ميسون أسدي تجعلُ منَ الشَّوكةِ وردةً!!
ميسون أسدي |
حسين مهنا |
(1)
لن أكونَ قد أتيتُ بجديدٍ إن قلتُ إنَّ أدبَ الأطفالِ فرعٌ من فروعِ الأدبِ الصَّعبةِ، إن لم يكنِ الأصعبَ بينها. وعلى كاتبِ هذا النَّوعِ منَ الأدبِ أن لا يكونَ دخيلاً على فنِّ الكتابةِ، وأن يكونَ على درايةٍ تامَّةٍ بما يُسمّى بسيكولوجيَّةِ الطِّفل، إذ ما قيمةُ أن نكتبَ للطِّفلِ ونحنُ بعيدونَ كلَّ البعدِ عن عالَمِهِ المُركَّبِ الجميل! وماذا يمكنُ أن نكتبَ لهُ إن لم نسبرْ أعماقَهُ ونقرأْ جيّداً العواملَ النَّفسيَّةَ الّتي تتحكَّمُ بسلوكِهِ، إضافةً إلى خيالِهِ الخصبِ، وألفِ سؤالٍ وسؤالٍ يدورُ في رأسهِ الصَّغيرِ ليعرفَ مَنْ هو، وأينَ هوَ من هذا الكونِ، وماذا كانَ، وماذا سيكون......
(2)
لقد رأيتُ ولا أزال أرى أنَّ قيمةَ النَّقدِ الأدبيِّ تكمنُ في البحثِ عن جماليَّةِ النَّصِّ في كُلِّ عملٍ أدبيٍّ، وأنَّ الإبداعَ في الأدبِ يؤَدّي إلى إبداعٍ في النَّقدِ حيثُ يعيدُ النَّصَّ إلى القارئِ بشكلهِ الأكمل.
رُبَّ مُعترِضٍ يقولُ: ولكنَّ الذّائقةَ تختلفُ ما بينَ ناقدٍ وآخر؟أقولُ: نَعَم، وهوَ المطلوبُ، فوُجُهاتُ النَّظرِ المختَلِفةِ تُسَجَّلُ لصالحِ العملِ المنقودِ، وتصلُ بالقارئِ إلى المُتعةِ الذِّهنيَّةِ/الهدفِ الرَّئيس في الأدبِ والنَّقدِ الأدبيّ.
أنا لا أُنكرُ أهميَّةَ النَّقدِ المَنهجيِّ/الأكاديميِّ في الأدبِ ولكنَّههُ يأتي بدراساتٍ مُثقلةٍ بالإشاراتِ والإلماعاتِ وإحالةِ القارئِ إلى مراجعَ أُخرى لِكُتَّابٍ آخرينَ، لتظلَّ مفتوحةً أمامَ الباحثينَ والدّارِسينَ، ومُقفلَةً أمامَ القارئِ العاديّ.
(3)
لم تَعُدِ الكتابةُ الأدبيَّةُ فنَّاً يأتي به الكاتبُ كيفَما اتَّفقَ، إنَّها عملٌ متواصلٌ في البحثِ والتَّنقيبِ في مصادرِ الثَّقافةِ والأدبِ، وهيَ اطِّلاعٌ واسعٌ على ما يدورُ حولَنا من غرابةٍ وغُربةٍ وإدهاشٍ في هذهِ الحياةِ، وما يختلجُ في النَّفسِ البشريَّةِ من حُزنٍ وفرحٍ، ومن شرٍّ وخيرٍ، ومن إلحادٍ وإيمانٍ، ومن تعقُّلٍ وجُنون....
في هذا الحقلِ الشَّائكِ أرى الكاتبَةَ ميسون أسدي تَعملُ جاهدةً على أن تجعلَ منَ الشَّوكةِ وردةً ومنَ الأرضِ البوارِ بساتينَ فُلٍّ وحِنطة. هل كانَ لها ذلك؟ نَعَم. وهيَ العاملةُ الاجتماعيَّةُ الجادَّةُ وقد عرفت كيفَ تُسخِّرُ خبرَتَها في عملها للكلِمة. وقد فعلت ذلكَ بإتقان.
(4)
تكتبُ ميسون أسدي قصَّتَها على سجيَّتِها دونَ التَّنازُلِ عن ضوابطَ تكونُ حدَّاً فاصلاً ما بينَ الكتابةِ العاديَّةِ وما بينَ القصِّ، بعيداً عن العباراتِ الشَّاعريَّةِ الَّتي أصبحتْ أسلوباً مقبولاً في القصَّةِ اليوم. كأنّي بالكاتِبَةِ تُقرِّرُ سلفاً أن تكونَ قريبَةً منَ القارئِ العاديِّ الّذي يَهمُّهُ الوضوحُ أوَّلاً، والتَّشويقُ ثانياً، والنِّهايةُ المُفاجئةُ ثالثاً. إذ ما قيمةُ القصَّةِ الّتي نتوقَّعُ نهايتَها! وما الفائدةُ من القصَّةِ المتاهةِ الّتي يقفُ القارئُ أمامَها حائراً مُتسائلاً! هذا التَّساؤلُ الّذي يراهُ البعضُ عنصراً هامّاً في القصَّةِ أراهُ أنا أكثرَ ما يُبعدُ القارئَ عنِ المُتعةِ الحقيقيَّةِ للقصِّ بَدْءاً بحكايةِ جدَّتي، وانتهاءً بقصصِ أنطوان تشيخوف ويوسف إدريس.
(5)
لا أرى أمراً أكثرَ قسوةً منَ المواعظِ الجافَّةِ، والضَّربِ على الضَّميرِ في أدبِ الأطفال. وقد نجحتْ الكاتبةُ بالإفلاتِ من هذينِ الشَّركين. هنا، أنا لا أدَّعي بأنَّني قد قرأْتُ كلَّ ما أنتجَهُ قلمُ الكاتبةِ، ولكنَّ العضوَ الواحدَ يظلُّ عضواً من كلٍّ في الجسدِ الواحد. ففي قصّةِ "نطنط نهار" تُعالجُ الكاتبةُ العصبيَّةَ العائليَّةَ/ القبليَّةَ، مُتَّكئةً على نصٍّ جُبرانيٍّ "الملك الحكيم" الّذي اتَّكأَ بدورهِ على عالمِ السِّحرِ والسَّحَرَةِ- وهذا ليسَ عيبَاً- وقد نجحتْ الكاتبةُ بإيصالِ الطِّفلِ القارئِ إلى مُبتغاها دونَ السُّقوطِ في فَجاجةِ الخطابةِ، بأنْ نقلَتْهُ من واقعِهِ إلى عوالمَ سحريَّةٍ ليستنتجَ في النِّهايةِ أنَّ الخصامَ العائليَّ خَطَأٌ فادحٌ، ولا بُدَّ من بدايّةٍ جديدَةٍ، معَ جيلٍ جديدٍ، لبناءِ مُجتمعٍ صالحٍ ما أشدَّ حاجتَنا اليه!!
(6)
ليسَ صُدفةً اختيارُ الكاتبةِ الحيَّةَ (الأفعى) لتكونَ موضوعاً شائقاً لِقصَّتِها "حسّان صديقُ الحيَّة" علماً أنَّ الحيَّةَ مَخوفَةٌ منَ الإنسان لكثرةِ ما رَسَبَ في الذّاكرةِ الشَّعبيَّةِ من قصصٍ تحكي عن مَكْرِها وعِظَمِ خَطَرِها. لكنَّ الكاتبَةَ استطاعَتْ بقليلِ جُهْدٍ إقناعَنا بأنَّ الحيَّةَ مخلوقٌ ليسَ هجوميَّاً، بل هي وديعَةٌ وبالإمكانِ كسْبُ ودِّها، ومُصادَقَتُها، تماماً كأيِّ حيوانٍ نألَفُهُ ويألفُنا. واضحٌ لنا أنَّ الكاتبةَ ترنو إلى هدفٍ سامٍ هو الرِّفقُ بالحيوان.
(7)
وبَعْد. . لعلَّ كلماتي القليلةَ هذهِ تكونُ نافذَةً صغيرَةً تُطِلُّ على عالمِ الكاتِبةِ القصصيِّ، ولِتكونَ فاتحةً لِشَهيَةِ نُقَّادِنا الأعزّاءِ الأجلاّءِ فيتناولوا أدبَ هذهِ الكاتِبةِ الجادَّةِ بعقلٍ راعٍ وبقلبٍ رحيم.