مفاهيم نقدية

مفاهيم نقدية

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

هناك تقسيمات فنية بين عدد من المصطلحات : كالتاريخ ، والترجمة والمذكرات والذكريات : فالتاريخ مفهومه أعم هذه التعريفات ؛ لأنه يتسع للحديث عن السلم والحرب ، والحضارات والنكسات ، ... الخ .

وقد عرف ابن خلدون التاريخ والغاية التي يحققها بقوله " هو فن عزيز المذهب ، جم الفوائد ، شريف الغاية ، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم وأخلاقهم ، والأنبياء في سيرهم ، والملوك في دولهم ، وسياستهم ، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا .

ويتفق " راوس "  ــ في كتابه  "التاريخ فائدته وأهميته " ــ مع ابن خلدون في الفائدة المنشودة من دراسة التاريخ .

أما التراجم فهي نوعان :

الأول : تراجم ذاتية : وتعني أن يؤرخ الكاتب لنفسه بقلمه ، وقد تكون في جزء واحد أو أجزاء متعددة ، كما نرى في كتب العقاد : كتاب أنا ، وكتاب  حياة قلم ، وكتاب في عالم السدود  والقيود ، وبعض النقاد يدخل في هذه التراجم الذاتية كتابه " سارة " ، واعتبرها ترجمة لشخصيته في جانبها العاطفي . ومن أشهر التراجم الذاتية مذكراتي في نصف قرن لأحمد شفيق  .

والثاني : تراجم غيرية : وتعني كتابة حياة شخصية غير شخصية كاتبها . والعقاد هو أشهر كتاب التراجم في العصر الحديث ، وتأتي في صورة مقالات ، ولكن أشهر منها ما جاء في كتب كاملة مثل : ابن الرومي ، وجميل بثينة ، وهتلر في الميزان ، وفرانسيس باكون  ، والشيخ الرئيس ابن سينا ، وأبو الشهداء الحسين بن علي ، وداعي السماء بلال بن رباح ، وأشهر تراجمه العبقريات : عبقرية المسيح ، وعبقرية محمد ، وعبقرية عمر ، ... الخ .

وللعقاد منهج عرف به في معالجة هذه الشخصيات هو المنهج النفسي التصويري ، الذي يهتم بملامح الشخصية النفسية والروحية أكثر من اهتمامه بسرد الوقائع .

*********

وهناك فروق بين النوعين من أهمها :

1-     أن الترجمة الذاتية نقل مباشر ، أما الترجمة الغيرية فإنها نقل عن طريق الشواهد والشهادات والوثائق .

2-     وكاتب الترجمة الغيرية موضوعي ، يلمح بسرعة ، ويفهم بإحكام ، ويلمح الحقائق ، ويحكم عليها ، ويمزجها مزجا متعادلا منسجما ، ويصفها بأسلوبه . أما كاتب الترجمة الذاتية فإنه ذاتي قبل كل شيء ، ينظر إلى نفسه ، ويسلط أضواء النقل ودقة الملاحظة على شخصيته . 

3-      وكاتب الترجمة الغيرية يقف موقف الشاهد لا القاضي . أما كاتب الترجمة الذاتية فإنه يجمع بين صنفين .

4-     والسيرة الذاتية تنبع من الداخل متجهة نحو الخارج ، على عكس الاتجاه الذي تمشي فيه الترجمة الغيرية . ونجاح المترجم الذاتي يقاس بنسبة الذاتية فيما كتب ، أما نجاح من يكتب ترجمة غيره فيقاس بمقدار تجرده وغيريته .

والحق أن أهم هذه الفوارق جميعا يكاد ينحصر في الموضوع أو المضمون : فإذا كان موضوع الترجمة هو كاتبها نفسه فهي ترجمة ذاتية ، بحيث يكون الكاتب هو نقطة الارتكاز التي تدور حولها الوقائع والأحداث ، حتى ولو كادت هذه الأحداث ــ لقوتها وتفوقها ــ تحجب شخصية الكاتب .

أما إذا كان المنطلق شخصية أخرى فهي ترجمة غيرية ، ولو كان للكاتب نفسه ، وللأحداث التي تتعلق به نصيب في هذه الترجمة ، وغالبا ما يكون العنوان الذي يتصدر الترجمة دليلا حاسما ينم على طبيعتها ونوعها .

ولا يدخل في هذه الفوارق أسلوب التعبير عن الترجمة الذاتية بضمير المتكلم وعن الترجمة الغيرية بضمير الغائب ، فهو ــ وإن كان فارقا غالبا ــ غير ملتَزَم تماما في التراجم الذاتية الرواءية بخاصة ، كما نرى في " الأيام " لطه حسين ،  و" عودة الروح " لتوفيق الحكيم ، و " سارة " للعقاد ، فالأداء فيها كلها بضمير الغائب ، حتى يخيل لمن لا يملك فكرة سابقة عن المؤلف أنه لا مكان له في هذه التراجم.

 *********

والنوعان الذاتية والغيرية أقرب ما يكونان إلى " المذكرات " ، فالكاتب يملك وثائق حضور أحداثها أو أغلبها .

 أما الذكريات فبطلها الحقيقي " الاجترار العقلي "، أي الاعتماد على الذاكرة في استعداة وقائعها بعد أن فني وجودها من مسرح الواقع . ونشير إلى أن الفارق بينهما ــ كما أشرنا من قبل ــ لا يعدم بعض ملامح التشابه والالتقاء .

وبعد كل ما ذكرنا في الصفحات الماضية ، وفي الحلقات السابقة من الذكريات نرى من حق القارئ علينا أن يحاسبنا على ما خرجنا به ، وما يخرج به القارئ مما ذكرنا .  ونقدم الإجابة في إيجاز شديد :

1-     استطاعت الحلقات أن تقدم ـــ فيما يمكن أن يكون حسما ـــ  الفرق بين التاريخ وأنواع الترجمة ، والفارق أو الفروق بين الترجمة الذاتية والترجمة الغيرية. وهذا يدرب القارئ ــ بل يعلمه دقة البحث ، واستخراج الأحكام والفصل بينها .

2-     واستطاعت أن تعلم القارئ ضرورة الاستقراء الكامل لجزئيات الموضوع الذي يعالجه أيا كان نوعه ، حتى يخلص إلى حكم سديد .

3-     واستطاعت أن تعلم القارئ ألا يبهر بشهرة المكتوب والكاتب ، بل يجعل رائده البحث عن الحقيقة لذاتها ، بصرف النظر عن مكانة شخصية الكاتب في عالم التأليف والمؤلفين .

4-     وتعلمه أن يلتزم الحياد ، ويتنزه عن التعصب ، ويعلو على التطرف والشطط .

*********

وليست هذه هي كل  الدروس التي يخرج بها القارئ مما قرأ ، فقد يكون أقدر منا على تبين ما لم نتبينه ، أو ما غاب عن ذهننا ، وسهونا عنه ، وجل من لا يسهو. وكل أولئك اجتهاد بشري إذا أصاب فلصاحبه أجران . وإذا أخطأ فلصاحبه أجر واحد. وندعو الله أن نكون من أهل الصواب " ( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)  . آل عمران