قراءة في كتاب العروسي القسنطيني

(كتاب وسيلة المتوسّلين..)

عبد الله لالي

بسكرة الجزائر

[email protected]

أرسل إليّ الأستاذ الثَّقِفُ النبيه محمّد العربي مودّع، كتابَ ( وسيلة المتوسّلين ) مصَوَّرا إلكترونيّا، مذكّرا إياي بقيمة هذا الكتاب التراثيّة ودوره العظيم في الحفاظ على الإسلام والدّين في ماضي الأيّام وخوالي السنين، وحثّني على الكتابة عنه ..

وقد استأنيت بالكتاب أيّاما حتى أجد له فراغا من الوقت وفسحة من الخلوة لأقرأه على مهل وأتدبّر معانيه برويّة.. وجاء اليوم الذي دُفعت إلى قراءته دفعا وتلقيب صفحاته تقليبا فاحصا دون الالتفات إلى زحمة الأشغال، وتوالي الكتب والمشاريع التي تقف صفّا في الانتظار..

وأصدقكم القول ما إن فتحت الكتاب ورأيت شكلَ صفحاته القديمةَ الممزقةَ الحواشي والأطراف؛ وخطَّه المغربيّ الأصيل حتى شممت والله رائحة الورق الأصفر العتيق الذي طالما شممته في ( جامع سيدي مسعود ) ببلدتنا القديمة، حيث كنّا ونحن صبيةً صغارًا نأخذ تلك المصاحف الباهرة ونتهجّاها بقداسة رائعة ونقرأ القاف منقوطةً نقطة واحدة من أعلى والفاء نقطة من أسفل..

شممت رائحته والله – أو خُيّل إليّ ذلك – حتى ظننت الكتاب أمامي وبين يديّ أقلّب صفحاته بحذر شديد، وليس هو في الحاسوب صورةً إلكترونية هي أشبه بالخيال والوهم منها بالواقع المحسوس والملموس.. 

نظرت في الصّفحة الأولى من الكتاب فقرأت ( وسيلة المتوسلين بفضل الصلاة على سيّد المرسلين )، لمؤلفه ( وقد سقطت الميم في المطبعة فكُتبت لولفه ) الكاتب البركة سيدي بركات بن أحمد بن محمّد العروسي القسنطيني.

وبدأت أقرأ الكتاب..

الكتاب مصوّر على شكل ورقات مفردة مما يجعل قراءته متعبة للغاية، ولكن إذا حضرت الهمّة وتوقّدت العزيمة زالت كلّ عقبة وانزاح كلّ معوِّق لاسيما أنّ ذلك صادف الإجازة الشتويّة – وإن تكن مليئة بالواجبات والأعباء إلاّ أنّ الأمر يستحق كلّ تعب وجهد – ما ييسّر بعض الوقت للتفحّص والتنقيب بين طوايا الكتاب.

ترجمة الناشر والمؤلف:

ذكر صاحب المقدّمة أنّ ناشر الكتاب من بسكرة ( الجزائر ) وهو لا يزال حيّا زمن كتابة تلك المقدّمة إذ ذكر أنّ عمره بلغ أربعا وثمانين سنة، ثمّ ذكر نبذة عن مولده ( ولد عام 1262 هـ) وحياتِه وأخذه العلم. وقد ذكر التاريخ الهجري وحده ولم يذكر الميلادي، فذكّرنا ذلك كيف كان أجدادنا يؤرخون بالهجريّ ولا يكادون يلتفتون للميلادي أو يعرفونه، يوم كانت أيّامنا أيّام عزّ وقوّة.. 

ولم أجد في نهاية المقدّمة اسم كاتبها، ولعلّه الناشر نفسه؛ أحمد بن حفيظ بن الحاج قسّوم خراشي البسكري.

ومن طريف ما ذكره في المقدّمة أنّ ناشر الكتاب:

" كان سديد الرأي ذا عزيمة قويّة يدور مع الحق حيثما دار لا تأخذه في الحقّ لومة لائم إلا مع أولاده فعنده نوع من الشدّة عملا بقول الحكيم أبو العلاء المعرّي:

فاضربْ وليدَك وادلُلْـه على رشدٍ  *  *  ولا تقُلْ هو طفلٌ غيرَ مُحتَلِمِ

فربَّ شقٍّ براسٍ جـرَّ منفعــةً *  * وقِسْ على نفعِ شقِّ الراسِ بالقلم

..."

ونرى في هذا المقتطف أمورا هامّة منها مكانةُ الرّجل ومتانة دينه وورعه، في حين أنّه ذكر أسلوبا من التربية فيه شدّة وفيه غلظة سار فيه مع أولاده على نسق القرون الأخيرة، التي كانت فيها الشدّة أسلوبا مجديا في التربية والتهذيب، وقد يكون معهم في ذلك بعض الحقّ إلا أنّه ليس كلّ الحقّ، فهو استثناء يخرج بنا عن القاعدة في التربية وليس القاعدة ذاتها.. فالقاعدة جاءت في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلّم:

" مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ " رواه أحمد مرفوعا.

فالقاعدة الإسلاميّة في التربية أن نربّي أبناءنا بالرفق ونعوّدهم على الرفق، سنتعب في ذلك قليلا وسنعاني من المشقّة والجهد بعض الشيء، لكنّ ثمرة ذلك مضمونة وفائدة حتميّة بلا شكّ.. فهذا توجيه نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلّم وأمر ديننا الحنيف، فلا نعدل عنه إلى قول أبي العلاء الذي زعم فيه أنّ شقّ رأس الطفل تأديبا له بالضرب؛ تشبه فائدته شقّ رأس القلم للكتابة به.

وهذا لعمري تشبيه باطل وأسلوب في التربية شنيع، ولا عجب بعد ذلك أن كان أبو العلاء المعرّي يقول:

هذا ما جناه عليّ أبي  *  * ولم أجن على أحد

نظرت في لغة مقدّمة الناشر ( إن صحّ أنّها له ) فعرفت من أين جاءتنا هذه العاميّة ( الجزائريّة ) التي نتحدّثها اليوم فأبعدتنا عن عربيّتنا الأصيلة ولغتنا البكر لغة البيان ولغة القرآن..

وهذه بعض عبارات المقدّمة التي استوحيت منها ذلك:

" تراه دايما في جيبه الحلويّات وغيرها من المفرحات له صدقات سريّة لا يعلم بها اقرب النّاس إليه... لا يرد سايلا خايبا ابدا في ساير احواله وجميع اوقاته مستغرقا في العبادة فاقواله وافعاله دايرة بين الواجب والمستحبّ ..).

هذه اللغة ( دايما، سايلا، خايبا، دايرة ) تذكرني بملحمة عنترة بن شدّاد وتغريبة بني هلال وكتاب ألف ليلة وليلة، إذ تمزج بين الفصيح والعاميّ، وهي تسقط دوما الهمزة لتسهيل الكلام والاسترسال فيه، بسبب ما أصاب الألسنة من عجمة وما لحقها من لحن شنيع وبعدٍ عن البيان الجليّ فضيع، وإن يكن عدم الهمز لغة من لغات العرب، وقراءة من قراءات القرآن الكريم ( قراءة ورش ) إلا أنّها لا تصحّ مع كلّ الكلمات والألفاظ ..

فهم حذفوا الهمزة مطلقا فصار كلامهم عاميّا أو هو أقرب إلى العاميّة، وبعدوا عن الفصيح شيئا فشيئا، والعجيب أنّ صاحب المقدّمة تكلّم بكلام طويل عن النّاشر في أكثر من صفحة ونصف ثمّ تحدّث عن المؤلّف في بضعة أسطر، وهذا شيء غريب إلى حدّ ما، ولعّله لم يجد ترجمة كاملة له فبحثت عن ترجمة له في الشبكة العنكبوتيّة فوجدت في مدونة برج بن عزوز ما يلي:

" سيدي بركات بن أحمد وقيل بن محمد بن العروسي القسنطيني عالم فقيه من مدينة قسنطينة بالقطر الجزائري للأسف لم نعثر على ترجمته، فقط هناك من أشار إليه في بعض المصادر بأنه كان حيّا قبل 897 هـ / 1492م كما استقيناه من كتاب "معجم المؤلفين" لصاحبه عمر رضا كحالة تحت رقم 3181، له "وسيلة المتوسلين في فضل الصلاة على سيّد المرسلين"، وهي عبارة عن مجالس في الذكر والصلاة على سيّدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. "

 ومما ذكره الناشر عن مؤلف الكتاب قوله:

مؤلف الكتاب هو " بركات بن أحمد بن محمّد العروسي القسنطيني أصلا ومنشأ.." ثمّ ذكر أنّه كان كاتبا لدى باي قسنطينة فمرّ ذات يوم راكبا على بغلة فسقط منه القلم، فطلب من أحد المارّة أن يناوله إيّاه فرفض ذلك وقال له أنت من أعوان الظلمة وأنا لن أساعدك حتى لا أعينك على معصية..

فكان ذلك سببا في توبته ورجوعه إلى الله..

وما أعجبني في هذه المقدّمة أنّ الناشر تحمّل بطبع الكتاب على نفقته، رجاء الأجر وقربة إلى الله بخدمة رسوله صلى الله عليه وسلّم، ويا ليت رجال الأعمال والأغنياء في عصرنا هذا يكونون على مثال هذا الرّجل المحسن، ويساهمون في طبع الكتب والمؤلفات التي تخدم الأمّة ودينها وثقافتها وفكرها وتاريخها، فيكون لهم بذلك الصدقة الجارية التي لا تنقطع..!

وقد ألّف كتاب ( وسيلة المتوسلين بفضل الصلاة على سيّد المرسلين ) تقرّبا إلى الله بالصلاة على نبيّه صلى الله عليه وسلّم، وهو كتاب لطيف فيه ثناء وصلاة على النبيّ عليه الصلاة والسّلام نثرا تارة وشعرا تارة أخرى، وهو في 160 صفحة من القطع الكبير، جعله صاحبه أربعة وعشرين مجلسا، كلّ مجلسه يبتدئه بالصلاة على المصطفى عليه الصلاة والسّلام وذكر مناقبه نثرا، والاستدلال على ذلك ببعض الحوادث والمعجزات التي وقعت في سيرة النّبي عليه الصلاة والسلام وفائدة الصلاة عليه، ثمّ يتبع ذلك بشعر يمدحه به ويثني عليه فيه.

وكنت قد قلت أنّه كُتب بخطّ مغربيّ أصيل عندما نظرت فيه لأوّل وهلة عجلا ثمّ اكتشفت بعدُ، أنّه كتب بخطّ النسخ على مدى 150 صفحة ثم كتبت الصفحات العشر الباقية بالخطّ المغربي القديم مبتدئا الكتابة به من آخر سطرين في الصفحة 150، ويبدو أنّ الكتاب المطبوع بخطّ النسخ كان ناقصا؛ فزاد فيه أحد النسّاخ ما نقص منه في عشر صفحات وطبع الكتاب في تونس واسم المطبعة غير واضح يشبه مطبعة العرب بتونس ..

والكتاب كلّه صلاة وثناء وذكر لمعجزات النبيّ صلى الله عليه وسلّم، إلاّ أنّه يذكر بعض الأحاديث والقصص عن النبيّ عليه الصلاة والسلام دون أن يذكر سندها أو صحتها، ما يضفي على كثير منها ظِلالا من الشكّ والريبة، رغم أنّ مضمونها كلّها مقبول ومشهور مثله في السنّة الصحيحة، كما أنّ في بعض الكتاب نوع من مبالغة في التوسّل بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم، ورجائه من مثل قوله:

يا أكرم الخلق هبْ أمنا لمادِحِك * * العبد العروسي أهوال ..( كلمة غير واضحة ). فلا يجوز دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلّم ليهب له الأمن وهو ميّت، فتلك دعوة توجّه إلى الله، ولا يصحّ توجيهها إلى الرسول عليه الصلاة والسّلام إلا بشيء من التأويل المتعسّف وليّ أعناق النصوص.

ومن أروع ما جاء من شعر يمدح به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في هذا السِفر النادر قول المؤلّف:

لله كم بركات للرّسول بدت  *  * ومعجزات تمادت في الأولى وغدت

تورية موسى ببعث المصطفى شهدت **وكلّ طاغ بأقصى جهده خضعا

                     صلّوا على المصطفى يا كلّ من سمعا

أضحت معانيه للعادات خارقة *  * وللمعاند بالإعجاز قاهرة

من ذا تكلمه الأشجار ناطقة *  * إلاّ الحبيب الذي في الفضل قد برعا

                     صلّوا على المصطفى يا كلّ من سمعا

إنّها ترنيمة المحبّة وأنشودة الوجد والإيمان برسول خير البريّة، عليه من ربّي ألف صلاة وسلام..