نظرية الثقافة: تحديدات ومفاهيم

نظرية الثقافة: تحديدات ومفاهيم

الأستاذة: صبرينة بوقفة

المركز الجامعي سوق أهراس

تختلف المجتمعات من حيث الثقافة التي تسودها ، أي بمعنى ما دامت الثقافة من صنع الإنسان فمن الطبيعي أنها تختلف من مجتمع إلى آخر لأنه من الواضح أن ما يفعله البشر ومايعتقدونه وما يعطونه قيمة يختلف من مجتمع إلى آخر ، وأن ما يعتقده فرد معين وما يفعله وأسلوب الاستجابة المختلفة للمتغيرات في بيئة ما يتوقف على الثقافة التي نشب في ظلها.

1  مفهوم الثقافة:

 حظيت الثقافة في الماضي باهتمام العلماء الذين توفروا على دراسة المجتمعات البدائية ،وهذه الظاهرة أصبحت موضوعا للعديد من العلوم الاجتماعية في مقدمتها: علم الأنثروبولوجيا نسبة للارتباط الوثيق بين الثقافة والإنسان أو الثقافة والمجتمع ككل، ومن المعتقد أن أول باحث حاول التأسيس لنظرية عامة للثقافة هو عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي ليسلي وايت (1900 -1975) مسميا نظريته هذه "علم الثقافة" ، وازدادت شعبية الباحث مع بداية ستينات القرن العشرين مع انبعاث «وجهة النظر التطورية في الأنثروبولوجيا الأمريكية»[1] ، ، كما تحدث آخرون عن نظرية الثقافة ومنهم: د.كابلان ومالينفسكي الذي أصدر كتابا حول النظرية العلمية للثقافة عام 1944.

وكلمة ثقافة مأخوذة من الفعل الثلاثي "ثقف" ومعاني هذا الفعل كثيرة ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

أ  الحذق والفطنة وسرعة أخذ العلم وفهمه، فيقال: ثقف الرجل ثقفا وثقافة أي صار حاذقا.

ب  تقويم المعوج من الأشياء ، وتثقيف الشيء تسويته ومنه المثاقفة وهو ماتسوى به الرماح.

وكلمة ثقافة مأخوذة من (culture) المشتقة من أصل لاتيني بمعنى: الفلاحة والزراعة.

أما اصطلاحا فقد عرف هنري لاوست الثقافة بقوله: «إن الثقافة هي مجموعة الأفكار والعادات الموروثة التي يتكون منها مبدأ خلقي لأمة ما ، ويؤمن أصحابها بصحتها، وتنشأ منها عقلية خاصة بتلك الأمة فتمتاز عن سواها»[2].

ولعل من أقدم التعريفات وأكثرها شيوعا حتى الآن تعريف ادوارد تايلور الذي قدمه في أواخر القرن 19 في كتابه: "الثقافة البدائية" حيث يقول: «كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع»[3].

وقد يكون التعريف الذي اختاره مالك بن نبي هو أقرب التعريفات: «مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته ، وتصبح لاشعوريا العلاقة التي تربط سلوه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه »[4].

2  أنواع الثقافة ومكوناتها:

أ  أنواع الثقافة:

يمتلك الأفراد ثقافات متعددة في المجتمع الواحد وفي المجتمعات المتباينة، فهم يؤمنون بأفكار متباينة ويستعملون أدوات بطريقة متباينة ، وصنفت الثقافة إلى صنفين رئيسيين هما:

 الثقافة المادية: وتشمل نتاج العمل الإنساني في ذلك المجتمع من مباني وإنشاءات وأشياء أخرى ملموسة يستعملها الفرد.

الثقافة اللامادية: وتشمل القيم والأفكار والاتجاهات والمعتقدات التي يؤمن بها الأفراد.

ب  مكونات الثقافة:

أ  الأفكار: هي النتائج المتحصل عليها من خلال معالجة الدماغ للبيانات المتحصل عليها من البيئة المحيطة.

ب  العادات: هي الطرق المعتادة التي يؤدي بها أبناء مجتمع معين الأشياء المختلفة.

ج  الأعراف: العرف ضد النكر، قال تعالى: «وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين»5.

والعرف هنا بمعنى: كل ما حسن في العقل فعله، أو الشرع ولم يكن منكرا ولا قبيحا عند العقلاء، أما اصطلاحا فالعرف: عبارة عن أشياء تعارف عليها الأفراد حتى أصبحت ملزمة داخل المجتمع.

د  اللغة: عبارة عن مجموعة من الرموز الكلامية المتفق عليها والتي يستخدمه الفرد لعرض التفاعل بينهم.

ه  القانون: يمثل القانون قيمة التنظيم الاجتماعي للسلوك الإنساني، حيث يحدد ما يجب على الفرد عمله وما يجب الامتناع عنه.

3  خصائص الثقافة:

أ  مكتسبة: الثقافة لا يرثها الإنسان كما يرث لون العينين أو البشرة ، وإنما يكتسبها بطرق مقصودة (بالتعلم) أو عرضية من الأفراد الذين يتفاعل معهم ويعيشون حوله منذ ولادته.

ب  انتقالية: الثقافة تراث اجتماعي يتعلمها الفرد بصفته عضو في جماعة معينة، فهي تنتقل من جيل إلى جيل ومن جماعة إلى أخرى.

ج  تكاملية: الثقافة ذات طابع تكاملي ، وهي مركبة حيث تتكون من عناصر وسمات مادية وفكرية تتجمع مع بعضها يقول كلاكهون: «فأسلوب حياة كل جماعة هو عبارة عن بناء وليس مجرد مجموعة عشوائية من أنماط الإعتقاد والسلوك (.....) فالثقافة نسق تقوم أجزاؤه على الاعتماد المتبادل فيما بينها».

د  واقعية: اعتبر كثير من العلماء الظاهرة الثقافية كالظواهر الاجتماعية ، وبالتالي فإنه ينبغي النظر إليها (كالأشياء) واقعية مستقلة لاتتعلق بوجود أفراد معينين.

ه  إنسانية: الثقافة ظاهرة تخص الإنسان فقط لأنها نتاج عقلي ، والإنسان يمتاز عن باقي المخلوقات بقدرته العقلية وإمكاناته الإبداعية، ولا يشارك في هذه الظاهرة  الثقافة  أي من المخلوقات الحية.

4  أهمية الثقافة:

أ   إن الثقافة بصفة عامة تساعد على التمييز بين فرد وآخر وبين جماعة وأخرى ،كما تمدهم بمجموعة من الأنماط السلوكية حيث يستطيع أفرادها أن يحققوا حاجاتهم من مأكل ومشرب وملبس وتناسل.

ب   تقدم الثقافة لأعضائها الوسائل المختلفة التي تهيئ لهم التفاعل داخل الجماعة ،مما يهيئ قدرا من الوحدة يمنعها من السقوط في أنواع الصراع المختلفة.

ج  تمد الفرد بالوسيلة للتنبؤ بجزء كبير من سلوك الفرد والجماعة.

د  إن الأسلوب الذي يسير عليه الأفراد في حياتهم إنما يعتمد على طبيعة الثقافة السائدة في المجتمع مع بعض الآثار التي تتركها العوامل الجغرافية والبيولوجية ، وهنا تبرز أهمية الثقافة كعنصر لا غنى عنه في الدراسات التي تهدف إلى التعرف على الحياة الاجتماعية للبشر وفهمها وتفسيرها.

ه  تحدد الثقافة الخرافات والأساطير والقوى الخفية التي يؤمن بها الأفراد.

خصائص النظرية الثقافية عند مالك بن نبي:

إن التطورات والتغيرات السريعة التي تجري في بقاع العالم قاطبة، تؤكد علينا جميعاً ضرورة القيام بمراجعة فكرية - ثقافية، نكتشف من خلالها أصولنا الفكرية ومفاهيمنا الأصلية كخطوة أولى في سبيل إعادة تأسيس لمفاهيمنا ومقولاتنا الفكرية والثقافية، لكي نشارك بفكر فاعل وثقافة ناهضة في تطورات العالم ومنعطفاته الحضارية .

وبما أن المسألة الثقافية تلخص تجربة الأمة والمجتمع، ووعيها بذاتها ومحيطها فهي تشكل نافذة أساسية يطل من خلالها المرء على العالم وأحداثه وتطوراته. وعن طريق الجهاد الفكري والمعرفي تتحول الثقافة في محيطنا الخاص والعام إلى ثقافة فاعلة وإيجابية، وتنقل الكتل البشرية المختلفة من موقع الصمت السلبي أو الاستهلاك الدائم، إلى موقع المشاركة الإيجابية في مسيرة المجتمع والوطن .

وتأسيساً على هذه الحقائق من الأهمية بمكان أن نتعرف على خصائص النظرية الثقافية عند ( مالك بن نبي ) لما تشكله هذه الخصائص من جوهر كتاباته وإنتاجه الثقافي وبنود وأركان مشروعه الثقافي - الفكري.. وهذه الخصائص هي كالآتي :

1- التجديد والإبداع:

وتتجلى هذه الخاصية، حينما يتحدث (بن نبي) عن شروط الحضارة ويقول: أن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية - مشكلة الإنسان - مشكلة التراب - مشكلة الوقت - فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات وإنما بأن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها.

وحتى تؤتي هذه العناصر ثمارها، لابد من وجود مركب الحضارة وذلك فإن مجموعها ناتج للإنسان والتراب والوقت، فلم لا يوجد هذا الناتج تلقائياً حيثما توفرت هذه العناصر الثلاثة؟

وإنه لعجب يزيله اقتباسنا للتعليل الكيماوي.. فالماء في الحقيقة نتاج للهيدروجين والأوكسجين وبرغم هذا لا يكونانه تلقائياً، فقد قالوا إن تركيب الماء يخضع لقانون معين يقضي تدخل (مركب) ما، بدونه لا تتم عملية تكون الماء.. وبالمثل لنا الحق في أن نقول: إن هناك ما يطلق عليه (مركب الحضارة) أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض، فكما يدل عليه التحليل التاريخي نجد أن هذا المركب موجود فعلاً، هو الفكرة الدينية التي رافقت دائما تركيب الحضارة خلال التاريخ .

ويوضح بن نبي هذه العناصر كالتالي :

الإنسان: إن المشاكل التي تحيط بالإنسان تختلف باختلاف بيئته.. فالإنسانية لا تعاني مشكلة واحدة بل مشاكل متنوعة تبعاً لتنوع مراحل التاريخ.. فلا يمكن لنا أن نقرن في الوقت الحاضر (بتعبير مالك بن نبي) بين رجل أوروبا المستعمر ورجل العالم الإسلامي القابل للاستعمار، لأن كليهما في طور تاريخي خاص به.. فالأمر في الحالة الأولى يتعلق بحاجات غير مشبعة وديناميكية، مضطربة، على حين يتعلق في الأخرى بعادات راكدة وضعت للفرد في حالة توازن خامد، وخمول تام، في الوقت الذي خطت فيه الحضارة خطوات العماليق. وعليه فالأمر متصل بمشكلتين مختلفتين في أساسهما، فهنالك هم في حاجة إلى مؤسسات بينما نحتاج هنا إلى رجال، فمن الرجل تنبع المشكلة الإسلامية بأكملها. ومشكلة الإنسان في أساسها لا تعالج إلا بتوجيه ثقافته، وتصفية العادات والتقاليد الميتة في نفسيته وتنمية روح الإبداع لديه.

التراب: وهو أحد العناصر الثلاثة التي تكّون الحضارة فإذا ما توفر المركب الديني لتركيب هذه العناصر فإننا نرى التراب في بلاد الإسلام جديراً ببحثه كعامل من عوامل الحضارة وحينما نتكلم عن التراب لا نبحث في خصائصه وطبيعته ولكننا نتكلم عنه من حيث قيمته الاجتماعية وهذه القيمة الاجتماعية للتراب مستمدة من قيمة مالكيه، فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة وحضارتها متقدمة يكون التراب عالي القيمة وحيث تكون الأمة متخلفة يكون التراب على قدرها من الانحطاط .

الوقت: بتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والإنتاج وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد وهو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط في تكوين المعاني والأشياء فالحياة والتاريخ الخاضعان للتوقيت كان ولا يزال يفوتنا قطارهما، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا ويشير عمر كامل مسقاوي إلى الإبداع الثقافي عند بن نبي بقوله: فقد جاءت أفكار بن نبي حول مفهوم الثقافة برؤية جديدة لم تألفها المصطلحات المستوردة التي تمت صياغتها في إطار الفكر الليبرالي أو في أطار الفكر الاشتراكي التقدمي لذا شعر أستاذنا مالك بن نبي بالحاجة إلى جميع أفكاره حول الثقافة وعرضها من جديد، في صورة تحليلية تحفز الفكر العربي والإسلامي، وتحركه باتجاه اكتشاف الحقائق والمصطلحات بوسائل خاصة ووفق المعطيات النابعة من تجربته.

وتتجلى قيمة الإبداع من الإنتاج الفكري لدى مالك بن نبي حينما يقول: "إن التاريخ لا يصنع بالاندفاع في دروب سبق السير فيها، وإنما بفتح دروب جديدة.. ولا يتحقق ذلك إلا بأفكار صادقة تتجاوب مع جميع المشاكل ذات الطابع الأخلاقي وبأفكار فعاله لمواجهة مشكلات النماء في مجتمع يريد إعادة بناء نفسه".

والتجديد الثقافي الذي ينشده مالك بن نبي في العالم العربي والإسلامي يتحقق بطريقتين:

1- سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي.

2- إيجابية تصلنا بالحياة الكريمة.

ويضرب (بن نبي) على ذلك بمثال من واقع الثقافة الغربية إذ يقول "ولعل أثر هذه النظرية قد لوحظ في الثقافة الغربية في عهد نهضتنا حيث كان توما الاكويني - ولو كان عن غير قصد منه لتكون الأساس الفكري للحضارة الغربية ولم تكن ثورته ضد ابن رشد وضد القديس أوغسطين إلا مظهرا للتجديد السلبي حتى يستطيع تصفية ثقافته مما كان يراه فكرة إسلامية أو ميراثا ميتافيزيقيا للكنيسة البيزنطية. واتى بعده (ديكارت) بالتجديد الإيجابي الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي الطريق الذي بني على المنهج التجريبي. والذي هو في الواقع السبب المباشر بتقدم الحضارة الحديثة تقدمها المادي .

2- تكامل الأصالة والمعاصرة:

إذ من الأخطاء العميقة التي وقع فيها الكثير من الكتاب والمثقفين، أن عطاءهم الفكري والثقافي، انطلق إما من موقع تراثي لا يرى في العلم الحديث ومكتسبات العصر ما يستحق الذكر والاستفادة منه .أومن مواقع القطيعة مع الثقافة الذاتية، والوقوف على أرضية الثقافة الغربية ومفاهيمها.. وكلا الموقعين قد ضّيعا المسألة الجوهرية في هذا المضمار: التراث المنغلق.. ضيع مكاسب العصر وإنجازاته، والمغترب المتعالي قد ضيع تاريخه وقيم مجتمعه الجوهرية.. وانطلاقا من منطق الإلغاء والنفي كل منهما للآخر فقد" تحول النقاش إلى تبادل للاتهامات، وأصبحت براهين الطرفين وحججهما واحدة تقريباً في الشكل والمضمون ومنهج الحوار، رغم اختلاف الحقب وتبدل السياق التاريخي والاجتماعي والفكري فقد أخذ أصحاب الحداثة على خصومهم تخلف تفكيرهم ومعاداتهم للتقدم وضلوعهم نتيجة ذلك موضوعياً مع القوى التي تريد للمجتمع العربي أن يبقى في حالة الانحطاط التي هو فيها..

وما لبث هذا الاتهام أن تحول إلى اتهام بالتآمر مع الغرب ومشاركته في إضعاف المقاومة العربية. ودرج الأصوليون بالمقابل من إسلاميين خالصين أو إسلاميين عروبيين على اعتبار فكر الحداثة والتحديث امتداد لفكر الغرب ووصموهم بالنقل عن المستشرقين والضلوع معهم في التآمر على الثقافة العربية، ونظروا إليهم على أنهم طابور خامس يساهم في تأكيد الغزو الروحي والسياسي والاقتصادي للغرب وتوسيعه". وظل عطاء الكثير من الكتاب والمفكرين حبيس هذه المساجلات والاستقطابات المتبادلة بين التيارين.. بينما العطاء الثقافي الذي أوجده بن نبي قد تميز بتكامل كلا العنصرين.. إذ لا يمكن المقايضة بين التاريخ والحاضر.. وتتضح مسألة تكامل الأصالة والمعاصرة في فكر مالك بن نبي من خلال فهمه لمفهوم الحضارة، باعتبارها قدرات تنبثق من إمكانات الداخل العربي والإسلامي، وليست هي مجموع المظاهر الاستهلاكية للحضارة.. إذ يقول: "الحضارة ليست شيئاً يأتي به سائح في حقيبته لبلد مختلف كما يأتي بائع الملبوسات البالية.. بل إن ابن المستعمرات هو الذي يذهب إلى الحضارة، إلى مصادرها البعيدة.. وقبل كل شيء إلى مصادرها الأقرب إلى أصالته، وليس الحضارة في نية المستعمر ولو صحت هذه النية، بل هي نتيجة الجهد الذي يبذله كل يوم الشعب الذي يريد التحضر" .. وهو بهذا يرد على أولئك الذين يعتقدون أن محاكاة الغرب وتقليده في كل شيء هو سبيل التحضر وامتلاك ناصية الحضارة وتتضح هذه المسألة جلياً أيضا في النتاج الثقافي ل (بن نبي) حينما يقول في كتابه شروط النهضة: لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج مغفلا مكان أمته ومركزها.. بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره وعواطفه وأقواله وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته، أما أن يستورد حلولا من الشرق أو الغرب، فإن ذلك تضييعاً للجهد ومضاعفة للداء.. إذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار وعلاج أي مشكلة يرتبط بعوامل زمنية نفسية ناتجة عن فكرة معينة تؤرخ ميلادها عمليات التطور الاجتماعي، في حدود الدورة التي ندرسها فالفرق شاسع بين مشاكل ندرسها في إطار الدورة الزمنية الغربية، ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية.

 ومجال المجتمع ليس كمجال الميكانيكا، وهو لا يرتضي كل الاستعارات، لأن أي حل ذا طابع اجتماعي يشتمل تقريباً ودائما على عناصر لا توزن.. ولا يمكن تعريفها ولا يمكن أن تدخل في صيغة التعريف، على حين تعد ضمنا جزءا منه لا يستغني عنه، عندما تطبق في ظروف عادية أي في ظروف البلاد التي نستورد منها وإذن فلكي نواجه بطريقة فنية أية مشكلة اجتماعية، ينبغي ألا يقتصر عملنا على اقتراض الحلول التي تأكدت صحتها خارج بلادنا إذ أن الصيغة المقتبسة صحيحة بلا أدنى شك ولكن في إطارها الاجتماعي في محيطها الذي تحققت فيه، نفحة الروح التي تخيلتها .

3- المنهجية والفاعلية:

وهي عبارة عن القدرة الفذة التي تميز بها مالك بن نبي في إبراز مشكلة العالم المتخلف باعتباره قضية حضارة أولا وقبل كل شيء.. ويكشف لنا (بن نبي) عن منهجيته الفذة حين حديثه عن الدورة الخالدة إذ يقول: "إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق بفكرته إلى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها، وما الحضارات المعاصرة، والحضارات الضاربة في ظلام الماضي والحضارات المستقبلية إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر القرون إلى نهاية الزمن". والمنهجية في فكر بن نبي لا تعني الجمود والترهل على المستوى الفكري والعملي، وإنما أسند بن نبي فكره المنهجي بفعالية وديناميكية تتصف بها معالجاته لشؤون الثقافة والحضارة.. إذ يقول: فالفكرة من حيث كونها فكرة ليست مصدراً للثقافة أعني عنصراً صالحاً لتحديد سلوك ونمط معين من أنماط الحياة، فإن فاعليتها ذات علاقة وظيفية بطبيعة علاقاتها بمجموع الشروط النفسية الزمنية التي ينطبع بها مستوى قد يتغير بطريقتين: فهو عندما يرتفع تعرض له في الطريق أفكار ليست من بين القوى الجوهرية التي نتجت عنها الحركة التاريخية فإذا بهذه الأفكار تتقادم ثم تختفي ..ففكرة حجر الفلاسفة التي كانت من أكبر دوافع الفكر العلمي خلال العصر الوسيط، هذه الفكرة قد ماتت منذ أعلن (لافوازييه) نتائج أبحاثه الكيميائية.. وهو عندما يهبط تنقطع من منابع خلقية وعقلية صدرت عنها فتكسب هذه الأفكار وجودا صناعيا غير تاريخي وبذلك تفقد كل معنى اجتماعي". ولكي يكون عطاء الثقافة فعالاً ومستديما، لابد من أن نوثق الصلة الضرورية بين الفرد وعالم الأفكار وعالم الأشياء وعالم العناصر والظواهر الطبيعية .

إن توثيق صلة عالم الأشخاص بهذه العوالم هو الكفيل بخلق واقع اجتماعي جديد. . من خلال هذه الخصائص الثقافية نجد أن المشروع الفكري ل (مالك بن نبي) (1905- 1973م) اتجه إلى المشكلة الأصلية والأساسية في العالم العربي والإسلامي.. ولهذا فقد عاشت فكرة الحضارة في عقله ووجدانه وشغلت تفكيره في كل كتاباته، إلى درجة نستطيع أن نقول معها أن الفكر الإسلامي المعاصر لم يشهد تقريباً مفكرا شغلته قضية الحضارة مثل (مالك بن نبي)، الذي يعتبر شخصية فكرية خصبة جديرة بالدراسة، وهو المفكر الذي اهتم بالجانب الحضاري وفلسفة التاريخ والاجتماع وشغلته مشكلات أمته فعالجها بروح موضوعية" .

فمشكلة الحضارة هي مشكلة العالم العربي والإسلامي الجوهرية ،ولذلك اهتم بن نبي بها وركز جهوده الفكرية والنظرية في سبيل بلورة الرأي، واقتراح الحلول لتجاوز هذه المشكلة الحضارية. ويشير إلى هذه المسألة مالك بن نبي نفسه بقوله: أعتقد أن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن ، هي مشكلة الحضارة وكيفية إيجاد الحلول الواقعية لها، وإزالة التناقض بين النجاح المادي والتخلف المعنوي، أعني تخلف القيم أو إهمالها، ولقد شعرت منذ فترة طويلة وعلى وجه التحديد منذ وصولي إلى أوروبا لتلقي العلم عام ( 1930م) أن المجتمعات المعاصرة بالغة التعقيد ومتعددة الأنواع .

ويتجه عطاء بن نبي الثقافي والفكري نحو إدخال العالم العربي والإسلامي في دورة حضارية جديدة وإعادة الشعوب العربية والإسلامية إلى حلبة التاريخ.

               

[1]  الاتجاه التطوري في الأنثروبولوجيا: يرى أصحاب هذا الاتجاه أنه لايمكن فهم العقل الإنساني إلا من خلال ربطه بالعقل التاريخي، أي أن تاريخ الإنسانية وتاريخ الثقافة يمثل خطا متصاعدا من العادات والعقائد والأفكار ، وأن البشرية مرت بمراحل ثقافية من الأشكال البسيطة إلى المعقدة إلى الأكثر تعقيدا.

[2]  -  مجموعة من الكتاب: نظرية الثقافة ، ترجمة: علي سيد الصاوي، سلسلة عالم المعرفة،يوليو 1997، ص9.

[3]  -  المرجع نفسه: ص 10.

[4]  -  مفهوم الثقافة ، موقع أنتروبوس ،. w.w.w

5 -  سورة الأعراف: آية 199.