أدب التراجم عند عبد الله الطنطاوي
د. عبد الله الطنطاوي |
محمد الحسناوي رحمه الله |
الأديب الإسلامي عبد الله الطنطاوي شقيق روحي، ماذا أقول عنه بمناسبة تكريمه، وهو الذي من عادته أن يكرم الآخرين – ولاسيما الأدباء – بدءاً من إسهامه في تأسيس (رابطة الأدب الإسلامي) في بواكيره، وانتهاء إلى إشرافه على موقع (رابطة أدباء الشام) و(الفاتح للأطفال) الألكترونيين، فضلاً عن اتخاذه بيته ومكتبته العامرة.... دارة لاستقبال الأدباء والشعراء والمفكرين في الوطن وفي الغربة على حد سواء.
ماذا أقول، والصداقة حجاب، مثلما كانت المعاصرة حجاباً؟
كيف يألف الإنسان الماء والهواء وشروق الشمس والقمر وغروبهما، لدرجة الغفلة عما وراء ذلك وقبله من خالق قادر بديع السماوات والأرضين، وما في خلق هذه الآلاء من حكمة بالغة، وجمال باهر، كذلك يغفل الصديق عن مزايا صديقه، وإن تذكرها، بعضها أو كلها، خجل من الحديث عنها، لئلا يتهم في شهادته.
ومع ذلك أن تقول فتعدل خير من أن تصمت فتبخل. والساكت في حضرة القول: إما شيطان أخرس، أو ناكر للجميل أشوس والنأي عن كليهما أحرى وأكيس.
عشرات التراجم للكبار والصغار
وعلى تعدد مواهب أخي أبي أسامة في الكتابة، من قص وتاريخ ونقد أدبي وكتابة مسلسلات تلفزيونية... سأختار الحديث عن جهده في باب (التراجم) أي الكتابة عن الأعلام، أعلام أمتنا، للكبار والصغار، وهي كتابة ألصق ما تكون بطبيعة من يأخذ بخدمة الآخرين، الآخرين الذين يكتب عنهم، أو الآخرين الذين يكتب لهم.
أخرج صاحبنا – مدّ الله في عمره – في أدب (التراجم) ما لا يقل عن (40) كتاباً، أربعة منها للكبار: مثل رواية (الوادي الأحمر عن القسام)[1] و(مصطفى السباعي الداعية المجاهد)[2] و(اللواء الركن محمود شيت خطاب)[3] و(محمد منلا غريل في ظلال الدعوة)[4] وخمسة وثلاثون كتاباً وكراساً للأطفال، ستة وعشرون منها في سلسلة (نجوم الإسلام)[5] صدر منها أربعة مجلدات، وتسعة أخرى في سلسلة (مكتبة النذير للأشبال)[6] وسوف يكون حديثنا عن كتب الفتيان والأشبال.
ما كتبه للكبار يختص بأعلام الإسلام المعاصرين (مجاهدين – دعاة – مفكرين – أدباء). أما ما سطره للفتيان والأشبال فقد جمع بين القدامى والمحدثين، وبالدقة بين نماذج صدر الإسلام الأول وبين رجالات الإسلام في القرن الأخير، والجامع بينهم: الإسلام، وبالدقة الإسلام الناهض، والنهضة هي الوشيجة الجامعة بين هؤلاء جميعاً، فهل أمسكنا بأول خيط في خطط صاحبنا الطنطاوي؟
ففي المجلد الأول الذي يتحدث فيه عن تسعة من كرام الصحابة رضي الله عنهم (كجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة) يتحدث أيضاً عن (الشيخ عبد الرحمن الكواكبي)، وفي المجلد الثاني الذي يتحدث فيه عن خمسة من الصحابة (كالزبير بن العوام وعمرو بن العاص) يتحدث عن ثلاثة معاصرين هم (الشيخ عز الدين القسام والشيخ سليمان الجوسقي وسليمان الحلبي)، وفي الجزء الثالث يتحدث عن اثنين من الصحابة هما (سلمان الفارسي وجرير بن عبد الله البجلي) وعن اثنين آخرين من الأعلام المعاصرين هما (الدكتور مصطفى السباعي والشيخ محمد الحامد)، مما يؤكد أن الاختيار بني على منهج الربط بين ماضي الأمة المشرق الناهض وبين حاضرها الذي يسير على هدى أولئك الصحابة الكرام، سواء بالهمة والعزيمة، أم بالفكر والرأي، أم بالسيف والقلم، وهو منهج الصحوة الإسلامية، منهج الدعوة والعودة إلى لله.
مزاوجة وأمانة
أما الخيط الثاني في منهج التأليف لدى صاحبنا، فهي مزاوجته بين الأدب والتاريخ، على سنن أدبائنا الكبار مثل ابن خلدون وابن خلكان وياقوت الحموي، لذلك أدرج في نهاية كل ترجمة جريدة بأسماء المصادر والمراجع التي نهل منها أو اعتمد عليها؛ وفوق ذلك يسمي الشخصيات التي تتحدث في كل ترجمة بأسماء الذين يأخذ منهم أو عنهم، الاسم الأول مثل الأستاذ (بسام) يعني به بسام الأسطواني، أو (حسني) يقصد به حسني أدهم جرار في ترجمة للدكتور السباعي رحمه الله تعالى، أو الاسم الكامل مثل محمد المبارك ومحمد الفاضل وسواهما.
والحقيقة أن الرجل لم يقف عند المزاوجة بين الأدب التاريخ، بل قرن ذلك بالأمانة التاريخية، خلافا لبعض الأدباء الذين يتصرفون جهلاً أو عن هوى؛ صنيع جرجي زيدان في رواياته عن تاريخ العرب والإسلام، لأن رسالة الطنطاوي الإصلاح، وشريعته الأمانة، أما أولئك فرسالتهم وشريعتهم غير ذلك.
ومن الأمانة التاريخية تضمين صاحبنا أو اقتباسه النصوص بأنواعها – ولاسيما القرآن الكريم والحديث الشريف وكلام الصحابة – من جهة، أو نقل صفحات من كتابة الكتاب المحدثين أو خطبهم أو رسائلهم وأشعارهم من جهة ثانية.
أما الخيط الثالث فهو الشكل الفني الذي سكب فيه هذه التراجم فكانت قطعاً أدبية بقدر ما كانت أعمالاً تاريخية في الوقت نفسه.
والجانب الفني يتجلى في البناء الحواري أولاً، وفي الأسلوب التعبيري ثانياً، والرواسم الهادفة ثالثاً، والتركيز في رسم الشخصيات على صاحب الترجمة رابعاً.
أما البناء الحواري فنعني به أن المؤلف اتخذ من الأسلوب الحواري قالباً فنياً للترجمة، وذلك بأن اختار المؤلف شخصية أخوين فتيين (صادق وصادقة) يتحاوران ويحبان الاطلاع على سير الرجال العظماء في رعاية والدهما الذي يشجعهما على هذه الهواية ويرعاها، يضاف إليهم زائر عالم يقوم بدور الراوية الذي يصف الشخصية المترجم لها بضمير الغائب، وفي حالة أخرى، يحل المترجم له بنفسه محل العالم أو الراوية ويدور الحوار معه نفسه، كما نرى في ترجمة الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه، حيث يظهر الصحابي نفسه، بعد أن مهد له (الشيخ نايف) الراوية قبل صفحات في زيارة مستقلة لأسرة الفتيين ولأبيهما، وأحد الأخويين الفتيين (صادق) هو الراوي لنا نحن القراء والعمل شبيه بالنص المسرحي، لكنه لا يتقيد بحبكة من تمهيد وعقدة وحل ولا بناء درامي من صراع صاعد وتطاحن بين الشخصيات.
الأسلوب التعبيري
الأسلوب التعبيري، هو على بساطته وسهولته، يحمل حظاً غير قليل من الألفاظ والتراكيب القديمة، التي لابد منها في نصوص الأعلام المترجم لهم، أو لأغراض التربية للفتيان والأشبال على الأساليب العالمية، وعن طريق الحوار يجري السؤال والجواب عن معاني بعضها، مما يخفف من وطأة الغرابة والاستيحاش، فتتدغم في السياق وفي النفوس.
أما الرواسم الهادفة، فهناك الافتتاح بعبارة (حدثنا الفتى صادق أمين فقال:) التي تتكرر في بداية كل ترجمة، وأحياناً في تضاعيفها، على طريقة المحدثين القدامى.
وهناك ثبات الشخصيات المتجاورة في كل ترجمة، على نسق واحد، الفتيان (صادق وصادقة) والأب، والزائر الراوية: عالم أو شيخ أو مؤرخ، وأخيراً: شخصية المترجم له بنفسه، يضاف إلى ذلك الاعتماد على صفحات من كتب، أو قصص، أو طرائف، أو حكم وأمثال، تساق بين الحين والآخر ضمن الحوار، مما يذكرنا بنسق الشخصيات في المقامات أيضاً.
وروسم آخر هو الالتزام بتكثيف الترجمة وذلك بإطلاق أبرز صفاتها في العنوان. فالصحابي سلمان الفارسي – يوصف بـ ابن الإسلام، والصحابي جرير بن عبد الله البجلي يوسف هذه الأمة، والشيخ الدكتور مصطفى السباعي: رجل الدعوة في بلاد الشام، والشيخ محمد الحامد: رجل العلم والتقوى والجهاد، وهكذا دواليك...
والروسم المهم هو التركيز دوماً – في رسم الشخصيات – على شخصية العلم المترجم له، فشخصية الفتيين والأب والراوية شخصيات خفيفة الظل، بمعنى أننا نعرف ملامحها الثابتة القليلة، أو هي مساعدة بأشكال متفاوتة للراوي، أما الشخصية المستوفاة من حيث الأبعاد الجسمية والنفسية والاجتماعية فهي شخصية المترجم له، وهذا يخدم الغرض الرئيس من الترجمة، كما هو معلوم، وهي الشخصية التي تتبدل تفصيلات ملامحها من ترجمة إلى ترجمة أخرى، ولا جامع بينها إلا العظمة أو التفوق.
الجانب التربوي
أما الخيط الرابع في كتابة صاحبنا للفتيان والأشبال، فهو الجانب التربوي، فبالإضافة إلى المتعة الفنية والجمالية، وإلى سرد المعلومات قصاً أو حواراً، هناك الأهداف التربوية الكامنة أو المتحصلة من الأسلوب التعبيري الأنيق، والألفاظ والتراكيب الفصيحة المختارة، أو من قيم التفكير الراقي التي قامت عليها هذه الشخصيات الأعلام، أو عملت على نشرها وتحققها في الحياة، أو من مجالي المشاعر والعواطف السامية التي نبضت بها قلوب هذه الأعلام في ساعات العسر أو اليسر، أو في ساعات الألم أو النصر، والتربية من خلال الأشخاص والوقائع أجدى وأنفع من القواعد والقوانين المجردة من اللحم والعظام والأعصاب والأحداث، وهو ما نطلق عليه أحياناً اسم التاريخ، التاريخ القديم أو التاريخ الحديث، وما التاريخ في الحس البشري إلا أنه برهان على شيء واقعي حدث، ويمكنه أن يحدث ثانية وثالثة ورابعة. وهذا خير برهان على حيوية هذه القيم وواقعيتها وجاذبيتها في الوقت نفسه. ومن يملك رصيداً ضخماً من القيم والشخصيات المتحققة بهذه القيم فطوبى له وحري به أن يفيد منها، وويل له إن هجرها واستورد أو حاول الاستيراد من غيره.
أما الخيط الخامس في هذه التراجم... فهو ملاءمتها لجيل الفتيان والأشبال، رجال المستقبل ملاءمتها أولاً من حيث دورانها على البطولة والعظمة والتفوق، وهي النزعة الغالبة على نفسيات الفتيان والأشبال في هذه السن، وعلى استعداداتهم التي تبحث عن القدوة فيها من جهة، والحاجة إلى زاد لغوى أدبي يوطد ملكة البيان والتعبير لديهم من جهة ثانية، وزرع الأمل في مستقبل الأمة من خلال الانتساب إلى ماض عريق فيه أمثال هذه الأعلام المتميزة في زحمة الصراع الحضاري، وخروجاً من مشاعر الحاضر المتخلف المحبط من جهة ثالثة، وتعويضاً عن الإهمال الذي كان يلاقيه جيل الفتيان والأشبال وما يزال من جهة رابعة.
بقي أن نقول: إن هذا الشكل الحواري الذي عرضت فيه التراجم أقرب ما يكون إلى الشكل الذي يرشحها للتمثيل في مسلسلات تلفزيونية.
بخ بخ أبا أسامة، ولافض فوك، ولا عاش شانئوك.
[1] دار القلم، دمشق، ط1، 2004م.
[2] الدار الشامية – بيروت – ط1.
[3] الدار الشامية – بيروت – ط1.
[4] دار الفرقان – عمان – الأردن – ط2، 1402 هـ - 1982م.
[5] دار القلم – دمشق – الدار الشامية – بيروت – ط1 – 1994م.
[6] دار النذير – (الأعداد: الإمام الشهيد حسن البنا – الدكتور الشيخ مصطفى السباعي – الشهيد الحي سيد قطب – الإمام حسن الهضيبي – الإمام أبو الأعلى المودودي – العالم المجاهد الشيخ محمد الحامد – القائد الشهيد مروان حديد – المفكر الأستاذ محمد المبارك) بغداد – ط1 – 1983م.