في التراث والتحقيق 1+2

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة

56

في التراث والتحقيق (1/ 3)

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي

[email protected]

ـــ1 ـــ بين يديَّ كتابان تراثيّان محقَّقان، نُشر أوَّلهما العام الماضي (1433هـ)، في سلسلة مصادر تاريخ الجزيرة العربيَّة المخطوطة، وهو كتاب «نفح العود في أيّام الشريف حمود»، من تأليف عبدالرحمن بن أحمد البهكلي، وتكملة الحسن بن أحمد عاكش، بدراسة وتحقيق الدكتور علي بن حسين الصميلي، (من إصدارات: دارة الملك عبدالعزيز، بالرياض). وقد أحسن الصميلي بإعادة تحقيق هذا الكتاب تحقيقًا علميًّا رصينًا. وكان الكتاب قد نشره محمّد بن أحمد العقيلي، رحمه الله، (عام 1986)(1). أمّا الشريف المذكور، فهو حمود بن محمّد بن أحمد الحَسَني XE "حمود بن محمّد بن أحمد الحَسَني"  التهامي، من آل الخيرات، والمعروف بأبي مسمار XE "أبو مسمار" ، (1170-1233هـ= 1756- 1818م). كان له دوره الفاعل في نهضة بعض بلدات المخلاف السليماني- المسمَّاة حاليًّا بمنطقة جازان، جنوب السعوديّة- سياسيًّا، وعمرانيًّا، وثقافيًّا، خلال القرنين 12 و13هـ. وكان قد استقلّ بولاية أبي عريش، وصَبْيا، وضَمَد، وغيرها، عن أئمّة صنعاء. وقد ألَّف البهكلي XE "عبدُ الرحمن بن أحمد البهكلي"  (-1248هـ= 1832م) كتابه عن أبي مسمار XE "أبو مسمار" ، ثم استكمله عاكش XE "الحسن بن أحمد عاكش"  (-1290هـ= 1873م). ويذكر (العقيلي)، محقِّق «نفح العود» الأوَّل، أن أبا مسمار XE "أبو مسمار"  كان قد امتدّ بنفوذه إلى اليَمَن، إذ افتتح زبيد، ثم المخا، حتى بلغ قرب باب المندب. مختطًّا في وادي مُوْر مدينته (الزهراء)، التي تُسمَّى اليوم: (الزُّهْرَة). كما يُشير عاكش XE "الحسن بن أحمد عاكش الضَّمَدي"  إلى أن أبا مسمار  XE "أبو مسمار" كان قد ابتنى في وادي مُوْر قلعةً عظيمة، فكان غالب إقامته هناك، ويذكر كذلك أنه قد بنى العمارات الباذخة، والقلاع الشامخة في أبي عريش، فصارت أبو عريش من أمنع المُدن. وكذلك بنى قلعة بندر جازان. وبنى الحسن بن خالد الحازمي XE "الحسن بن خالد الحازمي" - بإذن أبي مسمار XE "أبو مسمار" - قلاعًا عظيمة في ضَمَد، كقلعة «مختارة». هذا إلى جانب ما عمَّر من مساجد، واحتفر من آبار في المدن والطُّرُقات والقُرَى، وما أوقف من أوقاف على العلماء، والمتعلِّمين، والفُقراء. حتى قيل إنه لم يبلغ أحدٌ مبلغه ممّن تملّك المخلاف السليماني(2).

وأقول أحسن الصميلي في إعادة تحقيق الكتاب؛ لأن العقيلي- على علمه وفضله- كان تقليديّ التحقيق، لا يُحسن الأصول التحقيقيَّة الحديثة. بل لا تخلو أعماله الكثيرة- تحقيقًا وتأليفًا- ممّا يستدعي المراجعة وإعادة النظر. 

ـــ 2 ـــ

أمّا الكتاب الآخر، فأصله مخطوطة صغيرة جدًّا، تقع في خمسين وبضع صفحات، اعتمد ناشرها على نسختها اليتيمة، مشيرًا إلى ما فيها من اضطراب وتشوُّش. وهو بعنوان «التبر المسبوك في تاريخ معرفة الملوك»، تأليف عمر بن أحمد بن صالح الهاشمي، اشتغل بتحقيقه وعلَّق عليه: الأستاذ عبدالرحمن محمد يحيى الرفاعي. وهو كذلك من (إصدارات: دارة الملك عبدالعزيز، 1434هـ). والحق أن متصفِّح هذا الكتاب- على صغره- سيلحظ جدارته منهاجيًّا بمزيد التمحيص والضبط. وسأضرب مثالًا شاهدًا، يلفت النظر منذ أول الكتاب، بل منذ فهرس المحتويات والمقدّمة.  وبخاصة أن «المحقّق» قد أبرزه في عنوان، (لعلّه كان حريًّا أن يلفتني أنا، قبل غيري!) هنالك جاء هذا الخبر: «قيل إن رجلًا من فيفا [كذا] يسمى المخلدي والقبائل تسميه: ابن مسلية؛ نسبة إلى أُمِّه كعادة بعض العرب ينسبون الرجل إلى أُمِّه، ومسلية على وزن محسنة من السلوان، وهو بأعلى وادي بيش، قام بثورة في المخلاف، وتجمعوا إليه بعض المفسدين. فكان ما يمر بقرية إلَّا صبحها حتى بلغ به العامل السيد الحسن المرتضى، وهو في أبي عريش، فخرج له بوادي جازان فقتله وأراح الله الناس منه، وفرحت الناس بقتله ودعوا للسيد الحسن المرتضى بالنصر.»(3)  والواقع أن مثار اهتمامي بهذه المعلومة موضوعيٌّ تاريخيٌّ؛ لما يثيره العنوان والخبر من أسئلة، أرى أنه كان يجب طرحها- في أقل تقدير- لا التسليم بما جاء على عواهنه. ناهيك عن استجازة أن يبلور الخبر، على ما فيه من لبسٍ، في عنوان بارز، مقحم على الكتاب الأصل! ليوهِم بأنه عنوان تمخّض عن استنتاج تاريخيّ، لا غبار عليه. وليأتي مِن بعدُ مَن ينطلق منه، على أنه حقيقة تاريخيّة (ومحقَّقة!). وما آفة التاريخ إلّا كاتبوه ثم محقِّقوه! وقد كان بالوسع جعل العنوان، إن كان لا بد من عنونة: «فتنة المخلدي»، أو «ابن مسلية»، وَفق ما ورد في نص الكتاب، لا الإتيان بكلمة لم يوردها المؤلِّف. فالهاشمي إنما أورد خبرًا بصيغة الزعم، لا بصيغة النِّسبة والجزم. مع احتمال التصحيف، وهو من أخطر المزالق التي يجب أن يتوقّاها المحقّق الحصيف. بل احتمال أن المعلومة لا نصيب لها من الصحَّة. وهذا ما سيتضح لاحقًا.

تُرى من هذا الفيفي الثائر؟ ومن أين جاء لقبُه «المخلدي»، أو كنيته «ابن مسلية»؟ ثم كيف يذهب عن ديار قومه بعيدًا جدًّا ليثور في تهامة جازان وحيدًا؟! وكيف لم يسمع أحد من أهالي فَيْفاء عن هذا الثائر العجيب قط؟!

أوّلًا- ليس للقب «المخلدي» وجود في قبائل فَيْفاء، ولا في عشائرها، ولا في أُسرها، مطلقًا.  ولا لـ«ابن مسلية»، كذلك ذِكر.  ولم يسمعوا بفَيْفيٍّ بهذه التسمية أو تلك.    

ثانيًا- أضاف «المحقِّق» تعليقًا تأكيديًّا- إلى جانب العنونة التي وضعها- جاء فيه: «المخلدي: هو رجل من المنطقة- يقال إنه من فيفا[كذا]- هو والذين انضموا فعاثوا فسادًا في المخلاف في نحو سنة (1042هـ)، وبعض من [كذا] الناس يسميه ابن مسلية (من السُّلوان)... فنشر الفوضى وقتل الصغار وأهاب الناس، حتى وصل أمره جيزان [كذا]...». محيلًا إلى (خلاصة العسجد، للبهكلي، والعقيلي، المخلاف السليماني). فأمّا العقيلي، فناقل. وأمّا البهكلي، فسنرى حقيقة ما قال في المقال المقبل!

وإذا كان الواقع والتاريخ يتنافيان مع نسبة بطل هذا الخبر إلى فَيْفاء، فإن «المحقِّق» قد تجاوز الاحتراز، بـ«قيل» أو «يقال»، إلى تثبيت المعلومة، وإبرازها عنوانًا: «فتنة الفيفي»، ثم وضعها في الفهرس الموضوعي. وبذا لم تعد المسألة (تمريضيّة)، أي مسألة زعمٍ عن مجهول اسمه ابن مسلية: «يقال إنه (من فيفا)» فحسب- مع عدم صحة هذا القول أصلًا- بل جرى إظهار ذلك الرجل في الكتاب المحقّق على أنه «فيفيّ» أصلًا وفصلًا!.. وقد ذهب ثائرًا في بيش، وإنْ في غير ما سبب مفهوم، أو حتى معقول!

ثالثًا- السؤال المحيِّر، ما الذي قفز بهؤلاء المفسدين في الأرض من جبالهم البعيدة إلى خُبوت بَيْش ليثوروا هناك؟ ذلك أن «المحقِّق» يوحي بأن مع ابن مسلية «الفيفي» «فيفيين» آخرين، حيث قال: «يقال إنه من فيفا- هو والذين انضموا فعاثوا»! وما الذي دفعهم إلى هذه المجازفة في معزل عن أرضهم وقومهم؟! أيّ حماقة هذه؟! ثم ما غايتهم؟! حتى إنهم ليقتلون «الصغار»! ..يا للوحشيَّة! وفيمَ يثورون، أو يخرجون، ولم تكن جبال فَيْفاء خاضعة لحكم أمراء المخلاف؟! بل كانت إذ ذاك في انتفاضة للتحرّر من الإماميّة الزيديّة التي غزتها من اليَمَن(1035- 1087هـ)(4).  ربما قيل إن هؤلاء ثائرون اتَّجهوا إلى تهامة ضدّ أمراء المخلاف من الأئمة الزيدية، أو عملائهم من الأشراف هناك، في تساوق مع ما كان يحدث في جبال فَيْفاء وبني مالك! وهذا محتمل، لو صحّت القرائن الأخرى، مع أنه كان أَوْلَى بهم أن يجعلوا ثورتهم هذه في جبالهم المحتلَّة، لا في تهامة البعيدة؟!

رابعًا- قال صاحب «التبر»: «ومسلية على وزن محسنة من السلوان، وهو بأعلى وادي بيش...»، فعلَّق «المحقِّق»: «قرية السلوان: هي كما ذكر المؤلف: بأعلى وادي بيش، ولم أجد لها أي تعريف أو إشارة حتى في معجم العقيلي الجغرافي»! والحقّ أن الهاشمي إنما أشار إلى أن كلمة «مسلية» مشتقَّة من (السُّلْوان)، ولم يقل إن هناك قرية باسم (السلوان) في بَيْش. ثم ذكر بوضوح أن ذلك المكان المسمى (مسلية) مكان في أعلى وادي بيش. وقد صَدَقَ. فقرية مسلية معروفة باسمها، حيث ذَكَرَ، تابعة لمحافظة بَيْش، المنسوبة إلى وادي بَيْش. فيها اليوم إمارة، ومدارس, تقع على طريق يمتدّ إلى الجمهورية اليمنية.

تلك، إذن، مسلية، وذاك «ابن مسلية»! فكيف صار من (فيفاء)؟! ومن هنا يبدو أن كنيته تلك ليست نسبة إلى أُمِّه، بل إلى بلده. والعجيب أن الهاشمي قد حدَّد مكان مسلية تحديدًا صحيحًا، موحيًا بأن ابن مسلية ينتسب إليها، في الوقت الذي كان قد زعم بأن ابن مسلية منسوب إلى أُمِّه مسلية! إلّا إنْ كان يقصد أن للاسم، في زمنِ قديم، علاقة باسم انسان، رجل أو امرأة. فاسم (مسلية) شائع في بعض مَذْحِج، ومن بُطون مَذْحِج: مُسْلِية بن عامر بن عَمْرو بن عُلة بن جَلْد بن مالك. وتلك ديارهم، إجمالًا. وتفسير هذا الخلط أن الهاشمي كان ينقل عن صاحب «خلاصة العسجد»، وقد يضيف ما يضطرب به السياق. أمَّا (المخلدي)، فلقب لا نعلم من أين جاء. غير أنه لم يسمع به أحد في فَيْفاء، قديمًا أو حديثًا، ولا صلة له بأسماء أهاليها وألقابهم، من قريب أو بعيد. غير أننا سنرى في المقال التالي من أين جاء الخبر؟ وما صحّة النصّ الذي اتكأ عليه الهاشمي؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جازان: مطابع جازان.

(2) يُنظر: بحثنا بعنوان «الحركة الثقافية في منطقة جازان»، (1428هـ)، ضمن «موسوعة المملكة العربيّة السعوديّة»، (الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز)، 11: 382- 384.

(3) الهاشمي، التبر المسبوك، 75- 76. 

(4) انظر: الجرموزي، المطهر بن محمد، الجوهرة المنيرة في جمل من عيون السيرة، تح. أمة الملك إسماعيل قاسم الثور، (ضمن مخطوط رسالة دكتوراه للمحقّقة، بعنوان «بناء الدولة القاسميّة في اليمن في عهد المؤيد محمد بن القاسم (990- 1054هــ = 1582- 1944م )»، قُدّمت في شعبة التاريخ الحديث، قسم التاريخ، كلية الآداب،  جامعة صنعاء، 1425 هـ=  2004م)، ص359- 374.-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «في التراث والتحقيق (1/ 3)»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12385، الأربعاء 29 مايو 2013، ص36].

رُؤى ثقافيّة

57

في التراث والتحقيق (2/ 3)

إن تحقيق التراث عِلْمٌ فيلولوجيٌّ/ لسانيٌّ دقيقٌ، وفنٌّ ذو أصول. والحقّ أنه، في كثير من جوانبه، صنعة أخطر من التأليف بمراحل، بما ينبغي فيه من توافر الآلة والمهارة والعلم والخبرة والأمانة والصبر. وإلّا فخير للتراث، ألف مرة، أن يبقى مخطوطًا!

وقد تطرقنا في المقال السابق إلى كتاب «التِّبر المسبوك في تاريخ معرفة الملوك»، لعمر بن أحمد الهاشمي، الذي اشتغل بتحقيقه: الأستاذ عبدالرحمن الرفاعي، (دارة الملك عبدالعزيز بالرياض، 1434هـ). وأشرنا إلى ما ورد فيه حول فتنة «المخلدي ابن مسلية»، الذي أبرزه «المحقِّق» تحت عنوان «فتنة الفَيْفي»، ذاكرين أن قرائن التاريخ والجغرافيا والأسماء والأنساب تتنافى معه، وإنْ أثبته «المحقِّق» في المتن، والحاشية، والعنونات، والفهارس. وفي هذا المقال نسعى إلى التحقُّق من النصّ- الذي اشتُقّت منه كلمة لتُجعل عنوانًا- من مصدره؛ عائدين إلى (البهكلي) في كتابه «خلاصة العسجد»، الذي روى الحكاية. ومن الواضح أن (الهاشمي، 1313هـ- لم يحدِّد «المحقق» تاريخ وفاته!) إنما كان يستنسخ كلامه من «خلاصة العسجد»؛ فهو ناقل متأخِّر، بل هو مضطرب النقل جدًّا. ولذلك فإن كتابه زهيد القيمة في هذا القسم المتعلّق بالتاريخ السابق على ما عاصر.

فهل ذكر البهكلي اسم «فَيْفاء»، أو «الفَيْفي»، كما زعم «محقق» «التبر المسبوك»؟

لن أعود، للإجابة، إلى الكتاب المطبوع، بل سأعود إلى مخطوطته، وهي في نسخة جيِّدة، من كتابة عبدالله العمودي، كما ورد في صفحة عنوانها، محفوظة في الجامع الكبير بصنعاء.(1)  يقول البهكلي عن «المخلدي» ما نصُّه:

«السنة الثانية والأربعين: فيها [توجهت الجهة العريشية] إلى السيد محمَّد بن القاسم المرتضى، فلمّا وصل إليها، حشد بالمخلاف السليماني عربٌ من البدوان على يد رجل من (آل حبيب) يسمى المخلدي، ومن الناس من يسميه ابن مسلية، نسبة إلى أُمِّه، على عُرف أهل البادية، ومُسلية على وزن مُحسنة من السُّلوان، فلم تبق قرية من قرى المخلاف إلا صُبِّحت أو خلت عن أهلها. وعامل صبيا يومئذ الشريف أحمد المهدي الخواجي، فانقطعت الطرقات، وقتل الضعفاء والمساكين من المسافرين والقاطنين؛ فلم يقرّ لأهل المخلاف قرار، ولا اطمأنت بهم دار؛ فأَجْلَوا عن أوطانهم، فلم يبق بها أنيس (...) وأدَّى الحال إلى أن ألَّب ذلك البدويّ طائفة من البدوان [ونفر بهم] إلى بندر جازان، وكان العامل بها السيِّد الماجد الحسين بن القاسم من جهة أخيه السيِّد محمّد بن القاسم. فبرز إليه السيِّد المذكور في جماعة حقيرة من العسكر، لا يؤمل بهم حصول الظفر، وكان البدوي راكبًا على جواد، فاعترك هو والسيِّد، ثم أولاه الله سبحانه الظفر، فظفر بالبدوي وقتله. ولا علم لي أكان هو المستبد بقتله أم شاركه بعض أصحابه؟ (...) فأصبحت أشلاؤه طعمة للنسور، وأُبين رأسه فأُوصل إلى أبي عريش المعمور، وخَبَتْ نار تلك الفتنة التي قصمت الظهور، ولله عاقبة الأمور. (...). وكان هذا البدوي قد أظهر كثيرًا من الفساد، وعجز عن مناوأته كثير من الأفراد والأعداد، والأمراء أهل الاستعداد، حتى أراح الله سبحانه منه...».(2)

هذا هو نص البهكلي. وعلى هامشه كُتب عنوان واضح: «خروج البدوي المخلدي الحبيبي وما جرى له مع أهل المخلاف». وذاك، إذن، هو «البدوي المخلدي الحبيبي»، الذي ظهر في تحقيق كتاب «التِّبر» باسم «الفيفي»، في غير موضع!  ومصطلح «البدو»، أو «البدوان»، أو أهل «الجهة البريّة»، كان يُطلق في كتب المخلاف السليماني التاريخيّة على غير أهالي المُدن الساحليَّة، أو ربما غير الموالين سياسيًّا. ونحن نجد أن (الهاشمي)، في كتابه نفسه، يطلقه مثلًا على: قبيلة بني مروان، وبني حُمَّد، والمسارحة، وأغلب قبائل وادي ضَمَد. 

لهذا، فما كان مجرّد اشتباه في صحَّة المعلومة، تبيَّن أن وراءه أحد أمور: إمّا سوء نقل، أو عدم تحرٍّ للحقيقة التاريخيّة والدقّة العلميّة، أو خليط من ذلك كله.

وما حكاه البهكلي صورة عن الاضطرابات في تهامة المخلاف، والنزاعات السياسية والقبليّة فيه، ولا علاقة للقطاع الجبلي بذلك كله؛ إذ لم يكن جزءًا من المخلاف. غير أن ثمَّة من يخلط بين تاريخ المخلاف وجغرافيته وبين ما يسمى اليوم (منطقة جازان)، فيضيف إلى المخلاف مناطق، كجبال فَيْفاء، مع أنها لم تخضع في تاريخها إلّا للحكم السعودي الحديث.(3)  لأجل ذلك فإن (الهاشمي) نفسه لمّا سرد أسماء «قبائل المخلاف السليماني»(4)، لم يذكر بينها قبائل القطاع الجبلي، كقبائل فَيْفاء وبني مالك؛ لأنه يُدرك أنها تاريخيًّا لا تنتمي إلى المخلاف.  وممّا يدلّ أيضًا على استقلال جبال فَيْفاء قبل العهد السعودي- حتى عن سلطان الأتراك (العثمانيين)، المتوغل في كل مكان- ما يشير إليه (الهاشمي)(5) كذلك من أن (محمّد بن علي الإدريسي، -1341هـ= 1923م) لمّا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وخشي فتكة الأتراك، «عزم على نقل بيوته إلى فَيْفاء، الجبل المشهور بالعلو المنقطع، وقد خُصِّص له بيت في ذلك الجبل، حتى كان الظفر له على الأتراك.»  

ولئن كان «محقِّق» «التِّبر» قد اعتذر عمّا يرد في الكتاب بأن المخطوط مليء بالشطب والتعديل، «ممّا صعّب تحرير نصه في مواضع عدة ودعا إلى الاجتهاد والمقاربة»، وأنه مليء بالأخطاء التاريخيّة، فإنه يظلّ من العجيب أن يعتمد على كتاب «خلاصة العسجد» في توثيقه معلومة، ويُحيل القارئ إليه، ثم نجد أن ذلك الكتاب لا يقول بما ذَكَرَه «المحقِّق»، وزعم أن الهاشمي- الذي إنما ينقل عن البهكلي- ذَكَرَه!  فكيف اتفق ذلك كلّه؟!

ثم هَبْ أن ما ورد في مخطوط (الهاشمي) ليس بصيغة «رجل من (آل حبيب) يسمى المخلدي»- كما هو نص (البهكلي)- فإن الأقرب للاحتمال في الكلمة التي أوردها كان أنها تصحيف «صبيا»، مثلًا، وليست «فيفا». فـ(صبيا) هي المكان السياقي لما يسوقه من أحداث؛ فلعل ما زعمه هو أن المخلدي من «صبيا». وقد كان بين أهل صبيا وأولئك السادة الإماميين الزيديين اليمانيين نزاع، وكان بين الأشراف الحجازيين والأئمة اليمانيين صراع طاحن على حكم المنطقة. بل كانت بين الخواجيّين في صبيا وبعض الأشراف معارك(6).

وأيًّا ما كان انتماء (المخلدي)، فإن الإمعان في تشويه حركته إنما هو خطابٌ سياسيٌّ مكشوف، كُتب بأقلام غير متجرِّدة للحقيقة؛ لأنها موالية لهؤلاء السلاطين، سواء من أئمة اليمن أو أشراف الحجاز، المتنافسين على حكم المخلاف السليماني. وهي أقلام موالية سياسيًّا- وفيها عناصر متنفِّذة لدى الأئمة أو الأشراف- أو موالية لهما مذهبيًّا. فكان طبيعيًّا أن لا نعرف هويّة المخلدي، ولا قضيَّته الحقيقيَّة ومن معه من الثائرين، بل تصويرهم على أنهم مجرد مخرِّبين و«مفسدين»، متعطِّشين للدماء، ليس إلَّا.  وهكذا يُكتب التاريخ غالبًا!  فكيف إذا كان كاتبه جزءًا من السُّلطة التي يكتب عن تاريخها؟!

إن من البدهي، لدى (أئمّة التحقيق)، أن على المحقّق- إلى جانب التحرّي عن صحَّة النص المحقَّق، ووثوق معلوماته- عدم إقحام ما ليس في الكتاب المحقَّق فيه. أمّا التوغل في مزيد إيهام، من خلال عنونات تضاف، أو تُدرَج في فهرس الموضوعات، فإسراف في التجاوز، لا يقلّ غرابة عن حكاية (المخلدي) أو (ابن مسلية)!

               

(1) منها نسخة في مكتبة الأمير سلمان في جامعة الملك سعود بالرياض، قسم المخطوطات، (برقم 7722، ف 1621/ 4، التصنيف 953،8/ خ.ب)، وتعود ملكيتها إلى «المكتبة العقيلية» بجازان.

(2) مخطوط «خلاصة العسجد»، الورقتان 7 و8.  

(3) ويظهر هذا الخلط لدى «المحقِّق» نفسه.  من مثل تعليقه على فرار (الإدريسي) من القوات السعوديّة إلى «مكان يسمَّى: (عِرْق)»؛ فذكر أن في المخلاف أماكن أربعة بهذا الاسم، مشيرًا إلى اثنين في (فَيْفاء) وثالث في (بني مالك). (ص161). وفضلًا عن أن لا علاقة لتلك الجبال بمصطلح «المخلاف السليماني»، ولا بالتجاء الإدريسي إلى (عِرْق) في (العارضة)، فإن ما في (فَيْفاء) هو باسم: «بُقعة العِرْق»، لا «عِرْق»، كما أن تحديده لدى «المحقِّق» غير صحيح، بل مناقض للواقع!  

(4) انظر: التبر المسبوك، 177- 180. 

(5) م.ن، 111.  

(6) انظر: م.ن، 80- 81.-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «في التراث والتحقيق (2/ 3)»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12391، الثلاثاء 4 يونيو 2013، ص37].