حيف أبي علي الحاتمي على المتنبي
حيف
أبي علي الحاتمي
على المتنبي
د. الجيلالي الغرابي
[email protected]
هو محمد بن الحسن بن المضفر الحاتمي، توفي عام ثمانية وثمانين
وثلاثمائة هجرية (388هـ).كان مبغضا لأهل العلم والمعرفة، قال عنه (طه أحمد
إبراهيم):"وآخرون كثيرون كأبي علي الحاتمي، وأبي الحسن بن لنكك البصري من
المتحاملين المتعصبين الذين لا يريدون إلا أن يتبعوا العثار، ويطفئوا النار،
ويهتكوا الأستار، ويقلموا الأظفار، ويشفوا نفوسهم مما بها من الإحن والأظغان."([1]) ومما
يشهد على ذلك أنه ألف رسالة باسم (الرسالة الحاتمية)، وأخرى تحت عنوان (الرسالة
الموضحة في ذكر سرقات أبي الطيب المتنبي وساقط شعره). سعى من ورائهما إلى تحديد
موقفه العدائي من أبي الطيب، وإلى التحامل عليه تملقا لشخصيتي (المهلبي) و(معز
الدولة)... قال مخاطبا أبا الطيب:"وقد أخطأت
أيضا في قولك:(من بحر البسيط) اِبْعَدْ بَعِدْتَ بَيَاضًا لا
بَيَاضَ لهُ ò
لأنْتَ أسْوَدُ فِي عَيْنِي مِنَ الظُّلَِم([2]) وقولك:(لأنت أسود) خطأ وإن كانوا قد
أنشدوا:(من بحر الرجز) جَاِريَّةٌ فِي رَمَضَانَ المَاضِي
ò
أبْيَضُ مِنْ أخْتِ بَنِي إبَاضِ تقطِّعُ الحَِديثَ بالإيمَاضِ وهذه شذوذ لا يرخص لمحدث فيها...
وكيف تقول يا أسود وهو أبيض؟ وكان وجه الكلام إذا أراد هذا، أن يقول:وأنت مع بياضك
أسود كأنك من سواد الظلم، ولو ذهب إلى ذلك، وأفصح عنه بعبارة مقبولة يقع بها
الإفهام، ويزول معها اللبس لكان الغرض صحيحا، لكنه أبهمه وأسره."([3]) لقد أجازت المدرسة الكوفية أن يقال
من البياض:(هو أبيض منه)، ومن السواد:(هو أسود منه)... وأبو الطيب المتنبي _ كما لا
يخفى على أحد من أهل الأدب_ كوفي المنشأ، ولد بمدينة الكوفة بالعراق، وتربى فيها،
وغذي بثقافتها، فكان من الطبَعي أن يأخذ بمذهب مدرستها في اللغة. ثم إن الحاتمي لم ينتبه إلى أن هذا
الكلام قد يحتمل وجوها يصح معها، ومعاني يستقيم بها، وهي أن كلمة (الظلم) تطلق على
الليالي الثلاث الأخيرة من الشهر. وعليه يكون معنى البيت:اِبتعد أيها الشيب، فأنت
بياض لا بياض له، ولا نور فيه، وأنت في حقيقتك أسود، وأنت في عيني من تلك الليالي
الثلاث الأخيرة من كل شهر. قال (الواحدي):"وسمعت العروضي يقول:أسود ههنا:واحد
السود، والظلم:الليالي الثلاث في آخر الشهر التي يقال لها ثلاث ظلم. يقول لبياض
شيبه أنت عندي واحد من تلك الليالي الظلم. على أن ابن جني قد قال ما يقارب هذا،
فقال:وقد يمكن أن يكون "لأنت أسود في عيني" كلاما تاما، ثم ابتدأ يصفه فقال:"من
الظلم"، كما تقول:"هو كريم من أحرار". وهذا يقارب ما ذكره العروضي."([4]) إذن، فالبيت صحيح سبكًا على نهج
الكوفيين الذين يجيزون صياغة اسم التفضيل صياغة مباشرة على وزن (أفعل من) مما يدل
على اللون، وصحيح معنىً إذا شطر الشطر الثاني جملتين اثنتين:_الجملة الأولى:(لأنت
أسود) _الجملة الثانية:(في عيني من الظلم)، والتقدير:(أنت في عيني من الظلم)... وقال الحاتمي:"ثم قلت:وأخطأت في قولك
مخاطبا كافورًا الإخشيدي:(من بحر الخفيف) يَفْضَحُ الشَّمْسَ كُلَّمَا ذَرَّتِ
الشَّمْ ò
سُ بشمسٍ مُنيرةٍ سَوْدَاءِ([5]) فكيف توصف الشمس وصبغها البياض
والضياء بالسواد؟ وما وجه استعارة الشمس للأسود إن كنت ذهبت في ذلك إلى الاستعارة؟"([6]) وليس ما ذهب إليه الحاتمي غرضَ
المتنبي، بل إنه يريد أن يشبه ممدوحه مع سواده بالشمس في شهرتها وسطوعها ونقائها،
وغيرها من الصفات التي تميزها. قال القاضي الجرجاني:"قال المحتج:إنه لم يجعله شمسا
في لونه فيستحيل عليه السواد، وللشعراء في التشبيه أغراض، فإذا شبهوا بالشمس في
موضع الوصف بالحسن أرادوا به البهاء والرونق والضياء، ونصوع اللون والتمام. وإذا
ذكروه في الوصف بالنباهة والشهرة أرادوا به عموم مطلعها وانتشار شعاعها، واشتراك
الخاص والعام في معرفتها وتعظيمها. وإذا قرنوه بالجلال والرفعة أرادوا به أنوارها
وارتفاع محلها. وإذا ذكروه في باب النفع والإرفاق قصدوا به تأثيرها في النشوء
والنماء، والتحليل والتصفية، ولكل واحد من هذه الوجوه باب مفرد، وطريق متميز، فقد
يكون المشبه بالشمس في العلو والنباهة، والنفع والجلالة أسود، وقد يكون منير
الفعال، كَمِد اللون، واضح الأخلاق، كاسف المنظر، فهذا غرض الرجل."([7]) وقال
)الواحدي(:"يريد
أنه في سواده مشرق، فهو بإشراقه في سواده يفضح الشمس، ويجوز أن يريد شهرته وأنه
أشهر من الشمس ذكرا، أو يريد نقاءه من العيوب، ويقال للمشهور منير وللنقي من العيوب
منير، ويدل على صحة ما ذكر البيت التالي."([8]) وقد أوضح المتنبي عن قصده في البيت
الموالي، إذ يقول: إنَّ فِي ثوْبكَ الذِي المَجْدُ فيهِ
ò
لَضِيَاءً يُزِْري بكلِّ ضياءِ([9]) فأنبأ أنه يقصد بإنارته نور المجد
وضياءه، وأن ذلك الضياء أتم من الضياء كله أجمع، وأنه يزري به، ويستهين به... ثم يضيف الحاتمي مؤاخذا أبا الطيب
على بعض الألفاظ، فيقول:"قلت:وأخطأت أيضا في قولك:(من بحر البسيط) وَضَاقتِ الأرْضُ حَتَّى صَارَ
هَاِربُهُمْ ò إذَا
رَأى غَيْرَ شَيْءٍ َظنَّهُ رَجُلاَ([10]) أفتعلم مرئيا يتناوله النظر لا يقع
عليه اسم شيء؟"([11]) لا يقصد الشاعر غير شيء الذي يدل على
ما هو معدوم لا يرى، بل يريد غير شيء يعبأ به. بمعنى أنه لشدة خوفهم ووجلهم مما حل
بهم ضاقت عليهم الأرض بما وسعت ورحبت، فلم يجدوا مفرا ولا مهربا، وصار الهارب منهم
إذا رأى ما ليس شيئا، خاله إنسانا يطلبه، وهاته هي عادة الفار الجبان. هناك من الشعراء من جعل لا شيء عددا،
يقول (أبو تمام):(من بحر البسبط) أفِيَّ تنْظِمُ قوْلَ الزُّوِر
وَالفَنَدِ ò
وأنتَ أنْزَرُ مِنْ لا شَيْءَ فِي العَدَدِ([12]) فلماذا إذن يحظر على أبي الطيب أن
يجعله مرئيا؟! يعلق (محمد مندور) على هذا البيت
قائلا:"والبيت الثاني بيت قوي صادق معبر، وهل بلغ في تصوير الرعب الذي أخذ بقلب
الهارب من أن يرى "غير شيء رجلا"، وغير شيء هي فيما يظهر اللفظة التي نفرت الحاتمي،
وهذا غريب من رجل يعرف "أرسطو" معرفة حملته على أن يستخرج من أقوال الحكيم كل ما ظن
أن الشاعر قد أخذه عنه، ولكنها الرغبة في المغالطة والتجريح هي التي دفعته إلى أن
يستنكر تسمية الشبح بغير شيء. ولو صح نقد الحاتمي لوجب أن يحذف اللفظ "شبح" من
اللغة، فهو شيء يرى وهو غير شيء."([13]) وقال
الحاتمي:"قلت:أخبرني عن قولك:(من بحر الطويل) خَفِ اللهَ واسْتُرْ ذَا الجَمَالَ
ببُرْقٍُع ò فَإنْ
لُحْتَ حَاضَتْ فِي الخُدُوِر العَوَاتِقُ([14]) أهكذا
ينسب بالمحبين؟"([15])
هنا
تطالعنا ذاتيته بشكل واضح، لأن البيت مروي في الديوان بلفظة (ذابت) مكان (حاضت)([16])
التي هي موضع انتقاده. وهناك روايات أخر تذهب إلى
أنها كانت (حاضت)، فلما أوخذ عنها المتنبي غيَّرها بكلمة (ذابت)، ومع ذلك لم يغيرها
أبو علي لينال منه، وليجرح شعره. قال القاضي الجرجاني:"لما أنكر عليه حاضت غيره
فجعله ذابت."([17]) ومن
جهة أخرى، حتى وإن روي البيت بكلمة (حاضت)، فإنها لفظة صحيحة فصيحة لم تثر الخصوم
الآخرين، قال (الحسن بن وكيع):"ذكر هذا أبو العباس في غث كلامه، ولست أعتده غثا لأن
الجمال يمدح به الملوك، وحيض العواتق شهوة لما رأين من جماله، فالمعنى صحيح واللفظ
فصيح، فلم صار غثا؟"([18]).
وزعموا أن المرأة إذا قويت شهوتها واشتدت، سال دم حيضها... ثم قال الحاتمي:"وقلت:أخبرني عن
قولك:(من بحر الطويل) فَإنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ سَيْفًا
لِدَوْلةٍ ò
فَفِي الناس بُوقَاتٌ لَهَا َوُطبُولُ([19]) أهذا من صريح المدح أم هجينه؟"([20])
إنه من صريح المدح وجيده، لأن الشاعر
يريد أنه إذا كان ممدوحه سيفَ الدولة الذي يقاتل بنفسه عنها، ويذود بما أوتي عن
حياضها، فإن غيره من الملوك ما هم سوى أبواق وطبول، تجمع بها الجيوش لتدافع عنهم،
ولتحميهم... وهذا البيت "لا محل لتجريحه، على أن يفهم منه أن من عدا سيف الدولة من
أمراء ليسوا إلا بوقات وطبول، وهذا مدح فيه ما يفخر به الملوك، إذ المقابلة بين
السيف من جهة والبوقات النابحة والطبول الخاوية من جهة أخرى فيها ما يسمو بالسيف،
ويظهر فهاهة من دونه."([21]) ويستمر في انتقاده،
فيقول:"وقلت:أخبرني عن قولك في مرثية أم سيف الدولة: (من بحر الوافر) ولاَ مَنْ فِي جَنَازَتِهَا تِجَارٌ
ò
يَكونُ وَدَاعُهُمْ نَفْضَ النِّعَالِ([22]) أهكذا يؤبن مثلها؟ وقد كانت بلقيس
عصرها قدرا عظيما وملكا جسيما، وحديثا من مجدها وقديما."([23]) يقصد المتنبي أنها ليست من النسوة
السوقة، فيسير وراء جنازتها التجار والباعة، ثم ينفضون نعالهم بعد انصرافهم، لأنها
كانت ملكة سامية المكانة لديهم... ويقول أيضا:"ومن غث الكلام ومستكرهه
قوله:(من بحر الطويل) فَتىً ألْفُ جُزْءٍ رَأيُهُ فِي
زَمَانِهِ ò أقلُّ
جُزَيْءٍ بَعْضُهُ الرَّأيُ أجْمَعُ."([24])_([25]) ليست في البيت غثاثة، وليس فيه
استكراه، بل فيه تقديم وتأخير، وترتيبه:فتى رأيه في زمانه ألف جزء، وبعض أقل جزيء
الرأيُ أجمع. بمعنى أن هذا الفتى الممدوح (الذي هو علي بن أحمد الطائي) يقدر رأيه
في زمانه بألف جزء، وأن أقل جزء من هاته الأجزاء الألف يساوي جزء منه ما لدى الناس
من الرأي كله. يتضح أن أبا علي الحاتمي قد حاف على
أبي الطيب المتنبي حيفا كبيرا، وتحامل عليه تحاملا جليا، تقربا من ذوي الجاه
والنفوذ والسلطة، فأغار على شعره إغارة عنيفة هدفت إلى تجريده من كل فضل، وسلبه من
كل جهد. ومما يشهد على ذلك أنه تشاغل يوم المناظرة عن مجلس صاحبه (المهلبي) إلى أن
أرسل رسله في طلبه، فذهب ليخبره بمهاجمته المتنبي وتجريحه، وليتقاضى جزاء فعلته. لقد أثارت هاته الرسالة كثيرا من
الدارسين، فقال (مصطفى هدارة):"وليس من شك في تحيز الحاتمي الواضح في هذه الرسالة."([26]) وقال (محمود السمرة):"وفي هذا دلالة
على أنه نقد مبعثه الحقد، فهو بهذا بعيد عن الموضوعية."([27]) وقال (عبد العزيز الحناوي):"وما دامت
العداوة كانت قائمة بين الحاتمي الحاقد، والمدفوع سياسيا، وبين المتنبي، فلا نطمئن
كثيرا إلى نقد يصدر عنه ضد المتنبي، ولتشبعه بالحقد والحنق، حيث إن أحكامه حينئذ
ستكون بعيدة عن روح العلم، مجافية لحيدة النقد"([28])...
[1]_طه
أحمد إبراهيم:تاريخ النقد الأدبي... ص:150.
[2]_ديوان
أبي الطيب... المجلد الثاني، ص:392.
[3]_أبو
علي الحاتمي:الرسالة الموضحة... ص:86.
[4]_ديوان
أبي الطيب... المجلد الثاني، هامش ص:393.
[5]_المصدر
نفسه. المجلد الأول، ص:125.
[6]_أبو
علي الحاتمي:الرسالة الموضحة... ص:66.
[7]_القاضي
الجرجاني:الوساطة... ص:474.
[8]_ديوان
أبي الطيب... المجلد الأول، هامش ص:135.
[9]_المصدر
نفسه. المجلد الأول، ص:135.
[10]_ديوان
أبي الطيب... المجلد الثاني، ص:206.
[11]_أبو
علي الحاتمي:الرسالة الموضحة... ص:64.
[12]_ديوان
أبي تمام... المجلد الأول، ص:369.
[13]_محمد
مندور:النقد المنهجي... صص:193_194.
[14]_ديوان
أبي الطيب... المجلد الثاني، ص:64.
[15]_أبو
علي الحاتمي:الرسالة الموضحة... ص:13.
[16]_ديوان
أبي الطيب... المجلد الثاني، ص:64.
[17]_القاضي
الجرجاني:الوساطة... ص:90.
[18]_الحسن
بن وكيع:المنصف... ص:310.
[19]_ديوان
أبي الطيب... المجلد الثاني، ص:165.
[20]_أبو
علي الحاتمي:الرسالة الموضحة... صص:18_19.
[21]_محمد
مندور:النقد المنهجي... ص:193.
[22]_ديوان
أبي الطيب... المجلد الثاني، ص:108.
[23]_أبو
علي الحاتمي:الرسالة الموضحة... ص:21.
[24]_المصدر
نفسه... ص:37.
[25]_ديوان
أبي الطيب... المجلد الأول، ص:538.
[26]_مصطفى
هدارة:مشكلة السرقات... ص:183.
[27]_محمود
السمرة:القاضي الجرجاني الأديب الناقد. الطبعة الأولى، منشورات المكتب التجاري
للطباعة والتوزيع والنشر، بيروت_لبنان 1966م، ص:78.
[28]_عبد
العزيز الحناوي:دراسة حول السرقات... ص:63.