة صارت راعية
ترعى غنم وترعى نوق وتقيّل نحت الدالية.
وذات يوم سمعها السلطان فعرّف قصّتهاـ فزوّجها لابنه وتم القضاء على الجارية. أمّا الشاطر حسن فقد أحبّ بنت السلطان حين كان يلتقي بها على الشاطئ خلال صيده، وكذلك الأميرة أحبته، ولما تقدّم لخطبتها اشترط والدها السلطان أن يحضر له الشاطر حسن درّة ثمينة. حزن الشاطر حسن ودبّ اليأس في قلبه فمن أين له بالدرّة الثمينة وهو الفقير؟ ذات يوم اصطاد سمكة ووجد بداخلها درّة فأهداها للسلطان وتزوّج ابنته.
لقد أخذ الكاتب جميل السلحوت بعض الأحداث من القصتين ودمجهما مع قصّته فبدت لنا قصّة حديثة تنبض بأصالة التراث.
قصة جبينة والشاطر حسن قصة جميلة شائقة تحكي لنا عن الفتاة الجميلة جبينه التي ولدتها أمها بعد معاناة، وذلك بعد أن استدعت بائعة اللبن والجبن لأمّ جبينه أن يحقق لها الله ما تتمناه، فتمنت الأمّ أن يرزقها الله فتاة جميلة بيضاء كقطعة الجبن. عاشت الفتاة سعيدة مع والديها اللذين كانا يعيشان في باب حُطّة قريبا من برج اللقلق في القدس القديمة.
كانت جبينه تتمتع إضافة الى جمالها بذكاء حادّ ونباهة. طلبت جبينه من والدتها بثينة أن تنجب لها أختا، ولمّا تعذّر عليها ذلك اقترحت على زوجها أن يتزوج من امرأة أخرى، لكن الزوج كنعان رفض ذلك، ثمّ قدمت ذات يوم امرأة أرملة مع ابنتها وطلبت من كنعان أن تعمل ابنتها زينب معه في بقّالته، فوافق كنعان وعرض عليها أن يأخذها؛ لتعيش في بيته مع ابنته. وافقت الأمّ على ذلك. وهكذا عاشت زينب وجبينة في بيت واحد وأصبحتا أختين.
ذات يوم حين كانت العائلة في البراري، دخلت جبينه أحد الكهوف، فرأت حجرا نافرا في الحائط فطلبت من زينب أن تنظر فيه، وحين ضربت زينب الحجر برجلها، سقط الحجر فظهرت في الفتحة جرّتان مليئتان بالذهب والقطع الأثرية النادرة، وهكذا فتحت أبواب السماء رزقها الكبير لعائلة كنعان وعائلة زينب.
في أحد الأيام اختطف لصوص زينب وجبينة اللتين كانتا ترتديان الحليّ والجواهر. أعلن كنعان عن منح خمسين ليرة ذهبا لكل من يعثر على الفتاتين. سمع بذلك الشاطر حسن وهو ابن شاه بندر التجار من أثرياء المدينة، فذهب هو وأخوه حسين للبحث عن الفتاتين، فسمعا طائرا ينشد :
" يا طيور طايرة ويا وحوش سايره
قولوا لامّي وأبوي جبينة صارت راعيه
ترعى غنم وترعى نوق وتقيّل نحت الداليه
فاستدلا على مكانهما في مكان مرعى تكثر فيه الدوالي، وفي ذلك إشارة الى مدينة أريحا، فوجداهما مقيدتين تحت الدالية، فأنقذاهما، خطب كنعان والد جبينة في الناس معلنًا خطوبة ابنته على الشاطر حسن وزينب على حسين. لكن الأخوين اشترطا أولا إلقاء القبض على اللصوص ومعاقبتهم.
ثيمات وقيم في الرواية:
1) أهمية التعرّف على بلادنا، والقيام برحلات في البراري والاستمتاع بجمالها.
2) علاقة التآخي والمحبّة بين المسلمين والمسيحيين، وقد تجلّت هذه العلاقة حين تبرّع الشاطر حسن بباصات من عنده؛ لأخذ الأطفال وذويهم في رحلات الى البراري، وتوجّه الى بطريرك المدينة طالبا منه تعميم الدعوة على رعيته، كما طلب من إمام المسجد الأقصى تعميم الدعوة على المصلّين.
3) ذكر أسماء نباتات لتعريف القرّاء بها منها: حويرة، خبيزة، حمّيض، المرْو وغيرها
4) ذكر أسماء حيوانات تعيش في البراري وتقديم معلومات عنها: الحنش، الثعلب، الأفعى، العقارب،
5) الكرم والجود وحسن الضيافة التي يتحلّى بها البدو الساكنين في البراري.
6) الوفاء بالوعد، فقد وعد كنعان زينب أن يعطيها حصّتها كاملة من الكنز الثمين الذي عثرت عليه جبينة وزينب.
7) المحافظة على آثار بلادنا وعدم بيعها للأجانب:" هؤلاء يأتون الى بلادنا؛ ليسلبوا وينهبوا ثروات وتاريخ وثقافة هذه الأمّة وهذه البلاد". ص 99.
أسلوب السرد والمبنى الحكائي
تميّز أسلوب السرد في هذه الرواية ب"الرؤية من الخلف": يتميّز السارد فيها بكونه يعرف كلّ شيء عن شخصيّات عالمه، بما في ذلك أعماقها النفسانيّة، مخترقًا جميع الحواجز كيفما كانت طبيعتها. (بوطيّب، 1993، ص.72 ) كان الراوي السارد ممسكا بخيوط الرواية، فيأتي السرد تارة بلسان الراوي، ثم ينتقل السرد إلى شخصيات الرواية، متمثلا بالحوارات الخارجية والداخلية.
يعرّف الدكتور خليل رزق (1998) المبنى الحكائيّ بأنّه "الحبكة" (sujet)، "وهو بمعنى تنظيم الأحداث في صياغة فنّيّة، حسب ظهورها في الخطاب السرديّ، ولا تتوجّب طريقة عرض أحداث الحبكة التطابق والتسلسل الزمنيّ للأحداث في الحكاية، فالمؤلّف يستطيع ترتيب أحداث الحكاية، بطرق متعدّدة، فقد يلجأ إلى استرجاع الماضي أو استشراق المستقبل" (رزق، 1998، ص. 39-40)
وهذا ما فعله الكاتب جميل السلحوت في روايته، فقد لجأ الى الماضي الى التراث وأدخله في روايته في أسلوب شائق، كما أنه استخدم الاستشراف، حيث تنبّأ أحد الرجال بمستقبل عظيم للفتاة جبينه، وبأنها ستتزوج ابن الحاكم، وأوصى والده بالحفاظ عليها.
المكان في الرواية:
يُعدّ المكان واحدًا من أهمّ المكوّنات السرديّة؛ فإنّ أيّ نصّ سرديّ يحتمل الوقوع ضمن وسط مادّيّ يشكّل خلفيّة للأحداث، ويُسهم، إلى جانب بقيّة مكوّنات النصّ السرديّ، في إيصال الرسالة النصّيّة.
يدخل المكان في علاقات متعدّدة مع مكوّنات العمل الروائيّ السرديّة، من شخصيّات وزمن ورؤية وغيرها، تجعل كلًّا منها مؤثّرًا في الآخر. ففي حين يُسهم المكان في صياغة الشخصيّات وبيان اهتماماتها ومستواها الاجتماعيّ والفكريّ، تعبّر الشخصيّة في مستويَيْها الاقتصاديّ والاجتماعيّ عن مكان سكناها، من غير الحاجة إلى الإسهاب في وصْف مكانها وتعليله. الطويسي، (2004، ص. 167.).
تُعَدُّ علاقة المكان مع الزمن علاقة وطيدة أيضًا؛ إذ إنّ الزمان والمكان أصبحا جزءًا من الفضاء السرديّ، عامّةً، والروائيّ، خاصّة، كما هو شأنهما في الفضاء الواقعيّ، فلم يعد ممكنًا أن تتخيّل فضاء الرواية من دون تخيُّل الزمن الذي ينبني من خلاله، فالزمن أصبح البعد الرابع للمكان، ما يعني أنّ حضور أحدهما يُلزم، بالضرورة، حضور الآخر.( محمود، 2009، ص. 290.).
في رواية جبينة والشاطر حسن لعب المكان دورًا هامّا ومركزيًّا، فقد دارت الأحداث في مدينة القدس وفي البراري المحيطة بها وفي أريحا، ومن خلال هذه الأمكنة استشعرنا عظمة القدس وأهميّتها للمسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء، يقول الراوي:" ترى الهلال على مآذن المساجد، يعانق الصليب على أبراج الكنائس والأديرة، فيمتلئ قلبها ايمانا". ص 5.
أمّا البراري فكانت مكانا للأصالة والجمال والاسترخاء والهروب من صخب الحياة وضجيجها، فللبراري سحرها الخاصّ، لكنها مع ذلك تحفل بالمخاطر والحيوانات المؤذية. مع ذلك فإن هذا المكان هو جزء لا يتجزّأ من الوطن الجميل، لذا من الضروري جدا أخذ الأطفال إليه وتعريفهم به.
وقد لعبت المغارة دورا مركزيا في تغيير مجرى أحداث الرواية، فكانت المغارة المكان الذي جلب الغنى والسعادة لأسرتيّ جبينة وزينب.
أمّا الزمان فقد امتزج بالمكان، ولم يثبت على حال، فشخصيّتا الشاطر حسن وجبينىة، حضرا من الزمن الماضي، وتمثّلا في الحاضر، وكأنهما وحدة واحدة، فها هو الشاطر حسن ابن شاه بندر التُّجار يصول ويجول على فرسه في القدس، في حين يستخدم الناس السيارات للتنقل من مكان لآخر، والشاطر حسن الذي جاء به الراوي من قصص التراث، جعله بطلا مركزيا في روايته، يحارب الأشرار ويخلّص زينب وجبينة من براثنهم. فيغدو الزمان والمكان مسرحا لحكاية خياليّة ترتدي حلّة الواقع وتكشف لنا عري الأشرار.
استخدم الكاتب في سرده لغة معياريّة سليمة تناسب جيل الفتيات والفتيات، تحفل بالتناص، المأخوذ من قصتي جبينة والشاطر حسن التراثيتين، وبيت من الشعر الجاهلي لامرئ القيس الذي استشهد به الكاتب:" مكرٍّ مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معا كجلمود صخر حطّه السيل من علِ". ص 72. كما أن الأسماء التي اختارها الكاتب لشخصيّات روايته، ترتبط ارتباطا وثيقا بتراثنا وتاريخنا. فالشاطر حسن وجبينة اسمان لحكايتين تراثيتين كما أسلفنا، والاسم كنعان( والد جبينة)هو اسم بلادنا الذي أطلق عليها بعد قدوم الكنعانيين من شبه جزيرة العرب للعيش فيها، وقد سميت البلاد باسمهم أرض كنعان( وتعني الأرض المنخفضة). أمّا بثينة(والدة جبينه) فهو اسم شاع في الشعر الجاهلي في قصيدة الشاعر جميل بن معمر الملقب جميل بثينة. وهذا الاسم يعني الأرض السهلة اللينة الطيبة الإنبات، وقد جاء الكاتب بذكر الكثير من النباتات التي تنمو في بلادنا. اسم خيزرانة(والدة زينب) هو اسم أيضا معروف في تاريخ الإسلام، فالخيزرانة هي زوجة الخليفة العباسي المهدي ووالدة الخليفة هارون الرشيد والخليفة موسى الهادي، وكانت معروفة بذكائها وفطنتها، أمّا زينب فهو اسم بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو اسم لنبات عشبيّ.
أتساءل ماذا أراد الكاتب أن يوصل لفتياتنا وفتياننا من خلال روايته هذه؟
هل أراد لهم العودة الى التراث وتحديثه بحيث يغدو ملائما لتطوّرات العصر؟ أم أراد لهم التعرّف على بلادهم وغرس حبّ الوطن في نفوسهم؟ أم أراد أن يغرس في نفوسهم قيم الإخاء والمحبّة بين الطوائف والملل؟ وقيم الوفاء والمساعدة ومحاربة الأشرار؟ أو ربّما أراد أن يأخذ قصص التراث ويعيد صياغتها من جديد بحيث تواكب التغييرات في مجتمعنا وتتماشى مع عقول فتياتنا وفتياننا، بهدف نقل القيم الجميلة المستقاة من القصص الشعبية التراثية وترسيخها في نفوس فتياتنا وفتياننا؟
أم أراد الكاتب جميل السلحوت أن يحقّق كل ما ذكر أعلاه؟ وتبقى الإجابة في جعبة الكاتب.
في الختام أرى أن هذه الرواية ستفتح المجال لكتّاب آخرين لاستحضار القصص التراثيّة، وإعادة سردها بحلّة جديدة، تناسب فتيات وفتيان اليوم. وهذا بالتأكيد يُحسب لصالح الروائيّ جميل السلحوت.
المراجع:
بوطيّب، عبد العالي (1993)، "مفهوم الرؤية السرديّة في الخطاب الروائيّ"، مجلّة عالم الفكر، الكويت: وزارة الإعلام، مج. 21، ع. 4، أبريل-مايو-يونيو، ص. 32-48.
رزق، خليل (1998)، تحوّلات الحبكة: مقدّمة لدراسة الرواية العربيّة، بيروت: مؤسّسة الاشراف للطباعة والنشر.
الطويسي، محمود (2004)، "الفضاء الروائيّ عند غالب هلسا رواية (سلطانة)"، وعي الكتابة والحياة: قراءات في أعمال غالب هلسا، مجموعة كتّاب، عمّان: دار أزمنة للنشر والتوزيع، ص. 166-195.
محمود، صفاء (2009)، البنية السرديّة في روايات خيري الذهبيّ "الزمان والمكان"، بحث لاستكمال مستلزمات الماجستير في اللغة العربيّة وآدابها، د. م.: جامعة البعث.
وسوم: العدد 1051